مَنْ هذا الطفل الذي وقفت لأجله الجموع ؟؟
في المدينة النبوية – على ساكنها أفضل الصلاة والسلام – وبعد أن فرغنا من فريضة من فرائض الله .
ومرّة أخرى في الحـرم المكي ، حيث البيت العتيق ، والمسجد الحرام
ودَعْنِي أقِف معك قليلا قبل أن الدخول إلى صُلب الموضوع لكي تتخيّل معي حقيقة الموقف
إن أيّ عظيم من عظماء الدنيا
وأي رئيس من الرؤساء
مهما أُوتُوا من قوة وتأثير وشعبية
وعلى أي درجة من الجبروت كانوا
لا يُمكن أن تقف لهم تلك الجموع كما وقَفَتْ لذلك الطفل
ربما وَقَف لهم وقام لأجلهم مَن يخافهم أو يرجوهم
لكن ذلك الطفل وقف له الجميع
وقف له الصغير والكبير والذكر والأنثى
فأيّ سِـرّ كان فيه ؟؟
وأي تأثير كان له ؟؟
لم يكن له تأثير … بل لم يكن به حَراك
ولكن بمجرّد أن أعلن المنادي قدومه وقف الجميع
أعلن المؤذن قدومه قائلاً :
الصلاة على الطفل يرحمكم الله
فَوَقَفْتُ مع مَنْ وَقَـف
لقد وقَـف للصلاة عليه كلّ مَن كان في الحـَـرَم
كبّروا عليه أربعـا ثم سلموا عن إيمانهم ثم انصرفوا
فَوَقَفـتُ متأملاً قيام تلك الجموع
فهل أدركتم سـرّ القيام
إنه سـرّ التكريم
إنه دين الإسـلام
الذي كـرّم الإنسان حيّا وميّتا ، فلولا الإسـلام لما كان ذلك التكريم
ولكانت جيفة الميت كَجِيفة سائر البهائم ! إنما تُدفن لكي لا تُنتِن بالمكان ، ولا تُؤذي الناس
فلْتأتِ البشرية اليوم جمعاء بتكريم كتكريم الإسلام للإنسان
ما أكرمك أيها المسلم على الله
عندها تذكّرت كلاما نفيساً لابن القيم – رحمه الله –
قال – رحمه الله – :
فالدنيا قَرْية ، والمؤمن رئيسها ، والكلّ مشغول به ساع في مصالحه ، والكُلّ قد أُقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون لـه ، والملائكة الموكّلون به يحفظونه ، والموكّلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه ، والأفلاك مُسَخّرَة مُنقادة دائرة بما فيه مصالحه ، والشمس والقمر والنجوم مُسَخّرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته وإصلاح رواتب أقواته ، والعالم الجويّ مسَخّر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما أُودع فيه ، والعالم السُّفلي كله مُسخّر له مخلوق لمصالحه : أرضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه .
وقال رحمه الله عن الإنسان :
طَرَدَ إبليس عن سَمَائه ، وأخْرَجَه مِن جَنّته ، وأبْعَده مِن قُرْبه ، إذْ لم يَسْجد لك وأنت في صُلْب أبِيك آدم ، لِكَرَامَتك عليه ، فَعَادَاه وأبْعَده ، ثم وَالَيْت عَدَوّه ، ومِلْت إليه وصَالَحته ، وتَتَظَلّم مع ذلك ، وتَشْتَكِي الطّرْد والإبعاد .
انتهى كلامه – رحمه الله – .
فما أكرمك على الله إذا حَقّقتَ الإيمان
وما أرخص الإنسان إذا خالف شرع الملك الديّان
رخُصَت يد الإنسان يوم سَرَقَت
ورخُص دمه يوم قَتَل وسَفَك
ورخُص ظهره يوم قَذَف بلا بَيّنة
ولذا لما اعترض الشاعر العاري أبو العلاء المَعرّي على قطع اليد فقال :
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت **** ما بالها قطعت في ربع دينار ؟
أجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله :
عـزّ الأمانة أغلاها ، وأرخصها *** ذل الخيانة ؛ فافْهـم حِكمـة الباري
ولما سُئل ابن الجوزي عن ذلك قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خَانَتْ هَـانَتْ .
فعــلاً :
بالدِّين يسمو المـرء للعلياء
وبغيره ينحط إلى أسفل سافِلين
فهذه دعوة للتأمل في مكانة المسلم في الإسلام
ولو كان طفلا لا يَعقل ، أو كان سِقطا ميّتا قد نُفخت فيه الرّوح .
وإنما ذكرت الطفل لأنه أبلغ في تصوير المقصود ، وإن كانت كل جنازة مسلم يُوقف لها مِن أجل الصلاة عليها .
وسبق :
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم