لا آجـركِ الله
في أعظم وأطهر بقعة
في البلد الحرام ، وفي المسجد الحرام ، وقبيل صلاة الجمعة رفعت رأسي لأنظر أمامي فإذا بي أُفاجأ بامرأة تتخطّى رقاب المُصلّين ! في مكان مُزدحم بالرجال ، لِتصِل إلى مُصلّى النساء .
دُهشت ، ولكني أمام أمرين أحلاهما مُـرّ :
إما السكوت عن هذا المنكر
أو الإنكار ، ووقوع اللغط – ربما – ورجوعها من حيث أتت لتتخطى الرقاب مرّة أخرى
إذ هي قد قطعت شوطا باتجاه مُصلّى النساء .
وحينها تذكرت إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من تخطّى الرقاب
فقَطَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته وهو يخطب ثم قال لمن تخطّى الرقاب :
اجلس فقد آذيت وآنيت . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
هذا وهو رجل يتخطى رقاب الرجال .
وتذكّرت إنكار عائشة رضي الله عنها على النساء .
فقد روى البخاري عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال . قال : كيف تَمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال ؟
قلت : أبعد الحجاب أو قبل ؟
قال : إي لعمري . لقد أدركته بعد الحجاب .
قلت : كيف يخالطن الرجال ؟
قال : لم يكن يخالطن ، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : عنكِ ، وأَبَتْ .
ومعنى ( حَجْرَة ) أي ناحية . يعني أنـها لا تُـزاحم الرجال في الطواف .
ومعنى ” أبَتْ ” : أي رفضت وامتنعت أن تُزاحم الرجال لِتستلم الحجر أو الركن .
ولما دخلت مولاة لعائشة عليها فقالت لها : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها : لا آجرك الله . لا آجــرك الله . تدافعين الرجال ؟ ألا كبّرتِ ومررتِ . رواه الشافعي والبيهقي .
إن مسؤولية المرأة في الاحتساب والإنكار لا تقل عن مسؤولية الرجل
وعلى المرأة أن تُنكر – على الأقل – في مجالها ، وبين بنات جنسها .
ولذا لما رأت عائشة رضي الله عنها على امرأة بُرْداً فيه تصليب ، فقالت : اطرحيه اطرحيه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا قضبه . رواه الإمام أحمد . ومعنى قَضَبَه : أي قطعه .
وكانت نساء الصحابة يَقُمْنَ بالاحتساب والإنكار حتى على الأمراء ، فلم يقف إنكار نساء الصحابة على بنات جنسهنّ ، فقد أنكرت أم الدرداء على عبد الملك بن مروان .
روى الإمام مسلم عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده ، فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل ، فدعا خادمه ، فكأنه أبطأ عليه ، فَلَعَنَهُ ، فلما أصبح قالت له أم الدرداء : سمعتك الليلة لَعَنْتَ خادمك حين دعوته ، سمعت أبا الدرداء يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانـون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة .
والأنجاد : هو متاعُ البيت الذي يزيّنُه .
وقد تتعذّر بعض النساء في ترك الإنكار بأن لديها تقصير
قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عـن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ، ولا نَهى عن منكر .
وقال الحسن البصري لمُطرِّف بن عبد الله : عِظ أصحابك ، فقال : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال : يرحمك الله ! وأيُّنا يفعل ما يقول ؟ ودّ الشيطان أنه قد ظفِرَ بـهذا فلم يأمر أحد بمعروف ، ولم يَنْهَ عن منكر .
ولو لم يعظِ الناس مَنْ هو مذنبُ *** فَمَنْ يعظ العاصين بعد محمدِ
( صلى الله عليه وسلم )
أو تقول إنه لا يُقبل منها
وقد سُئل سفيان الثوري – رحمه الله – : أيأمر الرجل مَنْ يَعلم أنه لا يَقبل منه ؟
فقال : نعم ، ليكون ذلك معذرة له عند الله تعالى .
وثمّـة مواطن ومواضع وأحوال يحسن أن تُكر فيها المرأة المُنكر قبل أن يُنكره الرجال
وثمـة مواضع لا يطّلع الرجال فيها على المنكرات ، وإنما تطّلع فيها النساء على المنكرات فيتعيّن فيها الإنكار على النساء .
أخيراً :
أنا لا أشك أن تلك المرأة التي زاحمت الرجال وتخطّت رقابهم أنها إنما أتت تُريد الأجر
وأن تلك الأخرى التي أتت بأطفالها فبالُوا في المسجد الحرام إنما جاءت رغبة في الأجر
وأن تلك التي أتت بصبيانها فصاحوا وضجوا بالصُّراخ وأشغلوا المصلين والمُصلِّيَات أنها كانت تريد الأجر
وتلك التي حضرت إلى صلاة التراويح بصحبة السائق
أو جاءت وهي مُتعطّرة إلى بيت من بيوت الله
أنهن أتين طلباً للأجر
فكلهن حضرن يُرِدن الأجر ، ولكن الأمر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : كم من مريد للخير لن يصيبه .
ومثل تلك النّسوة لو قيل لهن : لا آجركن الله . لغضبن وانتصرن لأنفسهن .
وهن بحاجة إلى سماع تلك الكلمة من بنات جنسهن .
والله يتولّى السرائر ويتولاكم ويرعاكم .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم