حَاجَة الناس إلى العِلْم
قال الإمام أحمد : الناس مُحْتَاجُون إلى العِلْم أكثر مِن حاجتهم إلى الطعام والشراب ؛ لأن الطعام والشراب يُحْتَاج إليه في اليوم مرة أو مرتين ، والعِلْم يُحْتَاج إليه بِعَدَد الأنفاس .
وقال ابن القيم : حَاجة الناس إلى الشَّريعة ضَرورية فَوق حَاجتهم إلى كل شيء ، ولا نِسبة لحاجتهم إلى عِلْم الطِّبّ إليها . إلا تَرى أنّ أكثر العَالَم يَعيشون بِغير طَبيب ، ولا يكون الطبيب إلاَّ في بعض الْمُدُن الجامعة … وقد فَطَر الله بني آدم على تَناول ما يَنفعهم ، واجْتناب ما يَضُرّهم ، وجَعَل لكل قَوم عَادة وعُرْفًا في اسْتِخْراج ما يَهْجُم عليهم مِن الأدواء ، حتى إنّ كَثيرا مِن أصُول الطِّب إنما أُخِذَت عن عوائد الناس وعُرْفهم وتجاربهم ، وأما الشريعة فَمَبْنَاها على تَعْرِيف مَوَاقع رِضَا الله وسَخَطه في حَرَكات العِباد الاختيارية ، فَمَبْنَاها على الوَحْي الْمَحْض .
والْحَاجَة إلى الشريعة أشدّ مِن الحاجة إلى الـتَّنَفُّس – فَضْلا عَن الطعام والشَّراب – لأن غاية ما يُقَدَّر في عدم الـتَّنَفُّس والطعام والشَّرَاب مَوْت البَدن وتَعَطُّل الرُّوح عنه ، وأما ما يُقَدَّر عند عَدَم الشَريعة فَفَسَاد الرُّوح والقَلب جُمْلة ، وهَلاك الأبدان .
وشتان بَين هذا وهلاك البَدن بالموت ، فليس الناس قط إلى شيء أحْوج منهم إلى مَعرفة مَا جَاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، والقيام به ، والدعوة إليه ، والصبر عليه ، وجِهاد مَن خَرَج عنه حتى يرجع إليه ، وليس للعالم صَلاح بِدون ذلك البتة ، ولا سَبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاَّ بِالعُبور على هذا الْجِسر . اهـ .
والعِلْم الذي يحتاجه الناس هو العِلْم الْمُوصِل إلى الله وإلى رِضوانه وإلى دار كرامته ..
ولَمَّا كان العِلْم الشَّرْعِيّ بهذه المثابة كان ولا بُدّ أن تكون العُلوم الأخرى خادِمة لهذا العِلْم ، وسالِكة طَرِيقَه ، ومُوصِلة إلى ما يُوصِل إليه .. فلا تكون علوما آلية جامدة ، بل تكون علوما تربط المسلم بِربِّـه ، وتُوصِله إليه ، وتَزيد في إيمانه ..
وعلى سبيل المثال :
عِلْم الطِّب الذي يَدْرس دقائق جسم الإنسان ، ويكشف عن خفاياه ، ويغوص في أنسجته ؛ ينبغي أن يُقْرَن ذلك العِلْم بإبْداع البَديع سبحانه وتعالى ، وإتقان الصانع جَلَّ جَلاله لِمَا خَلَق .. والْحَثّ على التَّدبُّـر في الأنْفُس (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) .
والـتَّذْكِير بِما يَمُرّ به الإنسان في مَراحِل خَلْقِه وأن ذلك مِن بَدِيع صُنْع الله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِين (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَة مِنْ مَاء مَهِين (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)
وهي دَعْوة للشُّكْر إذ جَعَل الله للإنسان مِن الْحَوَاسّ ما يَتَميَّز به ، وتَتَكوّن بِه معارِفه ، وتَزداد بِه مَدارِكه (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
قال ابن القيم : إن الله سبحانه في القرآن يُعَدِّد على عِباده مِن نِعَمِه عليهم أنْ أعْطَاهم آلات العِلْم ، فَيَذْكر الفؤاد والسمع والأبصار ، ومَرَّة يَذْكر اللسَان الذي يُتَرْجم به عن القَلب … فَذَكَر سبحانه نِعْمته عليهم بِأن أخْرَجَهم لا عِلْم لهم ثم أعْطَاهم الأسْماع والأبْصار والأفئدة التي نَالُوا بها مِن العِلْم مَا نَالُوه ، وأنه فَعَل بهم ذلك لِيَشْكُرُوه . اهـ .
آيات تَتْرَى .. وعِبَر تتوالَى ..
ولعل ما في النفس من آياته= عَجَب عُجاب لو تَرى عَيناكا
قل للجنين يَعيش مَعْزُولا بِلا = راع ومَرْعى : ما الذي يرعاكا ؟
قل للوليد بَكى وأجْهش بالبكاء = لدى الولادة : ما الذي أبكاكا ؟
وعِلْم الأحياء يَرْبط المسلم بِربِّـه بِما تَضَمَّنَته دَقائق الأحياء مِن بَدِيع صُنْع الله .. (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء) . خَلَق فَسَوّى .. وقَدَّر فَهَدى .. خَلَق خَلْقًا عظيما .. وخَلَق خَلْقًا لا يُرى بالعين الْمُجرَّدَة ..
وما بين ذلك تفاوُت واتِّسَاع .. (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة مِنْ مَاء فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَع يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) .
عندها يَهتِف القلب ويُناجِي :
يا مَن يَرى مَدّ البعوض جَناحها = في ظُلمة الليل البهيم الأليل
ويَرى مَناط عروقها في نَحرها = والْمُخّ مِن تلك العظام النُّحَّل
ويرى خَرير الدم في أوداجها = مُتَنَقِّلا مِن مَفْصِل في مَفصل
ويرى مكان الوطء مِن أقدامها = في سَيرها وحَثيثها المستعجِل
وحين يتأمَّل ما جَعَله الله مَن نِظام في هذا الكون .. بِما فيِه مِن مَنَافِع ومَضَارّ .. وما خَلَق الله مِن سَِاع عَادِيَة .. وذوات سُموم قاتِلة .. وأنّ الْحَكِيم يُنَـزَّه عن العَبَث .. فَمَا خَلَق خَلْقًا إلا لِحْكَمة ..
كَوْن مُتوازِن .. ودِقَّـة مُتناهية (وَمِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .
وحين يَقِف العقل مَشْدُوهًا أمام تلك الصَّنائع يَقِف مُتَسائلا :
وإذا ترى الثعبان يَنفث سُمّه = فاسأله : مَن ذا بالسُّموم حشاكا؟
وأسأله كيف تعيش يا ثعبان أو= تَحْيا وهذا السُّم يَمْلأ فَاكا ؟
وأسأل بُطون النحل كيف تَقاطرت= شَهْدا وقُل للشَّهد من حلاَّكا ؟
بل سائل اللبن الْمُصَفَّى كان بين= دَم وفَرْث ما الذي صَفَّاكا ؟
وإذا رأيت الْحَيّ يَخْرُج مِن حَنايا= مَيت فاسْأله : مَن أحْياكا ؟
وعَالِم الفَلَك وَثِيق الصِّلَة بِما يُقرِّب المسلم مِن ربِّـه ..
فهو يُذَكِّر بأن الله تبارك وتعالى هو (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَات طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) .
لله في الآفاق آيات لعل = أقَلّها هو مَا إليه هَداكا
والكَون مَشْحُون بأسْرَار إذا= حَاولتتَفْسِيرًا لها أعْياكَا
فمَنَازِل القَمَر مَحَل اعْتِبَار لِكُلّ مُعتَبِر .. وجَرَيَان الشَّمْس مَحَطّ ادِّكـار ..
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ) .
تُعَاد الكَرَّة تِلْو الكَرَّة .. ويُعاد التذكير بعد التذكير .. وتُطرَق العقول يوما فيَوم .. مع كل طلوع شمس .. ومَع كُلّ أُفُول نَجْم .. حينما يَسْرِي شُعاع الشمس .. أو يَلُفّ الأرض ضِياء القَمَر .. وحينما يهْتَدِي الْمُهْتَدُون بالنجوم في ظُلُمات البَرّ والبَحْر .. فإن هذا مِن عَظِيم إبْداع الله في هذا الكون ..
وعِلْم الجيولوجيا يَجب أن يُسَخَّر للدَّلالة على البَارِي سُبحانه وتعالى ..
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِيم (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلال مُبِين) .
وإذا رأيت البَدر يَسْري نَاشِرًا = أنْواره فاسأله : مَن أسراكا ؟
وأسْأل شُعاع الشَّمْس يَدْنو وهي أبْعد= كلّ شيء ما الذي أدناكا ؟
وعند ذاك .. يَزْدَاد الإيمان .. ويَسْجُد القُلْب في مِحْرَاب التوحيد .. ويَنْطَرِح في سُكون وإيمان ..
ولا يَملِك مَن لَه ذَرَّة مِن عَقْل إلا أن يُعلِن توحيد الله وتَفَرُّدَه بالإبْدَاع ..
إن اكْتَشَف الجيولوجي حَجَرًا .. أو رأى مَنْظَرا .. أو شَاهَد خَلْقًا مِمَّا مَضَى .. فإنما يَدعوه ذلك إلى الإيمان بالذي خَلَق كل شيء .. فلا يَمْلِك إلا أن يُنَزِّه ربّ العِزَّة سبحانه وتعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) .
سائِل الْجِبَال الصُّمّ الصِّلاب .. من أرساها ؟
وإذا تَرى الْجَبل الأشَمّ مُنَاطِحًا = قِمَم السَّحاب فَسَلْه مَن أرْسَاكا ؟
وإذا رَأيت النهر بِالعَذْب الزُّلال = جَرَى ، فَسَلْه : مَن الذي أجراكا ؟
وهكذا في كُلّ عِلْم .. وفي كُلّ فَـنّ ..
فاللُّغَوي في دَرْسِه .. والأديب في أدَبِه .. والشاعِر بِشِعْرِه ..
هذا بِلِسَانِه .. وذاك بِيَراعِه .. وثالث بِبَيَـانِه ..
فينبغي أن تُسخَّر كل العُلوم للانقياد لله الواحد القهّار ..
فَما خَلَق الله خَلْقا إلاَّ لِحكْمَة ..
ولا أوْجَد شيئا إلاَّ وله حظَّـه في توازُن هذا الكَون ..
فسبحان مِن خَلَق فَسَوّى .. وقَدَّر فَهَدى .. سبحان مَن خَضَعَ لِعَظَمتِه كلّ شيء .. وتبارك الذي أحسَن كلّ شيء خَلَقَه .. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) .
وللفائدة :
محاضرة .. فضل العلماء
https://www.youtube.com/watch?v=oFaHuz-YBOU
ورثة ذي الخويصرة منتقدو العلماء والشريعة
https://www.youtube.com/watch?v=lsFdGchpN0E
خُطبة جمعة عن .. (حقوق وقدر العلماء)
https://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?p=22351
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم