كَالْمُنْـبَتّ
لكل عمل بداية ، ولكل بِداية نهاية
قد تَصْعُب البدايات ، وقد تَثْقُل وطأتها ، وربما تألم الإنسان فصبر – رجاء ثَمَرَة عَمَله ، وقِطاف جُهده ، ونتيجة صَبْرِه .
كما يَصبر الفلاح في رجاء الثمر ..
أو كما تتحمل المرأة ألَم الْحَمْل والوَضْع رَغبة في زينة الحياة الدنيا
وتَعْظُم مصيبة كل منهما حينما لا يتحقق ما رَجَاه ، ولا يَتِمّ ما أمَّـلَـه
وحينما يعمل الإنسان عملا – يظن أنه لله – مع رفقة يؤمل معهم النجاح
أو يَرجو معهم الفلاح
فيفاجأ في منتصف الطريق أنه كَالْـمُـنْـبَـــتّ .. لا أرْضًا قَطَع ، ولا ظَهْرًا أبْقَى !
وأنه إن تَعِبَتْ دَابَتُه ، أو كَلّ ، أو تَنَقّبَتْ أقْدَامه ، أو تَخَلّف عن رُفْقَته ؛ فلن يَجِد مَن يَسأل عنه ، أو يَشُدّ مِن أزْره .
بل قد يَجِد من يَخذُلَه ..
ويَعظُم في عِينِه الْمُصاب إذا كان ذلك ممن يُؤمِّل مِنه شَدّ عَضُده !
شأن ذلك الإنسان شأن بعير أجْرب هزيل ، وَقَفَ بِصاحبه في أرض مَسْبَعَة ! فَنَفَذَ صاحِبُه بِجِلْدِه وتَرَك الأجْرب طَعاما للسِّباع !
أو كَجَمَلِ السّوء .. كَثُرَتْ سَكاكِينه إن سَقَط في سُوق جَزّارِين ، أو بين جَوعَى !
ومَنْزِلة ذلك الإنسان – الذي استبان له ما استبان – مَنْزِلة النوى من الثمر !
كان النوى يَظُن أنّ إحَاطَة أجزاء الثمر به – حَفاوة به ، فلما أُكِلَ الثمر اسْتَبَان له لِمَن كان القَدْر ، وبِمَن كانت الْحَفَاوة !
ما زِيدَ على أن رُمِي بالـنَّوى رَمْـيًا ! أو أُطْعِم الدّواب على أحْسَنِ حال !
وهذا حال الأصحاب حينما تكون العلاقة بينهم مَبْنِيّـة على تَشَاكُل الطِّبَاع وتَوافق الهوى
قال ابن القيم رحمه الله :
الاجتماع بالإخْوان قِسْمَان :
أحدهما : اجتماع على مُؤانَسَة الطّبع وشَغْل الوقت ؛ فهذا مَضَرّته أرْجَح مِن مَنْفَعَتِه ، وأقَلّ ما فيه أنه يُفْسِد القَلْب ، ويُضِيع الوقت .
الثاني : الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة ، والتواصي بالحقّ والصّبر ؛ فهذا من أعْظم الغنيمة وأنْفَعها ، ولكن فيه ثلاث آفات :
إحداها : تَزَيّن بَعضهم لِبعض .
الثانية : الكَلام والخلطة أكثر مِن الحاجة .
الثالثة : أن يَصير ذلك شَهوة وعَادة يَنْقَطِع بها عن المقصود . اهـ .
وقد يَكون الاجتماع على هَوى نَفس .. قال الجاحظ : وخلاف الهوى يُوجِب الاستثقال ، ومُتَابَعَتُه تُوجِب الألفَـة . اهـ .
فالاجتماع على مُؤانَسَة الطّبع وشَغْل الوَقْت .. قد نَظُـنّـه اجتماعا على طاعة الله ، وفي ذات الله ..
أو نَحسبه لأجْل العمل لله ..
وقد يَستبين لنا أن ذلك مُجرّد ظَنّ أو وَهْم ..
وقُل مِثْل ذلك في عَمَل عامِل داخل بَوتَقَة حِزبيّة ! أو إطار جَمَاعة .. وهو يَظُنّ أنه يَعمَل لله .. ويُؤاخي في الله ..
إلا أنه سُرْعان ما تتكشّف لك حقائق الأمور حينما يُطْعَن في جَمَاعته ، أو يُنال مِن حِزبه ! أو تُنْتَقَد طريقته في العمل .. فتجِده ينتفض ! ويغضب .. لا لله .. ولكن للجماعة أو الْحِزْب !
إذا كان هذا في الدنيا .. فكيف يكون الحال حين ينكشف المستور ؟
ويوم تكون الخلة عداوة ؟ ( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ ) .
أو حِين يَبدو لأقْوام من الله ما لم يَكونوا يَحْتَسِبُون .
وحين يتجلى لنا – في هذه الدنيا – أنّ ما كُـنّا نَظُـنّـه بَانَ أنه ليس سِوى ظنّ ، وما كُـنّا نَحسبه قد تلاشى وتبدد – حينها نَتَذَكّر اعْترافات أقوام طالت بهم الحسَرات : ( إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) .
أو حِين يَستبين لأقوام أنهم كانوا الأخْسَرين (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) .
فيا لَهْف نفسي .. ويا طول حَسْرَتي .. إن بَدَا لي ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون .
أما إن بَدَا لي في دنياي فَحَسْب – فأمْره أيْسَر وأهْون .
والسؤال الذي يَطرح نفسه :
ما مَدى مَتانة علاقاتنا وصداقاتنا ؟
وهل هي قائمة على التواصي بالحق والصبر عليه؟
كَم هِي علاقاتنا التي بحاجة إلى كَشف حساب ومن ثم مراجعة ؟
وكَم هُم الأصحاب الذين هم بحاجة إلى مَحَكّ في قاعة اختبار ؟!
حفظت من أبي – مَـتّع الله به – كلمة في هذا الباب يقول : جَرّب صَديقك قبل أن يُجَرّبَك .
ويُروى أن لقمان قال لابنه : إذا أرَدْت أن تُؤاخِي رجلا فأغْضِبه ، فإن أنْصَفَك وإلا فاحْذَرْه .
وقال سفيان الثوري : إذا أرَدْتَ أن تَعْرِف مَالَك عِند صَدِيقك فأغْضِبه ، فإن أنْصَفَك في غَضَبِه وإلا فَاجْتَنِبْه .
قال الشاعر :
لا تَحْمَدَنّ امْرءًا يُرْضِيك ظَاهِره *** واخْبُر مَوَدّته في العتْب والغَضَب
والله المستعان .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم