أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟!
قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟
قلنا : لا والله ! وهى تقدر على أن لا تطرحه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أرحم بعباده من هذه بولدها . رواه البخاري ومسلم .
هكذا اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم الموقف ليُذكّر أصحابه ويعِظهم
وليذكّرهم بسعة رحمة الله عز وجل
أن الله هو أرحم الراحمين
وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها
وكان يقول لهم : إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض ، فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار .
ولكنه مع ذلك لا يغفل عن الموازنة
فقد قال لهم : لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد .
فلا إفراط ولا تفريط
ورحمة الله عز وجل وسعت كل شيء فـ يا لحرمان المحرومين
ويا لبُعد الملعونين
ويا لشقاء المطرودين
يوم لا يسعهم واسع الرحمة
يقول رب العزة سبحانه :
( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ )
وفي دعاء الملائكة
( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ )
فيا لحرمان المطرودين الملعونين الذين رضوا بالذل والهوان ، ورضوا بأ يُطردوا ويُبعدوا عن رحمة أرحم الراحمين
ويا لبعد القلوب القاسية
تلك القلوب التي تهزأ بالصخر قساوة
( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ )
أمَـا إن من القلوب ما يفوق الصخر قساوة
ومن العيون ما يفوق الأرض الجدباء جفافا
فلا قلوبهم ترحمهم
ولا أعينهم تدمع
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع
فما تُنزع الرحمة إلا من قلب شقي
قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أتُقبِّلون صبيانكم ؟! فقالوا : نعم ، فقالوا : لكنا والله ما نُقبّل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَأَمْلِك إن كان الله نزع منكم الرحمة ؟! رواه البخاري ومسلم .
ولما قدم الأقرع بن حابس فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم يُقبّل الحسن ، فقال : إن لي عشرة من الولد ما قبّلت واحدا منهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه من لا يرحم لا يرحم . رواه البخاري ومسلم .
إن الرحمة بالولد قبل غيره من أسباب رحمة الله عز وجل بالوالد
قالت عائشة رضي الله عنها : جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها ، فأطعمتها ثلاث تمرات ، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها ، فاستطعمتها ابنتاها ، فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما ، فأعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة ، أو أعتقها بها من النار . رواه مسلم .
وعند البيهقي في شُعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة منكم إلا رحيم . قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم . قال : ليس رحمة أحدكم نفسه وأهل بيته حتى يرحم الناس .
وتتعدى الرحمة بني الإنسان حتى يؤمر برحمة الحيوان البهيم
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، أو قال : إني لأرحم الشاة إن أذبحها ، فقال : والشاة إن رحمتها رحمك الله . رواه الإمام أحمد .
ولا تجتمع الرحمة والشقاوة .
قال عليه الصلاة والسلام : لا تُنـزع الرحمة إلا من شقي . رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود .
ولا يصلح الأشقياء إلا للنار
كيف بهم إذا سمعوا هذا النداء
وإذا سمع هذا الأمر الرباني :
( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَة ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ )
” والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى ، وطبائع أجسى ، وجِبلاّت لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات ، ومشاهد وصور كهذه المشاهد والصور المثيرة “
أما لو علم العباد بما أعدّ الله عز وجل لعباده المؤمنين وما لهم من الكرامة لما فتروا عن الطّلب
قال عليه الصلاة والسلام :
إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، فيسألهم ربهم – وهو أعلم منهم – : ما يقول عبادي ؟ قال : تقول : يُسبّحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال : فيقول : هل رأوني ؟ قال : فيقولون : لا والله ما رأوك . قال : فيقول : وكيف لو رأوني ؟ قال : يقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ، وأشد لك تمجيدا ، وأكثر لك تسبيحا . قال : يقول : فما يسألونني ؟ قال : يسألونك الجنة . قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون لا والله يا رب ما رأوها . قال : يقول : فكيف لو أنهم رأوها ؟ قال : يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا ، وأشد لها طلبا ، وأعظم فيها رغبة . قال : فمم يتعوذون ؟ قال : يقولون : من النار . قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله يا رب ما رأوها . قال : يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارا ، وأشد لها مخافة . قال : فيقول : فأشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ، إنما جاء لحاجة . قال : هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم . رواه البخاري ومسلم .
اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلوب
ونعوذ بك اللهم من الشقاء
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير . رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطيهما من تشاء ، وتمنع منهما من تشاء ، ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم