في قالب الشفقة والإصلاح !
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – :
مِن الناس من يغتاب مُوافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره ، مع علمه أن المُغتاب برئ مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون ، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه ، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة ، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم .
ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى ؛ تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلاّ بخير ! ولا أُحِب الغيبة ! ولا الكذب ! وإنما أخبركم بأحواله . يقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ، ولكن فيه كيت وكيت ! وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله ! وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه .
ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يُخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا ، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه .ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه فيقول : لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت ! ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده ، أو يقول : فلان بليد الذهن قليل الفهم ! وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه .
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة ، فيجمع بين أمرين قبيحين : الغيبة والحسد ، وإذا أُثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح ، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه .ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ، ليُضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به .
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجّب ، فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ؟ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت ؟ وكيف فعل كيت وكيت ؟ فيخرج اسمه في معرض تعجبه .
ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول : مسكين فلان غمّـني ما جرى له ، وما تم له ، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف ، وقلبه منطو على التّـشفّـي به ، ولو قدر لزاد على ما به ، وربما يذكره عند أعدائه ليشتـفّـوا به ، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه .
ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر ، فيُظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول ، وقصده غير ما أظهر والله المستعان .
انتهى كلامه – رحمه الله – بطولِـه ، وهو كلام نفيس للغاية .
وقال تلميذه ابن القيم – رحمه الله – :
الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما ، فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذلك ، فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر ، ولهذا قال لمعاذ امسك عليك لسانك فقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟
فقال : وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . ولا سيما إذا صارت المعاصي اللسانية معتادة للعبد فإنه يعز عليه الصبر عنها ، ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ، ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتّـفكّه في أعراض الخلق ، وربما في أهل الصلاح والعلم بالله والدين ، والقول على الله ما لا يعلم ، وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام ، كما يحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية فلما أراد مواقعتها قال : يا هذه غطِّي وجهك ! فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام ، وقد سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض فقال : انظروا إلى هؤلاء يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم