مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؟
( قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ )
تأملت وأنا أقرأ هذه الآية في هذا السؤال الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأله المعاندين الكافرين
( مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) ؟
مَن يحرسكم ؟
مَن يحفظكم ؟
من يرعاكم ؟
مَن يفعل بكم ذلك من دون الرحمن ؟
وتُرك الجواب للعِلم به
كما في قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى )
الجواب : لكان هذا القرآن .
لا أحد يملك الأمن ويهبه سوى الله عز وجل
ولا يهب الله عز وجل الأمن بمفهومه العام والشامل إلا للمؤمنين به
ولذا قال جل جلاله :
( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
ولما نزلت : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم ) شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) . رواه البخاري ومسلم .
وقد وعد المؤمنين بالأمان فقال : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )
فهذا أمن المؤمنين
الأمن النفسي
والأمن الاجتماعي
ولا يتم الأمن إلا بهذين النوعين
فالأمن الاجتماعي مطلب للجميع ، وقد يتحقق للمسلم والكافر
إلا أن الأمن النفسي لا يتحقق إلا للمؤمنين برب العالمين
فليس الأمن أن تأكل أو تنام وأنت قرير العين
بل أن تنام وأنت لا تخاف إلا الله عز وجل
وأن تكون مطمئن النفس هادئ البال مرتاح الضمير على يومك وغدِك
مطمئن على مستقبلك
واثق أن رزقك لك
وأنه قُسم وأنت في بطن أمك
وأن المَلَك أُمِر بكتابة أربع كلمات ( عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ) وذلك قبل أن تُنفخ فيك الروح
وأن تعلم علم يقين أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك
وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك
وأن هذه الدنيا برمّتها لو ذهبت منك فإنك على يقين من عدالة الجزاء ، وموافاة الحساب
وأن رب العزة سبحانه سوف يضع موازين العدل والحق فيوزن فيها مثاقيل الذرّ
( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )
كل هذا مما يتحقق به الأمن الشامل
الأمن الدنيوي بنوعيه ( النفسي والاجتماعي )
والأمن الأخروي
ولذا قال رب العزة سبحانه وتعالى : ( أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟
وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل وعلا قال : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين ؛ إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة . رواه ابن حبان .
وأما المؤمنون بالله جل جلاله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )
فلا يحزنون على هذه الدنيا ، ولا يحزنون عند مفارقتها
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )
قال مجاهد : ( أَلا تَخَافُوا ) مما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة ( وَلا تَحْزَنُوا ) على ما خلفتم من أمر دنياكم من ولد وأهل ودَين مما استخلفكم في ذلك كله . اهـ .
ولا هم يحزنون في الآخرة بل لا يسمعون ما يُزعجهم
( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )
لا يسمعون من التّحايا إلا ما يسرّهم
( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا )
ذلك أنهم استقاموا على الطريق المستقيم في الحياة الدنيا
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )
تحقق لهم الأمن الأخروي الذي لا يعدله شيء
مع ما تحقق لهم من الأمن الدنيوي بقدر ما حققوا من إيمان .
فبقدر ما يُحقق الأيمان يكون الأمن في الأوطان
ولا ريب أن بلاد الكفّار اليوم تشكو من ضعف الأمن
فليس مظهر الأمن فيها أن لا تُقطع يدك لأجل ما تلبس فيها من ساعة !
ولكن الأمن بمفهومه الشامل العام لجميع مناحي الحياة
ولا زلت أذكر أحد المسلمين المغتربين في بلد أوربي وهو يقول : السير ليلة الأحد مُجازفة !
سألته : لماذا ؟
قال : كثيرون هم الذين يقودون سياراتهم وهم في حال سُكر !
ومسلم تزوّج بامرأة أوربية تستدعيه سُلطات الأمن بين حين وآخر ليُكرر له السؤال :
لماذا أسلمت زوجتك ؟!
وهل قمت بممارسة أي نوع من الضغوط عليها ؟
ويُختم السؤال في كل مرّة : لماذا لا تريد اندماج المسلمين بالنصارى ؟!!
هذا في ظل ما يعتبرونه حُريات شخصية
وحرية اختيار الدّين
تلك المبادئ التي يتشدّقون بها من غير رصيد حقيقي !!
أحدهم سأل مجموعة من الجنود الأمريكان : ما أكثر شيء لفت أنظاركم في بلادنا ؟
قالوا : الأمن !
قال : هل يوجد مثله في بلدكم ؟!
قالوا : لا !
ومِن الحق ما شهدت به الأعداء !!
إن معدلات الجريمة في بلادهم بازدياد مستمر
بل من الخطورة بمكان أن يترجّل سائق السيارة من سيارته عندما يوقفه رجال الأمن !
وسألت غير واحد ممن كان وقع فترة في شِراك المخدِّرات عما كان يجده سابقا ، فكانوا جميعا يقولون : نشعر بالخوف !
سألت : من أي شيء ؟
قالوا : لا نعلم !
إذا لم يكن لديهم أمن نفسي ، وإن أمِنوا في أوطانهم !
فيا رب آمِنّـا في أوطاننا
ويا رب نسألك الأمن والإيمان والعفو عما سلف وكان .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم