رعاية حتى النهاية
لا تُوجَد حضارة ، ولا أمة من الأمم ، لا يُوجَد دِين من الأديان اعتنى بالإنسان كما اعتنى به الإسلام .. وهذا ما شهِد به أعدائه قبل أبنائه !
فعناية الإسلام بالإنسان ليست منذ ولادته بل هي قبل ذلك بكثير ..
عناية الإسلام بالإنسان قبل التقاء والديه
فجاء الحث على اختيار المحضَنِ والْمَنْبَت الذي يحتضن الإنسان ، وان يكون أساس الاختيار هو صلاح الزوجة ، لتكون أمّـاً حانية ، وزوجة صالحة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تُنْكَحُ المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها . فاظْفَر بِذاتِ الدِّين تَرِبَتْ يداك . رواه البخاري ومسلم .
والظَّفَر هو الفوز ، فكأنه يُقال للباحث عن زوجة : فُـز بِالسّلعة الغالية : صاحبة الدِّين ، فإن لم تفعل الْتَصَقَتْ يداك بالتُّراب ، كناية عن الفقر ، والفقر ليس محصوراً في قلّة المال ، بل يكون فقيراً حيث لم يَفُز بِذات الدِّين ، ويفتقر أولاده إلى التربية الصالحة الجادّة ، ويفتقر هو إلى الأمن النفسي .. إلى غير ذلك .
المرأة والفوز
ثم عُني الإسلام بالجنين قبل وضعه نُطفة ، فاعتنى بِحفظه من الشيطان الرجيم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يُقدّر بينهما وَلَد في ذلك لم يضرّه شيطان أبداً . رواه البخاري ومسلم .
ثم عُني به وهو جنين في بطن أمِّـه ، فلا يَجوز الاعتداء عليه بإسقاط ولا بِضرب ونحو ذلك .
” ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه – قتل الجنين في بطن أمه ، وهو أن يُضْرَب بطن أمه فَتُلْقِيه حَياً ثم يموت ؛ فقال كافة العلماء : فيه الدية كاملة في الخطأ ” قاله القرطبي .
كما حُفِظ له حقّـه في ميراث أبيه ، في حال وفاة أبيه وهو في بطن أمّـه ، فيُحفَظ له حقّـه من ميراث أبيه على الأحَـظّ له ، فيُقدّر أنه مولود ذَكَر ، فيُحفظ له ميراث ذَكَر ، أو يُعتبر توأم ويُحفظ لهما الحق كاملاً .
ثم إذا وُلِد حُفِظ من الشيطان ، وكان أول ما يَقرع سمعه كلمات التوحيد ، ونداء الإيمان ، فيؤذّن في أذن المولود ، وعَمِلَ به جماعة من السَّلَف ، والحديث الوارد فيه ضعيف .
ثم عُني به في خِتانه ورعايته صحّيّـاً ، وإرضاعِه من لبن أمِّـه ، فإن لم يَكن كُلِّف ولـيّـه بالاسترضاع له من ماله .
وحث الإسلام على العقيقة عن المولود ، وهي بِمنْزِلة الصدقة عنه .ومن هذه المنظومة أن يُحسَن اسمه ، وتُحسن تربيته ، وهو لا يَعي من الدنيا شيئا .ثم يُحسَن تعليمه ، وتأديبه ، وأخذه بالْجِدّ والْحَزْم .
ثم حرّم الإسلام الاعتداء على ماله إذا مَلَك المال .. فقد أُمِر ولي الصبي أن يُحسِن إليه ، فإن كان ذا مال رُعِي ماله ، فاليتيم يُرعى له ماله حتى يُؤنَس منه الرّشد ، فيُدفَع إليه .
وجاء التغليظ في الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على مال اليتيم .
كما أُمِر وَليّ الصبي أن يحفظه من الشياطين وقت انتشارها ، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا كان جُنح الليل أو أمسيتم فكفُّوا صبيانكم ، فإن الشيطان ينتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلّوهم . رواه البخاري ومسلم .
وأُمِر أن يُزوّجه – ذَكَراً كان أو أنثى –
ومُنِع الرَّجُل من عَضْلِ موليته ، ومِن منعها من الزواج الذي هو حق لها ، إذ تقدّم إليها كفء ..
وكثيرة جدا هي جوانب العناية بالمسلم .. بِدمِـه ، ونَفْسِه ، وماله ، وعِرضه ..
فلا يُظنّ به السوء ، ولا يُطعن في عِرضه ، ولا يُؤخذ ماله ، ولا يُعذّب في بدنه ..
وحرام أن يُسفَك دمّـه بغير حقّ .. بل دمه كحرمة يوم الحج الأكبر في الشهر الحرام في البلد الأمين ..
بل حَرام عرضه ودمه وماله ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم . رواه البخاري ومسلم .
ومن العناية بالمسلم أن أُقيم صرح الأخوة بينه وبين إخوانه
فإن مرِض عادوه
وإن غاب سألوا عنه
وإن جاع أطعموه
وإن عَري كسوه
وإن عَطِش أسقوه
وإن افتقر رَفَدُوه
ثم خُتمتْ حياة هذا الإنسان المسلم بتلقينه الشهادة
وأُمِر من يُغسّله أن يُحسن كفنه ، وأن يَسْتُر عورته ، وأن لا يُكسر عظماً من عظامه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كسر عظم الميت ككسره حيا . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
ثم صُلّي عليه دعاء له بالرحمة ، وطَلباً للشفاعة
وفي الحديث : ” من شَهِدَ الجنازة حتى يُصَلِّي فله قيراط ، ومن شَهِدَ حتى تُدْفَن كان له قيراطان ” رواه البخاري ومسلم .
وسواء كان صغيراً أم كبيراً ، ذَكَرا أو أنثى ..
وهل انتهت عناية الإسلام عند هذا الـحَـدّ ؟
كلا .. لم تنتهِ عناية الإسلام بالإنسان ..
فإن حُرمة الميت كَحُرْمة الحيّ
فَحَرامٌ أن يُوطأ قبره ، أو تُقضى عنده الحاجة ، أو تُوضع القاذورات بِقرب قبره !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر . رواه مسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن أمشي على جمرة أو سيف ، أو أخصف نعلي برجلي ، أحبّ إلي من أن أمشي على قبر مسلم ، وما أبالي أَوَسَط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق . رواه ابن ماجه .
ونُهي عن سبّ الميّت ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قَدّموا . رواه البخاري .
فأي عناية أبلغ من هذه العناية التي هذا طرف منها ؟!
بَلغ من عناية الإسلام بالإنسان أن جاء الحث على النُّصح للرعايا ، سواء أكانوا من الأولاد أم من غيرهم ..
بل حُرّمت الجنة على من غشّ رعيته ، ومن لم يُحطها بِنُصحِه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحِطْها بِنُصْحِه إلا لم يَجِد رائحة الجنة . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة .
وبَلَغ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله أن يتعاهدهم بالـنُّصْح والتذكير
قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان خُلُق أبغض إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه عليه حتى يَعْلَم أن قد أحدث منها توبة . رواه الإمام أحمد والترمذي .
وبلغ من عناية السلف تعاهد أهلهم حتى في آخر لحظة من حياتهم !
قالت عائشة رضي الله عنها : لما حضر أبو بكر قلت كلمة من قول حاتم :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حَشْرَجَتْ يوما وضاق بها الصدر
فقال : لا تقولي هكذا يا بنية ، ولكن قولي : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) .
هل رأيت مثل هذه العناية ، أن يُعتَنى بتصحيح اللفظ ، واستبداله بِلفظ أقوى وأجزل حتى عند مفارقة الدنيا ؟
هذه هي عناية الإسلام بالإنسان ..
ولم يَقف الحد عند العناية بالإنسان المسلم ، بل شملت العناية غير المسلم من ذمّي ومُستأمن ومُعاهَد ..بل شملت حتى النمل في جحورها !!
فأين هي أمم الأرض الماضية والحاضرة عن هذه الحقوق التي كَفَلها الإسلام للإنسان ؟
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم