ما الذي رفـع قَـدرهـم ؟
أولئك أقوام لا قيمة لهم في موازين الجاهلية
حتى كان أحد صناديد الجاهلية يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إن سرّك أن نتبعك فاطرد عنك فلانا وفلانا ، ناسا من ضعفاء المسلمين .
فجاء الأمر من فوق سبع سماوات : ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
كان هذا في مكة قبل الهجرة
وما زاد بعد ذلك إلا شِـــدّة
قال ابن القيم رحمه الله :
وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يُجرّ في الرمضاء على جمر الفتنة ، فنشر بَـزّاً طُوي عن القوم من يوم قوله : أحد أحد ، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية ، فاقبلوا يؤمون الصوت ، فدخلوا في دين الله أفواجا . اهـ .
إنني سوف أتحدّث عن رجال أفذاذ الواحد منهم بألف
وواحد كالألْفِ إن أمْر عَنَى
وربما كانوا رجالاً لا قيمة لهم في موازين الجاهلية والجاهلين
ولكنهم انفردوا بالصدارة زمنا ، وبقي ذكرهم أزمانا
حتى كان بعض الخلفاء يتمنى أنه مكان ذلك العالم !
لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة ، فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ماجداً = يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟
قالوا : عبدالله بن جعفر .
قال : خلُّوا لـه الطريق ، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينمـا يذكـرنني أبصـرنني = عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن : نعم = قد عرفناه وهل يخفى القمـر
قال : من هذا ؟
قالوا : عمر بن أبي ربيعة .
قال : خلُّوا لـه الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال لـه : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج .
فقال : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بنُ عمر ، فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
هكذا يُثير معاوية في ابنه ما يُثير
ويُربي فيه ما يُربي
من حُبّ العلم ، ورِفعة أهله
حتى حلف له : إن هذا لهو الشرف !
وكأنه يُشير إليه من طرف خفي : هذا الشّرف ليس فيما فيه أبوك !
وهذا خليفة آخر يُشير بتلك الإشارة
قال إبراهيم الحربي كان عطاء ابن أبي رباح عبدا اسود لامرأة من مكة ، وكان أنفه كأنه باقلاّء ! فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابْـنَـاهُ ، فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى انفتل إليهم ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج ، وقد حول قفاه إليهم ، ثم قال سليمان لابْنَيه : قوما ، فقاما ، فقال : يا بَنيّ ! لا تَـنِـيا في طلب العلم ، فإني لا أنسى ذلّـنا بين يدي هذا العبد الأسود !
إن الذي رفعه هو العلم
العِلْم تعلُو به مكانة الشريف ، ويرتفع به الوضيع ..
عَلَتْ هِمّة ابن عباس فصار عَالِمَا عَلَما ، حِبْرا بَحرا !
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لَمّا تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلتُ لِرَجُلٍ من الأنصار : هلم نسأل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم اليومَ كثير ، فقال : واعجبا ! لك يا ابنَ عباس ، أترى الناس يحتاجون إليك ، وفي الناسِ مِن أصحاب النبي عليه السلام من ترى؟ فَتَرَكَ ذلك ، وأَقْبَلْتُ على المسألة .
وبعد هذا بِزمَن قال ابن عباس : ذَلَلْتُ طَالِبا ، فَعَزَزْتُ مَطْلُوبا .
للعباس بن عبد المطّلب عشرة أبناء ، أشهرهم عبد الله ، وإذا ذُكِر أو قيل : ابن عباس ، فإنما يُراد به عبد الله دون بقيّة أبناء العباس ، وعبد الله بن عباس هو المعروف بِترجمان القرآن ، وحَبْر الأمّة .
وإنما ارتفعت مكانته ، وعَلا شأنه بالعِلْم ، فَبَزّ أقرانه ، وفاق إخوانه .
قال أبو العالية : كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش ، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير ، فتغامز بي قريش ، ففطن لهم ابن عباس فقال : كذا هذا العِلم ، يَزيد الشريف شرفا ، ويُجلس المملوك على الأسرّة !
وذاك مولى ! رفعه القرآن وعلم الكتاب والسنة
روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستعمل نافع بن عبد الحارث على مكة فَلَقِيَه عمر بعسفان فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى . قال : ومَنْ ابن أبزى ؟! قال : مولى من موالينا ! قال : فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عـز وجل ، وإنه عالـم بالفرائض . قال : عمر أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين .
وهذا عالم آخر وعَلَم فـذّ أصله مولى !
نعم أبوه كان عبداً يُباع ويُشترى !
ولكنه علا وارتفع بالعلم النافع ، عِلم الكتاب والسنة
لما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبد الله بنِ المبارك و تقطعت النعال و ارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ من قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال لـه عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان . رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
ذلكم هو العالم المجاهد البطل الذي لا يُشقّ له غبار ، والعالم الذي فاق الأقران ، هو عبد الله بن المبارك رحمه الله
وذاك علم آخر من أعلام الإسلام ، وإمام من أئمة التابعين
وهو مولى !
لكنه سيّـد من سادات التابعين ، سـاد بالعلم النافع
ذلكم هو الإمام محمد بن سيرين رحمه الله
فمن الذي لا يعرف ابن سيرين رحمه الله ؟
العلم يَرفع بَيْتًا لا عِماد له *** والجهل يَهدم بيت العزّ والشرف
قال ابن الجوزي : واعلم أن العِلم يرفع الأراذل ؛ فقد كان خَلْق كثير مِن العلماء لا نَسَب لهم يُذْكر ، ولا صورة تُسْتَحْسَن .
وكان الحسن مَوْلَى – أي : مملوكًا – وابن سيرين ومكحول ، وخَلْق كثير ؛ وإنما شَرفوا بالعِلم والتقوى . اهـ .
هذا عالم تولى القضاء بمكة عشرين سنة ، وكانت تهابه الخصوم .
ذلكم هو :
محمد بن عبد الرحمن الأوقص ، عُنقُه داخل في بدنه ، وكان منكباه خارجين كأنهما زُجّـان فقالت أمه : يا بني لا تكون في مجلس قوم إلاّ كنت المضحوك منه المسخور به ، فعليك بِطلب العلم ، فإنه يَرفعك ، فولي قضاء مكة عشرين سنة ، وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم !
ومَرَّت به امرأة وهو يقول : اللهم اعتق رقبتي من النار ، فقالت له : يا ابن أخي وأيّ رقبة لك ؟!
فبأي شيء ارتفع هؤلاء ؟
إنما رفع الله قدرهم ، وأعلى ذِكرهم ، بالعِلم النافع
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )
العلم الذي يُورث الخشية
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )
فالعِلْم النافع ما أوْرَث الخشيَة
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ليس العِلم بِكثرة الرواية ، ولكن العِلم الخشية .
وقال سهل بن عبد الله : ما أعطي أحد شيئا أفضل من علم يستزيد به افتقارا إلى الله .
وقال الحارث المحاسبي : العلم يُورِث الخشية .
العِلم الذي لا يكون مقصورا ولا محصورا
بل هم علماء عامّـة
يُعلّمون الناس ، ويُخالطون الناس ، ويصبرون على أذاهم
” المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم “
وأختم بكلمة إمام أهل السنة يوم قال لأهل البدع :
قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز !
فكم شهِد جنازة ذلك العالم الرباني ؟
على أقل تقدير !
قال فتح بن الحجاج : سمعت في دار الأمير أبي محمد عبد الله بن طاهر أن الأمير بعث عشرين رجلا فحزَرُوا كم صَلّى على أحمد بن حنبل ؟ قال : فحزروا فبلغ ألف ألف وثمانين ألفا ، وقال غيره وثلاث مائة ألف سوى من كان في السفن في الماء .
ذلكم هو الشرف !
ذلكم هو العِلم
وقيمة الإنسان في بيانه وأخلاقه وليس في مظهره ..
ضَحِك المعتصم مِن عبد العزيز المكي – وكان مُفرِط القُبح – فقال المكي للمأمون : مما يضحك هذا ؟ والله ما اصطفى يوسف لِجَماله ، وإنما اصطفاه لبيانه ، قال : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) ، فَبَيَانِي أحسن مِن وَجه هذا . فضحك المأمون ، وأعجبه كلامه .
وللأسف صارت نظرة كثير مِن الناس إلى الناس مِن خلال : لباسهم ، وجوّالاتهم وأجهزتهم ، وسيارتهم !
فيُقيّم الشخص بل وقد يُحتَرَم بناء على مَظهره !!
وكـفـى .
و
قولوا لأبي عبد الله وجدنا ما وعدت حقـا
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم