لن تَنَالُوا هَذا الأمْر بِالْمُغَالَبَة
إن دِين الله وسَط بين الغالي فيه والجافي عنه ..
وفي الحديث : إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ . رواه البخاري .
وحدَّث بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه فقَال : خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ ، فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعًا ، فَإِذَا نَحْنُ بَيْنَ أَيْدِينَا بِرَجُلٍ يُصَلِّي يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُرَاهُ يُرَائِي ؟ فَقُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَتَرَكَ يَدِي مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُصَوِّبُهُمَا وَيَرْفَعُهُمَا وَيَقُولُ : عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا . عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا . عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ . رواه الإمام أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وَقَالَ أُبيّ بْنُ كَعْبٍ : اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : دِين اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ ، وَالْجَافِي عَنْهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفِرَ : إمَّا إفْرَاطٌ فِيهِ وَإِمَّا تَفْرِيطٌ فِيهِ . اهـ .
وإن مما أَمَر الله به : قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار .
قال الله عزّ وَجَلّ ” مُخْبِرًا رَسَوله وآمِرًا له أن يَقول ” : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ)
والأحاديث في هذا كثيرة معلومة ..
والغِبْطَة إنما تكون في حقّ مَن أوتِي القرآن ، فقام به وتَلاه آناء الليل وأطراف النهار .
وفي الحديث : لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : ” لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ..
وفي الحديث الآخر : لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ الْقُرْآنَ ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ .. الحديث . رواه البخاري .
وإن هذا الأمْر اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِالأَمْرَيْنِ : الإفراط والتفريط .
فالناس بين طرفين ووسَط ؛ طَرَف جَفَا القرآن وتَجافَى عنه . وطَرَف وقَع فيما نُهي عنه فيما يتعلق بقراءة القرآن ، والوسَط أن يُقرأ القرآن ما ائتلفت عليه القلوب ، وأن لا يُؤذَى أحد بِرَفْع الصوت بالقرآن .
قال عليه الصلاة والسلام : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ . رواه البخاري ومسلم .
ألا وإن قارئ القرآن على خَطر عظيم إذا دَخَله العُجب والرياء ..
وفي الحديث : إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ – فَذَكَر منهم – : وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِي النَّارِ . رواه مسلم .
ومِن هنا جاء النهي عن رفع الصوت بالقرآن بحيث تختلط الأصوات ، ومَن كان صوته أعلى كانت له الغَلَبَة في المسجد الواحد ! ويُقاس عليه رفع الصوت بين المساجد بل هو أشدّ إذْ أنه مِن خلال وسائل تَرْفَع الصوت أضعافا مضاعفة ؛ لأن ذلك سبيل الرياء وطريق العُجْب .
ونَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن رَفْع الصوت بالقرآن .
فَعَن عبد الله بن عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ وَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَحَدُكُمْ مَا يُنَاجِي رَبَّهُ ، وَلاَ يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ . رواه الإمام مالك وأحمد والنسائي في الكبرى والبيهقي وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني . وهو حديث صحيح .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُون بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ ، فَكَشَفَ السُّـتُورَ ، وَقَالَ : إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ . رواه الإمام مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى وابن خزيمة وعبد بن حميد والحاكم – وصححه على شرط الشيخين – والبيهقي ، وهو حديث صحيح .
بل إن أفضل القراءة ما كان سِرًّا ؛ لأنه أبعد عن الرياء والأذى .
فَعَن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ ” رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
قال الترمذي : ومعنى هذا الحديث أن الذي يُسِرّ بِقِراءة القرآن أفضل مِن الذي يجهر بِقراءة القرآن ؛ لأن صدقة السِّرّ أفضل عند أهل العِلْم مِن صَدَقة العلانية . وإنما معنى هذا عند أهل العِلْم لكي يأمن الرَّجُل مِن العُجْب ، لأن الذي يُسِرّ العَمَل لا يُخاف عليه العُجب ما يخاف عليه مِن علانيته . اهـ .
وقراءة السِّرّ مُتَعَذِّرَة في الصلاة الجهرية ، ولكني قصدت سياق كلام الترمذي حول الحديث السابق وقوله : ” لكي يأمن الرجل مِن العُجب لأن الذي يُسِرّ العَمَل لا يُخَاف عليه العُجْب ما يُخَاف عليه مِن علانيته ” .
وهذا يقع فيه كثير مِن أئمة المساجد الذين يَرْفَعون أصواتهم مِن خلال المُكَبِّرَات الصوتية ، ولا مَأمَن مِن العُجب ، بل إن بعضهم يَقصد إظهار صوته ليقصده الناس ، والأدهى مِن ذلك إذا كان مُعْجبَا هو بصوته !
ومَن كان كذلك فهو واقِع في مَحْذُورَين :
الأول : رَفْع الصوت بالقرآن ، وهو مَنْهِيّ عنه .
الثاني : طلب الشُّهْرَة والبحث عنها ، وكان السلف أبْعد وأهرب الناس عنها !
وفي المسند مِن حديث ابن الأدرع السلمي رضي الله عنه قال : كنت أحرس النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرج لبعض حاجته قال فرآني فأخـذ بيدي فانطلقنا فَمَرَرْنا على رَجُل يُصَلِّي يَجهر بالقرآن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” عسى أن يكون مُرَائيا ” قال : قلت : يا رسول الله يُصَلِّي يَجْهر بالقرآن . قال فَرَفَض يَدِي ، ثم قال : ” إنكم لن تَنالوا هذا الأمْر بِالْمُغَالَبَة ” قال : ثم خرج ذات ليلة وأنا أحرسه لبعض حاجته ، فأخذ بيدي فَمَرَرْنا على رَجُل يُصَلِّي بالقرآن قال : فقلت : عسى أن يكون مرائيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” كَلاّ أنه أوَّاب ” قال فنظرت فإذا هو عبد الله ذو النجادين . حَسَّنَه الألباني .
أرأيتم .. ” إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة ” ، ولا بِالـتَّغَالُب في الأصوات ، ومَن كان أعلى وارفع وأنْدَى صوتا وأكثر صدىً ؟!
ومع ما في ذلك الفِعل مِن النهي إلاّ أنه يَدْخُل في التصنّع للناس والرياء
ولا شك أن العمل لله قد يَشُوبه شيء مِن الشرك الأصغر ، ألاَ وهو الرياء ، ولا أحد يزكي نفسه أو عَمَله ، أو يَدَّعِي أنه بَرَاء مِن هذا الداء ، فإن فَعَل ذلك فقد وقع في المحذور والمنهي عنه وهو تزكية النفس .
ومِن الناس من لو لم يقل ذلك بِلِسَان مَقَالِه فإن لِسَان حَالِه نَاطِق بذلك .
وفي الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام : مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ .
وبوّب عليه البخاري رحمه الله بـ ” باب الرياء والسّمْعة ” .
وأخرج مسلم مِن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ : أَنَا أَغْنَىَ الشّرَكَاءِ عَنِ الشّرْكِ ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ .
والأحاديث في هذا كثيرة ومعلومة
قَالَ قَتَادَةُ : إِذَا رَاءَى الْعَبْدُ ؛ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلائِكَتِهِ : انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي يَتَهَزَّأُ بِي !
ومما يترتّب على رَفْع الصوت بالقرآن : إزعاج الجيران .
وقد جاء التأكيد على هذا المعنى في الأحاديث وآثار السلف ، فمن ذلك :
وقد خَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّى يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ . قَالَ أَبِو قَتَادَةَ : وَمَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُصَلِّى رَافِعًا صَوْتَهُ ، قَالَ : فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم : يَا أَبَا بَكْرٍ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّى تَخْفِضُ صَوْتَكَ. قَالَ : قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : وَقَالَ لِعُمَرَ : مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّى رَافِعًا صَوْتَكَ . قَالَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ . زَادَ الْحَسَنُ بن الصباح فِي حَدِيثِهِ : فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا ، وَقَالَ لِعُمَرَ : اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا . رواه أبو داود والترمذي ، وصححه الألباني .
قال العيني :
واخْتَلَف الناس أي المقامين أفضل ؟ هل الـتَّنَاجِي سِرًّا مَع المولى أم الجهر ؟
لِمَا فيه مِن تَضاعف الأجر في تذكرة الغافل ؟ وطَرْد العدو ؟ وقال للصِّدِّيق : ” ارفع من صوتك ” حتى يقتدي بك مَن يَسْمَعك ، وهذا لِخُلُوص نِـيّتِه وسلامته عن الرياء ، وتَصديقه له في قوله : ” أسمعت من ناجيت ” ، والسِّرّ لِغَيره أفضل ، لأنه أقرب إلى الإخلاص ، وأسْلَم مِن الآفات. . اهـ .
والسنة أن يُسْمِع الإمام أهل المسجد ، لا أن يُسْمِع الجيران ، بل كثير من الأئمة يُسْمِع الحي أو الأحياء المجاورة !
قال علقمة : صَلّيت مع عبد الله بن مسعود ليلة كلها ، فكان يرفع صوته يقرأ قراءة يُسْمِع أهل المسجد . رواه ابن أبي شيبة .
ولا بُدّ مِن مُرَاعاة حق الجوار أينما كنت ، ولو كان ذلك في خيام مِنى ، أو في السَّفَر التي لا تتجاوز الإقامة فيها أياما معدودة !
قال الله عزّ وَجَلّ في الوصايا العَشْر : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قال الإمام البخاري : الْجَارُ الْجُنُبُ يَعْنِي : الصَّاحِبَ فِي السَّفَرِ . اهـ .
قال القرطبي في تفسيره : أما الجَار فقد أمَر الله تعالى بِحِفْظه ، والقيام بِحَقِّه ، والوصاة بِرَعي ذِمّته في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم . ألا تراه سبحانه أكَدّ ذِكْرَه بعد الوالدين والأقربين ؟
وعدم أذيّة الجار وإكرامه شرط للإيمان بالله واليوم الآخر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : مَن كان يُؤمِنُ بالله واليوم الآخِر فلا يُؤذي جارَه . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : مَن كان يُؤمِنُ بالله واليوم الآخِر فليكرم جارَه .
وإيذاء الجار سبب لعدم دخول الجنة ابتداءً كما أنه سبب لِنَفْي كَمَال الإيمان .
ففي حديث أبي شُرَيح رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : واللّهِ لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن . قيل : ومَن يا رسولَ الله ؟ قال : الذي لا يأمنُ جارهُ بوائقَه . رواه البخاري .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . رواه مسلم .
كُـن خير الجيران ..
فَعَن عبدِ اللّهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ عنْ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ : خيرُ الأصحابِ عندَ اللّهِ خيرُهُم لِصَاحِبِه ، وخَيرُ الجيرانِ عندَ اللّهِ خيرُهُم لِجَارِهِ . رواه أحمد والترمذي والدارمي ، وصححه الألباني .
وكُفّ أذاك ..
فَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ . رواه البخاري ومسلم .
ولا أرى الأبعدين سَلِمُوا مِن لِسانك فكيف بجيرانك ؟!
ولعلك تقول إن ذلك في الخير والصلاة وقراءة القرآن فأقول لك : تَذكّر قوله عليه الصلاة والسلام : ” إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ ” .
قال ابن الجوزي : اسْتِعْمَال الخير يَنبغي أن يَكون مَشْرُوعًا . اهـ .
هذا بالإضافة إلى ما في مثل هذا العَمل مِن نِسبة الإيذاء وعَدم مُراعاة شعور الآخرين : إلى الصالحين ، فيقول بعضهم : هؤلاء أئمة المساجد والصالحين لم يسلَم منهم جيرانهم !
وفِعْل كثير من الأئمة يذكّرني بقول ابن مسعود رضي الله عنه ـ عندما أنكر على أهل البدع : كم مريد للخير لن يصيبه .
فَهُم وإن أرادوا الخير فلم يصيبوه بفعلهم هذا الذي تضمن أذية الجيران بل تعدّى الأذى إلى غير الجيران .
وكم في هذه البيوت مِن مريض معذور بِترك الجماعة ، ومعذورة بِتَرك الصلاة ، وأطفال لم يَجْرِ القلم عليهم بَعْد ، هم في حاجة ماسة إلى الراحة ؛ أقلقت مضاجعهم ، وأيقظت أطفالهم ، وسببت لهم الإزعاج .
ألا تخشى – أخي إمام المسجد – بعد ذلك مِن دَعوة تُصيبك في جوف الليل ؟
أذكر أنني ليلة كنت مريضا ، وكان إمام المسجد قد رَفع صوت المكبِّرات ، فكان الصوت يدخل داخل البيوت ، ولا يترك مريضا لِأجل مرضه ، ولا مُتْعَبًا لِراحته .
بل لو أراد أحد أن يُصلِّي صلاة القيام في بيته لَمَا استطاع مِن علو أصوات كثير مِن أئمة المساجد .
والله المستعان .
19 / رمضان / 1431 هـ .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم