حــرام نـفـرح ؟
عندما يحصل لبعض الناس ما يسرّه من أمور دنياه ، فإنه يفرح فرحاً شديداً !
فرحاً يُصاحبه أشر وبَطَر ، يرتكب معه ما حرّم الله .
وعندما يُنكر عليه يردّ مستغربا : حـرام نفـرح ؟!
وهذه كلمة سمعناها كثيراً ، ولا زلنا نسمعها بين حين وآخر .
لقد ذمّ الله الفرح في كتابه ، وهو الفرح الذي يُصاحبه أشر وبَطَر .
قال سبحانه وتعالى عن قارون : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )
قال المؤمنون منهم : يا قارون لا تفرح بما أوليت ، فتبطر .
قال مُجاهد : المرحين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
لماذا مُنِع الفرح هنا ؟
لأن الفرح والأشر والبطر يقود إلى نسيان الآخرة وبالتالي الإفساد في الأرض ، من أجل ذلك قال الله عز وجل بعد ذلك مباشرة : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )
وقال الله عز وجل عن سليمان عليه الصلاة والسلام وبلقيس : ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ )
يعني أنتم تفرحون بهذه الأمور التي لا أحفل بها .
قال ابن كثير رحمه الله : أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف ، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف .
إن الذي يفرح في الدنيا فرحاً يُخرجه إلى الأشر أو إلى أن يرتكب ما حرّم الله تطول حسرته يوم القيامة
ولذا قال الله عز وجل عن أصحاب الشمال : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ) لماذا ؟ ( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور )
فلما أكثر الفرح في الدنيا ، طالت حسرته في الآخرة .
قال ابن كثير : ( كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) أي فرحاً لا يُفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه ، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل . اهـ .
ومن على شاكلته يختال ويتبختر
قال عز وجل : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى )
وأما أصحاب اليمين فقال عز وجل : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا )
لماذا لأنه كان في الدنيا خائفاً وجِلاً ، ومن كان كذلك لم يُخرجه فرحه إلى الأشر والبطر .
وهذا من عدِل الله سبحانه وتعالى .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام فيما يروي عن ربه جل وعلا قال : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين ؛ إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة . رواه ابن حبان .
قال الله جل جلاله : ( أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ؟؟
إن الفرح يجب أن يكون بكتاب الله عز وجل وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
قال تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )
لما قدم خراج العراق إلى عمر بن الخطاب خرج عمر ومولى له فجعل عمر يَعدّ الإبل ، فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول : الحمد لله ، وجعل مولاه يقول : يا أمير المؤمنين هذا من فضل الله ورحمته ، فبذلك فليفرحوا . فقال عمر : كذبت ليس هو هذا ، يقول الله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) يقول بالهدى والسنة والقرآن فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ، وهذا مما يجمعون . رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان .
وقد بكى أُبي بن كعب رضي الله عنه فرحاً بأن ذُكِر في الملأ الأعلى .
قال صلى الله عليه وسلم لأُبيّ رضي الله عنه : إن الله أمرني أن أقرأ عليك قال آلله سماني لك قال الله سماك لي قال فجعل أبي يبكي . رواه البخاري ومسلم .
طفح السرور
وانظر بعين بصيرتك إلى فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونبي الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحـاً وذقنه يكاد يمسّ رحله من تواضعه لله عز وجل ، مع أنه في موطن نصر وعِـزّ وتمكين وغلبة على أعدائه .
ومع ذلك دخل مُتخشِّعاً خاضعاً لله ، لم يدخل دخول الفرحين الأشِرين .
قال عبد الله بن مغفل رضي الله عنه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجِّع .
وفي رواية : يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح – قراءة لينة يقرأ وهو يرجِّع . رواه البخاري .
لقد طأطأت له أعناق صناديد قريش ، وذّلت له رؤوس طالما انتفشت وانتفخت بالكبر والكُفر !
وقبل ذلك حدّث له النصر الـمُبين في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله وأذلّ فيه الكفر وأهله ، في ذلك اليوم المشهود ، يوم بدر .
ولعمر الحق إن كان من شيء يستحق الفرح والبطر إنه لذلك النصر المبين .
إلا أنه لم يُسمع للجيش صراخ وعويل أو بطر وطغيان كما تفعل جيوش الظالمين إذا غَلَبت ، أو حققت نصراً ولو موهومـاً !
ولذا لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقيهم المسلمون يهنئونهم بفتح الله عليهم ، فقال سلمة بن سلامة بن وقش : ما الذي تهنئون به ؟ والله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبُدن المعلّقة ننحرها ! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا ابن أخى أولئك الملا من قريش . رواه الحاكم في المستدرك ، وصححه على إرساله .
فما حملهم النصر والعِزّ على الأشر والبطر ، كما فعلت قريش حين أقبلت إلى أرض المعركة ، فإنها أقبلت بفخرها وخيلائها ، ورجعت بذلِّها وخيبة آمالها !
ولقد كان سلف هذه الأمة ينهون عن الفرح المؤدّي للأشر والبطر
فقد رأى الفضيل بن عياض رجلا يضحك ، فقال له : ألا أحدثك حديثا حسنا ؟ قال : بلى . قال : ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )
وقيل ليوسف بن أسباط : ما غاية الزهد ؟ قال : لا تفرح بما أقبل ، ولا تأسف على ما أدبر . قيل : فما غاية التواضع ؟ قال : أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحداً إلا رأيت أنه خير منك .
لأن هذه الدنيا طُبِعت على كدر
فما يُفرح به اليوم قد يُساء به غداً
فقد يولد المولود اليوم ويُفرح به ، وقد يموت غداً
ولذا قيل :
ولدتك أمك يا بن آدم باكيا = والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمد إلى عمل تكون إذا بكوا = في يوم موتك ضاحكا مسرورا
قال ابن القيم رحمه الله :
والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى ، فيتولّد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور ، كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب ، فإذا فَقَدَه تولّد مِن فَقْدِه حالة تسمى الحزن والغم ، وذَكَرَ سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة ، وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة ، فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب ، وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسّفه ، وهو أشد ألماً لها من أدواء البدن ، ولكنها لما ألِفَتْ هذه الأدواء لم تحسّ بألمها ، وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا ، فهناك يحضرها كل مؤلم محزن . وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذّة ، وتدفع عنها كل شر ومؤلم . فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها ، أي هذا هو الذي ينبغي أن يُفرح به ، ومن فرح به فقد فرح بأجَلّ مفروح به لا ما يجمع أهل الدنيا منها ، فإنه ليس بموضع للفرح ، لأنه عرضة للآفات ، ووشيك الزوال ، ووخيم العاقبة ، وهو طيف خيال زار الصبّ في المنام ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران .
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين :
مطلق ومقيد
فالمطلق جاء في الذمّ كقوله تعالى : ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) وقوله : ( إنه لفرح فخور )
والمقيّد نوعان أيضا :
مقيّد بالدنيا يُنسي صاحبه فضل الله ومنته ، فهو مذموم كقوله : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون )
والثاني مقيّد بفضل الله وبرحمته ، وهو نوعان أيضا :
فضل ورحمة بالسبب
وفضل بالمسبب
فالأول كقوله : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )
والثاني كقوله : ( فرحين بما آتاهم الله من فضله )
فالفرح بالله وبرسوله وبالإيمان وبالسنة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين .
قال الله تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وقال : ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك )
فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره ، فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه ، فمن ليس له رغبة في الشيء لا يُفرحه حصوله له ، ولا يحزنه فواته . فالفرح تابع للمحبة والرغبة .
والفرق بينه وبين الاستبشار أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله ، والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ، ولهذا قال تعالى : ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم )
والفرح صفة كمال ، ولهذا يُوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها ، كَفَرَحِه بتوبة التائب أعظم من فَرْحَة الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها .
والمقصود أن الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذّته وبهجته والفرح والسرور نعيمه ، والهم والحزن عذابه .
والفرح بالشيء فوق الرِّضا به .
فإن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح .
والفرح لذة وبهجة وسرور .
فكل فَرِح راض ، وليس كل راض فرحاً .
ولهذا كان الفرح ضد الحزن ، والرضا ضد السخط ، والحزن يؤلم صاحبه ، والسخط لا يؤلمه إلا إن كان مع العجز عن الانتقام . والله أعلم . اهـ .
[ كلام جميل ونفيس .. وليس عليه مَزيد ]
فرحم الله ابن القيم برحمته الواسعة ، وأسكنه فسيح جناته ..
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم