أُستاذي وشيخي وقدوتي ومعلِّمي وإمامي
ليست مبالغة بل هي الحقيقة
وليس هذا من الغلو
وما هذا من التعصّب ، فكلّ تعصب مذموم إلاّ ما كان له
وكل إمام يُرد عليه إلا هذا الإمام
وكل شيخ يَصدر عن شيوخه إلا هذا الشيخ
قال ابن القيم رحمه الله :
العلم الصافي هو العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .وكان الجنيد يقول دائما : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يُقتدى به .وقال أيضا : علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو سليمان الداراني : إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة . وقال النصر آبادي : أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة ، وترك الأهواء والبدع ، والاقتداء بالسلف ، وترك ما أحدثه الآخرون ، والإقامة على ما سلكه الأولون .
فهذا العلم الصافي المتلقّى من مشكاة الوحي والنبوة يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية .
وحقيقتها : التأدب بآداب رسول الله باطنا وظاهرا ، وتحكيمه باطنا وظاهرا ، والوقوف معه حيث وقف بك ، والمسير معه حيث سارَ بك ، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألْقَيت إليه أمرك كله سرّه وظاهره ، واقتديت به في جميع أحوالك ، ووقفت مع ما يأمرك به فلا تخالفه ألبته ، فتجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لك شيخا وإماما ، وقدوة وحاكما ، وتعلّق قلبك بقلبه الكريم ، وروحانيتك بروحانيته ، فتجيبه إذا دعاك ، وتقف معه إذا استوقفك ، وتسير إذا سارَ بك ، وتقيل إذا قال ، وتنزل إذا نزل ، وتغضب لغضبه ، وترضى لرضاه ، وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك ، وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزله ما تسمعه من الله بإذنك .
وبالجملة : فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك ، وتُسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ ، كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية ، ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك .
وهذان التجريدان : هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه ، ورسوله المطاع المتَّبع المُهتدَى به الذي لا يستحق الطاعة سواه، ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعا للأصل .
وبالجملة : فالطرق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول واقتدى به في ظاهره وباطنه .
فلا يتعنّى السالك على غير هذا الطريق، فليس حظّه من سلوكه إلا التعب ، وأعماله ﴿ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ .
ولا يتعنّى السالك على هذا الطريق ، فإنه واصل ولو زحف زحفا ، فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قعدت بهم أعمالهم ، قامت بهم عزائمهم وهممهم ومتابعتهم لنبيهم ، كما قيل :
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشي رويدا وتجي في الأول
والمنحرفون عن طريقه إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم قعد بهم عدولهم عن طريقِه . انتهى كلامه رحمه الله .
وقد كثُرت الدعاوى في اتِّباعه صلى الله عليه وسلم
وكثُر المدّعون لمحبته الذين يزعمون أنهم قد استمسكوا بسنته ، واتّبعوا هديه إلا أن الواقع يُصدّق تلك الدعوى أو يُكذّبها، فكم تُعظّم أقوال بعض الشيوخ على حساب قوله عليه الصلاة والسلام
وكم تُقدّم آراء الرجال على رأيه صلى الله عليه وسلم بحجة : هل أنت أعلم مِن فلان ؟!
أو بمتعلّق قال فلان : كذا ، وقال فلان : كذا ! ولستَ بأكثر علما واطّلاعاً منهم !
أو في مذهبي كيت وكيت !
وكم يُردّ قوله عليه الصلاة والسلام ولا تُرد الأعراف
وكم يُساء الأدب مع سيد ولد آدم
وكم يُتقدّم بين يديه
وكم .. وكم ..
فهذا التساقط في الأسوة والقدوة والتخلّف في الانتساب إلى مُعلّم البشرية عليه الصلاة والسلام
كافية بتعرية تلك الدعاوى في الاتِّباع
واضحة في تعظيم الشيوخ أكثر من تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام
تُسطّر برهانا جليّـاً أن أقوال الرجال أكثر إجلالاً في نفوس الأتباع من أقول النبي المجتبى والرسول المصطفى .
تقول بكل وضوح :
والدعاوى ما لم يُقيموا عليها *** بيّنات أبناؤها أدعياءُ
فالقول في واد ، والفعل في واد
ورب العالمين قال في محكم التنزيل :
﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾
وقال رب العزة سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ إن كنتم صدقتم في دعوى الإيمان بالله واليوم الآخر فردّوا ما تنازعتم فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم .
عندما تتناقش مع طالب علم – فضلا عن جاهل – في مسألة ما ، فتراه يُقدّم أقوال الرجال ، وآراء أهل العلم قبل أن يُقدّم الدليل من الكتاب والسنة .
فإذا ما استحضرت الدليل وسُقته له على أحسن نسق ، مُبيّناً مَن روى الحديث بل ودرجته ، فتُفاجأ به يقول : قال شيخنا كذا !
فيتبادر إلى ذهنك قول ابن عباس رضي الله عنهما : ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض ؟! أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟!
أو قول ابن عمر رضي الله عنهما : أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟!
لقد قدّم ابن عمر رضي الله عنهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول أبيه !
ومن هو أبوه في الإسلام ؟
هكذا تكون الأسوة والقدوة .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم