إذا مـسّ بالسراءِ عـمَّ سرورُها
نِعَم الله تترى على العباد في كل لحظة ، بل مع كل نَفَس ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )
وواجب العبد نحو نِعمِ ربِّه أن يَشْكرَهـا ولا يكفرها.
لأن النِّعم إنما تدوم وتُستدرّ بالشُّكر .
فما هو الشُّـكُـر ؟
وكيف يكون ؟
الشُّكر هو : الثناء على المحسن بذِكرِ إحسانه بما أولاكه من المعروف .
وقيل : هو تصورُ النعمةِ وإظهارُها .
قال سهل بن عبد الله : الشكر : الاجتهاد في ذل الطاعة ، مع اجتناب المعصية في السر والعلانية .
وقال الجُنيد : الشكر ألاّ يُعصى اللهَ بِنِعَمِه .
وقال الشِّبلي : الشكر : التواضع ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة جبار الأرض والسماوات . ( ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله ) .
وهل هناك أكثرُ إحساناً عليك وإنْعاماً ممن رزقك وأنت في بطن أمك ؟ وسوّغ لك الطعامَ والشراب ؟ وألبسك لباسَ الصحة والعافية ؟ وأعطاك المال والأهل والولد ؟
وذكّرك مولاك بنعمته فقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
قال مجاهدٌ وغيره : هذه نِعمٌ من اللهِ متظاهرة يُقرِّرُكَ بـها كيما تشكر .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) : قال :
حقّ تقاته : أن يُطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر .
فالشُّكر إذاً من لوازم التقوى . ودخول الجنة مرتبط بتقوى الله ، وكذلك قبول العمل والدخول في رحمة أرحم الراحمين .
والشكر وصف ممدوح ووصف جليل ووصف محبوب
وقد وصف الله نبيّه نوحا بأنه ( كَانَ عَبْدًا شَكُورًا )
وامتدح الله عبده لقمان بأنْ آتاه الله الحكمة ورزقه الشكر ، فقال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) .
والشُّكر مما أهمّ الأنبياء كيفية أدائه
يُروى أن موسى عليه الصلاة والسلام قال يوم الطور : يا رب إن أنا صليت فَمِنْ قِبلك ، وإن أنا تصدقت فَمنْ قِبلك ، وإن أنا بلغت رسالتك فَمِنْ قِبلك ، فكيف أشكرك ؟ قال : الآن شكرتني .
والشُّكرُ يكون في ثلاثة مواضع :
بالقلب وباللسان وبالجوارح .
فبالقلب اعتقاداً أن الله وحدَه هو المنعمُ المتفضّلُ بـهذه النِّعم لقوله تبارك وتعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللّهِ )
وأن من سوى الله من الخلق إنما هم سببٌ لجريان شيء مِن النِّعم على أيديهم .
وفي الحديث : لا يَشكرِ اللهَ من لا يشكرِ الناس . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي الحديث الآخر : إن أشكر الناس لله عز وجل أشكرهم للناس . رواه الإمام أحمد .
وقال عليه الصلاة والسلام : من صنع إليكم معروفاً فكافئوه .
فهذا كلّه يدلُّ على شكرِ الناس لا على نسبةِ النعمة إليهم
وشكر الناس أمرٌ مطلوب ، كما قال الله تعالى : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ )
قال الحسن : قال موسى عليه السلام : يا رب كيف يستطيعُ ابن آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه ؛ خلقته بيدك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسكنته جنتك ، وأمرت الملائكة فسجدوا له ؟ فقال : يا موسى عَلِمَ أن ذلك مني ، فَحَمِدَنِي عليه ، فكان ذلك شكرا لما صنعته . رواه هناد في الزهد .
وقال صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله على عبد ، فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة . رواه الطبراني وغيره ، وصححه الألباني .
قال سليمان التيمي : إن الله أنعمَ على العباد على قدْرِه ، وكّلّفَهُم الشكرَ على قدْرِهم ، حتى رضيَ منهم من الشكر بالاعترافِ بقلوبهم بِنِعَمِهِ ، وبالحمد بألسنتِهم عليها .
ويكون الشكر باللسان لقوله تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )
فيتحدّث العبدُ بنعمة ربِّه عليه اعترافاً بـها ، وقبولاً لها ، وشكراً لمن أسداها ، وأنعمَ عليه بـها.
لو كلَّ جارحة منِّي لهـا لغـةٌ *** تثني عليك بما أوليتَ من حسنِ
لكان ما زان شكري إذا أشرتُ به *** إليك أجمل في الإحسان والمنن
فيتحدث العبد بنعمة الله عليه بلسان مقاله ، وبلسان حاله .
وفي صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : سيدُ الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .
فتضمّنَ الحديثُ الاعترافَ بنعمةِ اللهِ عليه .
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الطعام قال : الحمد لله الذي أطعم وسقى ، وسوّغه وجعل له مَخْرَجا . رواه أبو داودَ والترمذي .
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأَكْلَةَ فيحمدَه عليها ، أو يشربَ الشّرْبَةَ فيحمدَه عليها .
قال بكر بن عبد الله : ما قال عبدٌ قط : الحمدُ لله مرةً ، إلا وجبت عليه نعمةٌ بقوله : الحمدُ لله ، فما جزاء تلك النعمة ؟ جزاؤها أن يقولَ : الحمد لله ، فجاءت نعمـةٌ أخرى فلا تنفد نعماءُ الله . رواه ابن أبي الدنيا في الشكر .
فكلُّ نعمة فمن الله وحدَه حتى الشكر فإنه نعمةٌ وهي مِنْـهُ سبحانَه ، فلا يطيقُ أحدٌ أن يشكرَه إلا بنعمته ، وشكرُه نعمةٌ مِنْهُ عليه ، كما قال داود عليه الصلاة والسلام : يا رب كيف أشكرُك وشكري لك نعمةٌ من نعمك عليّ تستوجبُ شكراً آخر ؟ فقال : الآن شكرتني يا داود . ذكره الإمام أحمد في الزهد .
وذَكَرَ عن الحسن أنه قال : قال داود : إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهرَ كلَّه لما أدّوا مالَكَ عليّ من حقِّ نعمة واحدة .
إذا كان شكري نِعْمَةَ الله نعمةً *** عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ
فكيف وقوعُ الشكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيامُ واتصل العمر
إذا مس بالسراءِ عمَّ سرورُها *** وإن مسَّ بالضراءِ أعقبها الأجر
وما منهما إلاّ لـه فيه مِنّـةٌ *** تضيقُ بها الأوهامُ والبـرُّ والبحر
وكتب ابن السماك إلى محمد بن الحسن – حين وَلِيَ القضاء – : أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كلِّ حال ، وخفِ الله من كل نعمة أنعم بـها عليك من قِلّةِ الشكر عليها مع المعصية بـها ، فإن في النعم حُجـةٌ ، وفيها تَبِعَةٌ ؛ فأما الحجةُ بـها فالمعصيةُ بـها ، وأما التبعةُ فيها فقلّة الشكر عليها ، فعفى الله عنك كلما ضيعت مِـنْ شكر ، أو ركبت من ذنب ، أو قصرت من حق .
هذا تحـدّثٌ بالنعمة بلسان المقال
وأما بلسان الحال ففي لباس الإنسان ولباس أولاده وحالهم لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يُحب أن يُرى أثـرُ نعمتِه على عبده . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وفرق بين أن يَرى الخلق أثـر النعمة وبين الإسراف .
لقوله عليه الصلاة والسلام : كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة . رواه البخاري تعليقا ، رواه الإمام أحمد والنسائي .
وقال ابن عباس : كل ما شئت والبس واشرب ما شئت ، ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة . علّقه البخاري ، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق موصولا .
وفي المسند وغيرِه عن أبي الأحوص الجُشَميّ عن أبيه قال : رآني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أطمارٌ ، فقال : هل لك مال ؟
قلت : نعم .
قال : من أي المال ؟
قلت : من كل المال قد آتاني اللهُ عز وجل ؛ من الإبل والرقيق والخيل والغنم .
قال : فلتُرَ نِعَمُ اللهِ وكرامتُه عليك .
أي ليرى الناس أثر نعمة الله عليك ، فهذا من شُكرها بلسان الحال .
ويكونُ الشكرُ عَمَلاً بالجوارح بأن لا تعملِ الجوارحُ إلا بما يُرضي مولاها سبحانه .
فيعمل العبدُ بطاعة ربِّه ، خِدمةً لسيِّدِه ، لا يرى أنه صاحب معروف بعمله ، بل ينظر إلى أعماله كلِّها على أنـها قطرةٌ في بحر جودِ مولاه جل جلاله ، وأنه مهما عمِلَ من عمل فإنه لا يؤدّي شُكرَ أقلَّ نعمة يتقلّبُ بـها ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )
وقد أنعم الله عز وجل على العبد بالجوارح والأعضاء التي لا تُقدّر بثمن ، ولو كانت تُباع أو تُشترى لكان الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال أكثر الناس تمتعاً بالصّحة !
جاء رجلٌ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله قائلاً : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبدُ الله : ألك امرأةٌ تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك مسكنٌ تسكنُه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال الرجل : فإن لي خادماً . قال : فأنت من الملوك ! رواه مسلم .
وشكا رجل ضيقَ حالِه إلى يونسَ بنِ عبيد ، فقال له يونس : أيسرُّك أن لك ببصرك هذا الذي تُبصرُ به مائةَ ألفَ درهم ؟ قال الرجل : لا . قال : فَبِيَدِكَ مائةَ ألفَ درهم ؟ قال : لا . قال : فَبِرجليك ؟ قال : لا . قال فذكّـره نعمَ اللهِ عليه ، فقال يونس : أرى عندك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة . رواه أبو نعيم .
قال ابن القيم رحمه الله :
ويكفي أن النَّفَـسَ من أدنى نِعَمِهِ التي لا يكادُون يعدّونها ، وهو أربعةٌ وعشرون ألفَ نَفَس في كل يوم وليلة . فـ لِلّه على العبد في النَّفَس خاصةً أربعةٌ وعشرون ألفَ نعمة كلَّ يوم وليلة . دع ما عدا ذلك من أصناف نِعَمِهِ على العبد ، ولكل نعمة من هذه النعم حقٌّ من الشكر يستدعيه ويقتضيه . اهـ .
جسدك هذا الذي تتمتّع به ومتّعه الله بالصحة سوف تُسأل عنه
قال عليه الصلاة والسلام : إن أولَ ما يُسألُ العبدُ عنه يومَ القيامة من النعيم أن يُقالَ له : ألم نُصحِّ لك جسمَك ، ونُرويك من الماء البارد ؟ حديث صحيح رواه الترمذي وغيره .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عَـدّ الماء البارد من النعيم الذي سوف نُسأل عنه ، قال جابر ابن عبد الله : جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، فأطعمناهم رطبا وسقيناهم من الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا من النعيم الذي تسألون عنه . رواه أحمد وغيره وهو صحيح
قال ابن مسعود : النعيم : الأمن والصحة .
قال أبو الدرداء : كم من نعمة لله في عرق ساكن .
وقد ذكّر الله عز وجل بهذه الجوارح فقال : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
وامتن الله عز وجل على العباد بالجوارح فقال : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
وما ذلك إلا لأن هذه الجوارح المذكورة هي وسائل المعرفة والإدراك ، فأيُّ عمل عَمِلَتَ بها ؟
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى الآيات التي ورد فيها السمع والبصر والفؤاد ثم قال :
وهذا كثير جدا في القرآن ؛ لأن تأثره بما يراه ويسمعه أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه ، ولأن هذه الثلاثة هي طرق العلم وهي : السمع والبصر والعقل ، وتعلّق القلب بالسمع وارتباطه به أشدّ من تعلقه بالبصر وارتباطه به ، ولهذا يتأثر بما يسمعه من الملذوذات أعظم مما يتأثر بما يراه من المستحسنات ، وكذلك في المكروهات سماعا ورؤية ، ولهذا كان الصحيح من القولين أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لشدّة تعلقها بالقلب وعظم حاجته إليها ، وتوقف كماله عليها ووصول العلوم إليه بها ، وتوقف الهدى على سلامتها . اهـ .
ثم إن العبد إذا شكر كان هو المستفيد على كل حال ، وذلك لعدّة أمور :
الأول : أن الشكر عبادة يُثاب عليها الشّاكر .
الثاني : أن الله وعد بالمزيد لمن شكـر .
فاشكروا الله على نِعَمِهِ يَزِدْكُـم ، فإن الله تبارك وتعالى وعـد الشاكرين بالمزيد ، وتوعّد الكافرين بالعذاب الشديد ، فقال : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )
قال الربيعُ بنُ أنس : إن الله ذاكرٌ من ذكره ، وزائدٌ من شكره ، ومعذبٌ من كفره .
الثالث : أن العبد إذاعَمِلَ بشكر الله واتّقاه في هذه الجوارح ، فإن الله يحفظ عليه جوارحه ، وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله ، فوثب يوما وثبة شديدة ، فعوتب في ذلك ، فقال : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر .
ولا يكفي الاعتراف بالنّعمة فحسب بل لا بدّ من شكر الله عليها ، مهما دقّت وصغُرت .
ثم لا يتصور العبد أن الله أنعم عليه بـهذه النِّعم لكونه أهلاً لها .
قال ابن القيم في قوله تعالى : ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ) قال :
فهو قد اعترف بأن ربَّـه هو الذي آتاه ذلك ، ولكن ظن أنه لكرامته عليه فالآيةُ تتضمن ذم من أضاف النِّعـم إلى نفسه وعِلْمِه وقوَّتِه ، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه ، وذلك محض الكفر بـها . فإن رأسَ الشكر الاعترافُ بالنعمة ، وأنـها من المنعم وحدَه ، فإذا أضيفت إلى غيره كان جَحْداً لها ، فإذا قال أوتيته على ما عندي من العلم والخُبرة التي حصّلت بـها ذلك ، فقد أضافها إلى نفسه وأُعجب بـها ، كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا من أشد منا قوة ؟! فهؤلاء اغتروا بقوّتـهم ، وهذا اغتر بعلمه فما أغنى عن هؤلاء قوتُـهم ، ولا عن هذا علمُه .
[ وتضمنت الآية ] ذمّ من اعتقد أن أنعام الله عليه لكونه أهلا ومستَحِقّـاً لها ، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بـها على الله أن ينعم عليه ، وأن تلك النعمة جـزاءٌ له على إحسانه وخيره ، فقد جعل سبَبَها ما اتصف به هو لا ما قام بربِّه من الجود والإحسان والفضل والمنة ، ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكرُ أم يكفر . اهـ .
وأركان النعمة ثلاثة يجمعها قوله عليه الصلاة والسلام :
من أصبح منكم آمنا في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا . رواه الترمذي وابن ماجه .
والشكر العملي أبلغ من الشكر بالقول
فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورّمتْ وتفطّرتْ قدماه ، فيُقال له : قد غفرَ الله لك ما تقدّم من ذنبكَ وما تأخّر ، فيقولُ : أفلا أكونُ عبداً شكورا . متفق عليه .
ولما قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحقّ وأولى بموسى منكم ، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه . متفق عليه .
هذا هو شأن الأنبياء كلما تجددت لهم نعمة جددوا لله شكراً ، قال سبحانه عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس بين يديه : ( هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )
وقد أمر الله بشكره فقال : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )
والشّكر أعم من أن يكون في مقابلة نعمة ظاهرة أو متجددة
ولذا قال الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) ؟
ولما ذكر الله تبارك وتعالى كفارة الأيمان قال بعدها : ( ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
فهذه نعمة تستوجب الشكر .
ماذا لو لم يكن للعبد فسحة في يمين عقدها ؟
ماذا لو لم يكن ثمّ كفارة ؟
وليحذر العبد استدراج الله في النِّـعَـم .
فقد روى الإمام أحمد وغيره عن عقبةَ بنِ عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيتَ اللهَ يعطي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) حديث حسن .
ثم ليُعلم أن شُكـر النعم يُقابلُه كفـرانُ النِّعـَم
وقد ضرب الله لنا مثلا بقرية آمنة وادعة مطمئنة فلما غيّرت غُيّر عليها !
( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ )
فتلك قريةٌ كانت آمنةً أكثرَ ما يكون الأمان ، وادعةً هادئة ، والنِّعمُ أوفرُ ما تكون ، فكفرت بأنعم الله فأصابتها سُنّةٌ ربانية لا تتبدّل ولا تتخلّف ، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما صنعوا ، وبما كَسَبَتْ أيديهم .
قال ابن كثير – رحمه الله – : ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ) أي هنيئا سهلا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله ، أي جحدت آلاءَ الله عليها ، كما قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأوّلين خلافَهما ، فقال : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف أي ألبسها ، وأذاقها الجوع بعد أن كان يُجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان .اهـ .
وكفرانُ النِّعم له صورٌ منها :
* أن يعتقد أن الذي أنعـم عليه بتلك النِّعمة فـلان من الناس ، لا أن يَشكُرَه عليها ، ففرق بين شكر الناس وبين نسبة النّعمة إليهـم ، فالأول محمود ، والثاني مذموم .
* أو ينسب النعمـة إلى غير المنعـم الحقيقي ، فينسب النّعمـة إلى غير رب العزّةِ سبحانه . كأن يقول هذا من خير فلان وما شابه ذلك . والخيرُ كلُّه بيدِ الله وحدَه .
* أو لا يقبل تلك النعمة ، بأن يردّها أو يحتقرها ، كما قال الشاعر الملحد – قـبّحه الله – حيث قال : أنا أرفض الإحسان من يدِ خالقي ..
* أو يرى أنه أحقُّ بالنّعمة ممن أُنعِم عليه ، فيتّهمَ ربَّه بعدم الحكمة أو الجَـوْر
* أو يزدري ويحتقر نِعمة الله عليه إذا ما قارنـها بما أنعمَ الله به على غيره ، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والخَلْق فلينظر إلى من هو أسفلَ منه . متفق عليه .
وفي رواية لمسلم : انظروا إلى من أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فَوقَكُم ، فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله عليكم .
* أو يعتقدَ أن إنعامَ الله عليه لكونِهِ أهلا ومستَحِقّـاً لتلك النِّعمة .د
* أو يستعينَ بنِعم الله على معاصيه ، وهذا قبيحٌ لو كان في حقِّ آحـادِ الناس ، فكيف وهو في حقِّ المنعم المتفضِّل سبحانه ومن بيده الخيرُ أجمع ؟
* أو يُسرفْ في مأكله ومشربه وملبسه .
فكلُّ هذا يُنافي شُكرَ النعم . فمن أظلمُ ممن قابل الإحسانَ بالإساءة .
وقد دلّنا وأرشدنا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم إلى أدب من آداب الإسلام مع الطعام بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا وقعت لقمةُ أحدِكم فليأخذْها فَلْيُمِطْ ما كان بها من أذى ، ولْيأكلها ، ولا يَدَعْها للشيطان . رواه الإمام مسلم عن جابر .
فهذا يدلُّ على شكرِ النِّعْمَة .
وكان من هديِه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه . كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
بل إنه عليه الصلاة والسلام وَجَدَ تمرةً ملقاة في الطريق فقال : لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها . متفق عليه .
قال رجل عند عمر : اللهم أجعلني من القليل . فقال عمر : ما هذا الذي تدعو بـه ؟ فقال : إني سمعت الله يقول :
( َوَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعلني لك شكّارا . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
ومعنى ” شكّارا ” أي كثير الشُّكر .
واعلم أن الشكر مع الإيمان أمان من عذاب الله ، لقوله تبارك وتعالى : ( مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا )
و النِّعم إذا شُكرت قـرّت ، وإذا كُفِرت فَـرّت .
إذا كنت في نعمة فارْعَها *** فإن المعاصي تُزيلُ النعم
وحُطها بطاعة ربِّ العباد *** فربُّ العبادِ سريعُ النِّقم
وقد أوصى أحدُ الحُكماءِ ابنه ، فقال : يا بُنيّ إذا مَـرَّ بك يومٌ وليلة قد سَلِمَ فيها دينك وجسمك ومالك وعيالك ، فأكثِر الشكرَ لله تعالى ، فكم من مسلوب دينه ، ومنـزوع ملكه ، ومهتوك ستره ، ومقصوم ظهره في ذلك اليوم وأنت في عافية . وقال : اعتبر بما لم تَـرَهُ من الدنيا بما قد رأيتَه ، وبما لم تسمعه بما قد سمعتَه ، وبما لم يصبك بما قد أصابك ، وبما بقي من عُمُرِك بما قد فني ، وبما لم يَبْلَ منك بما قد بَلِي .
فهذه أركانُ النِّعمة ( الأمن في الأوطان – والصحة في الأبدان – وملك قوت يوم ) مَنْ رُزِقَهَا فقد رُزِقَ خيراً كثيراً .
ولا تتم النّعمة إلا بتمام هذه الأركان الثلاثة .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
مبنى الدين على قاعدتين : الذكر والشكر .
قال تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : والله إني لأحبك ، فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .
وليس المراد بالذكر مجرد الذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني ، وذِكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه ، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح ، وذلك لا يتم إلا بتوحيده ، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ، ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه .
وأما الشكر فهو القيام بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابِّه ظاهرا وباطنا ، وهذان الأمران [ الذِّكر والشكر ] هما جماع الدِّين ؛ فذِكْرُه مستلزم لمعرفته ، وشكره متضمن لطاعته ، وهذان هما الغاية التي خَلَقَ لأجلها الجن والإنس والسماوات والأرض ، ووضَعَ لأجلها الثواب والعقاب ، وأنْزَلَ الكتب ، وأرسل الرسل ، وهى الحق الذي به خلقت السماوات والأرض وما بينهما ، وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه وهو ظن أعدائه به … فغاية الخلق والأمر أن يذكر وأن يشكر ، يذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ، وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره ، شاكر لمن شكره ، فذكره سبب لذكره ، وشكره سبب لزيادته من فضله ، فالذكر للقلب واللسان والشكر للقلب محبة وإنابة وللسان ثناء وحمد وللجوارح طاعة وخدمة . انتهى كلامه – رحمه الله – .
فإذا تأملت في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ألا يدع في دبر كلِّ صلاة أن يقول : اللهم أعني على ذِكرك وشُكرِك وحسن عبادتك . علمت أنه لا قيام للعبد بـهذه الأشياء – مِن ذكره وشكره وحسن عبادته سبحانه – إلا بإعانته سبحانه عليها ، وهذا يستلزم من العبد ويُحتّم عليه أن يجتهد في سؤال الله هذه المسألة العظيمة ، وأن يجعلها في صلاته .
وقال ابن القيم – رحمه الله – :
فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها … فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها ، ولا عرّضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله ، وهو كفران النعمة ، وهو باب إلى كفران المنعم ، فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يُقاتلون عنه وهو نائم على فراشه . ( بدائع الفوائد 2/467 ) اهـ .
فائدة :
الفرق بين الحمد والشّكر
أما الحمد فهو أعم من الشكر ، وبينهما عموم وخصوص .
فالحمد هو الثناء الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرها .
وقيل : هو الثناء على المحمود بما هو أهله .
وذكر ابن القيم فروقا بين الحمد والشكر ( بدائع الفوائد 2/467 ) فقال :
الشكر عبارة عما يُكافأ به المنعم من ثناء أو فعل ، وكذلك نقيضه وهو الكفر عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح . اهـ .
فالشكر يكون لله ويكون لغيره ، وأما الحمد فلا يكون إلا لله وحده .
قال ابن الملقن رحمه الله : وقد أكثر الناس في الحمد والشكر وأيهما أخصّ ؟
والتحقيق أن بينهما عموم وخصوص من وجه فيجتمعان في ثناء في مقابلة نعمة ، ويوجد الحمد بدون الشكر في ثناء ولا مقابل نعمة .
والشكر بدون الحمد في فعل مقابل لنعمة ، فليس كل حمد شكراً ، ولا كل شكر حـمداً .
نعم متعلّق الحمد وهو المحمود عليه أعمّ من متعلق الشكر ، فكل ما يصحّ الشكر عليه يصح الحمد عليه ، ولا ينعكس . اهـ .
ومِن محامده عليه الصلاة والسلام – إذا قام من الليل يتهجد – :
اللهم لك الحمد أنت قـيّم السماوات والأرض ومن فيهن .
ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن .
ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن .
ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض .
ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق ، والساعة حق .
اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخِّر ، لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك . رواه البخاري ومسلم .
ومن دعائه عليه الصلاة والسلام :
رب اعني ولا تُعن عليّ ، وانصرني ولا تنصر عليّ ، وامكر لي ولا تمكر عليّ ، واهدني ويسر الهدي لي ، وانصرني على من بغى عليّ ، رب اجعلني لك شكّـارا ، لك ذكّـارا ، لك رهّابا ، لك مطواعا ، إليك مخبتا ، لك أوّاها منيبا ، رب تقبل دعوتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبت حجتي ، واهد قلبي ، وسدد لساني ، واسلل سخيمة قلبي . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
فالحمد لله على نعمائه ، والشكر له على آلائه
والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
الرياض صفر / 1424 هـ