أقرب للتقوى
مِن طَبْع الإنسان أنه جحود (إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)
وفي الحديث : جَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ . رواه الترمذي ، وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وصححه الألباني .
ومِن طَبْع الإنسان : الْجَوْر
فجاءت الشرائع – فيما جاءت به – بإقامة العَدل (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
وأمَر أحكم الحاكمين بالعَدْل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)
والعَدل هو الإنصاف
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية : إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل ، وهو الإنصاف . اهـ .
وقد أمَرَ الحق تبارك وتعالى بالعدل حتى في الأقوال ، كما في قوله تبارك تعالى : (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) .
وفي بَيْعة العَقَبة أخَذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه : وأن نُقيم ألْسِنَتَنا بالعَدْل أينما كُنّا . رواه الإمام أحمد . وأصل الحديث في الصحيحين .
وتكرر الأمْر بالعَدل والقيام بالقسط
(كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)
(كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)
والعَدل كما يكون بالأفعال فإنه يكون بالأقوال (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)
وكما يُؤمَر بالعَدْل مع الأقربين (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) ، فإنه يُؤمَر به مع الأبعدين (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)
قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ .
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : أَبْصِرْ مَا تَقُولُ !
قَالَ : أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
قَالَ : لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالا أَرْبَعًا ؛ إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ ، وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ . رواه مسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولَمَّا كان أتباع الأنبياء هم أهل العِلْم والعَدْل ، كان كلام أهل الإسـلام والسنة مع الكفار وأهل البدع بالعِلم والعَـدْل لا بِالظَّّن ومَا تَـهوى الأنفس . اهـ .
والإنصاف هو أدب النفوس الكبيرة
قَالَ عَمَّارٌ رضي الله عنه : ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ : الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ . رواه البخاري تعليقا .
قال ابن القيم : وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أُصُولَ الْخَيْرِ وَفُرُوعَهُ ، فَإِنّ الإِنْصَافَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءَ حُقُوقِ اللّهِ كَامِلَةً مُوَفّرَةً ، وَأَدَاءِ حُقُوقِ النّاسِ كَذَلِكَ ، وَأَنْ لا يُطَالِبَهُمْ بِمَا لَيْسَ لَهُ ، وَلا يُحَمّلَهُمْ فَوْقَ وُسْعِهِمْ ، وَيُعَامِلَهُمْ بِمَا يُحِبّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ ، وَيُعْفِيَهُمْ مِمّا يُحِبّ أَنْ يُعْفُوهُ مِنْهُ ، وَيَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إنْصَافُهُ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَلا يَدّعِي لَهَا مَا لَيْسَ لَهَا ، وَلا يُخْبِثُهَا بِتَدْنِيسِهِ لَهَا ، وَتَصْغِيرِهِ إيّاهَا ، وَتَحْقِيرِهَا بِمَعَاصِي اللّهِ ، وَيُنَمّيهَا وَيُكَبّرُهَا وَيَرْفَعُهَا بِطَاعَةِ اللّه وَتَوْحِيدِهِ وَحُبّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالإِنَابَةِ إلَيْهِ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ عَلَى مُرَاضِي الْخَلْقِ وَمُحَابّهِمْ ، وَلا يَكُونُ بِهَا مَعَ الْخَلْقِ ، وَلا مَعَ اللّهِ ، بَلْ يَعْزِلُهَا مِنْ الْبَيْنِ كَمَا عَزَلَهَا اللّهُ ، وَيَكُونُ بِاَللّهِ – لا بِنَفْسِهِ – فِي حُبّهِ وَبُغْضِهِ وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَكَلامِهِ وَسُكُوتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ ، فَيُنْجِي نَفْسَهُ مِنْ الْبَيْنِ … وَالْمَقْصُودُ أَنّ إنْصَافَهُ مِنْ نَفْسِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةَ رَبّهِ وَحَقّهُ عَلَيْهِ ، وَمَعْرِفَةَ نَفْسِهِ وَمَا خُلِقَتْ لَهُ ، وَأَنْ لا يُزَاحِمَ بِهَا مَالِكَهَا ، وَفَاطِرَهَا ، وَيَدّعِي لَهَا الْمَلَكَةَ وَالاسْتِحْقَاقَ ، وَيُزَاحِمُ مُرَادَ سَيّدِهِ وَيَدْفَعَهُ بِمُرَادِهِ هُوَ ، أَوْ يُقَدّمُهُ وَيُؤْثِرَهُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَقْسِمُ إرَادَتَهُ بَيْنَ مُرَادِ سَيّدِهِ وَمُرَادِهِ ، وَهِيَ قِسْمَةٌ ضِيزَى …
فَلْيَنْظُر العبد لا يَكون مِن أهْل هذه القِسْمَة بيَن نَفسِه وشُركائه ، وبَيْن الله لِجَهْلِه وظُلْمِه ، وإلاّ لُـبِّس عليه وهو لا يَشْعُر ، فإن الإنسان خُلِق ظَلومًا جَهولا . فكيف يُطْلَب الإنصاف ممن وَصْفُه الظُّلْم والجهل ؟!
وكيف يُنصِف الْخَلْق مَن لم يُنْصِف الْخَالِق ؟
ثمّ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ نَفْسَهُ ، وَظَلَمَهَا أَقْبَحَ الظّلْمِ ، وَسَعَى فِي ضَرَرِهَا أَعْظَمَ السّعْيِ ، وَمَنَعَهَا أَعْظَمَ لَذّاتِهَا مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُعْطِيهَا إيّاهَا ، فَأَتْعَبَهَا كُلّ التّعَبِ ، وَأَشْقَاهَا كُلّ الشّقَاءِ مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُرِيحُهَا وَيُسْعِدُهَا ، وَجَدّ كُلّ الْجِدّ فِي حِرْمَانِهَا حَظّهَا مِنْ اللّهِ ، وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُنِيلُهَا حُظُوظَهَا ، وَدَسّاهَا كُلّ التّدْسِيَةِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُكَبّرُهَا وَيُنَمّيهَا ، وَحَقّرَهَا كُلّ التّحْقِيرِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُعَظّمُهَا ، فَكَيْفَ يُرْجَى الإِنْصَافُ مِمّنْ هَذَا إنْصَافُهُ لِنَفْسِهِ ؟
إذَا كَانَ هَذَا فِعْلَ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ فَمَاذَا تَرَاهُ بِالأَجَانِبِ يَفْعَلُ ؟
وَالْمَقْصُودُ أَنّ قَوْلَ عَمّارٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ : ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ : الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك ، وَبَذْلُ السّلامِ لِلْعَالِمِ ، وَالإِنْفَاقُ مِنْ الإِقْتَارِ ؛ كَلامٌ جَامِعٌ لأُصُولِ الْخَيْرِ وَفُرُوعِهِ . اهـ .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا يكن حُبُّكَ كَلَفَا ، ولا بغضك تَلَفَا ، فقيل له : كيف ذاك ؟ قال : إذا أحببت كَلِفْـت كَلَـف الصبي ، وإذا أبغضـت أحببت لصاحبك الـتَّلَف . رواه البخاري في ” الأدب المفرد ” .
وسُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عـن أهـل النهروان : أمُشْرِكُون هـم ؟ قال : مِن الشرك فـرُّوا .
قيل: أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يَذكرون الله إلاَّ قليلا .
فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إخواننا بَغَوا علينـا ، فقاتَلْنَاهم بِبَغْيِهم علينا . رواه وابن أبي شيبة والبيهقي .
وهو القائل رضي الله عنه : أني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) رواه ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي .
وقال الأحنف بن قيس رحمه الله : ثـلاث خِصـال تُجْتَلَب بهن الْمَحَبَّة : الإنصـاف في المعاشـرة ، والمواساة في الشِّدَّة ، والانطواء على المودة .
وقال أيضا : الإنصاف يُثْبِت المودة
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ما أحسن الإنصاف في كل شيء .
والإنصاف مِن أعَـزّ الأشياء وُجُودا !
ولذا كان العلماء يقولون : الإنصاف عَزيز !
قـال مالك بن دينار رحمه الله : وليس في الناس شيء أقلّ مِن الإنصاف .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ما أحسَن الإنصاف في كل شيء .
قال يونس بن عبد الأعلى : سمعت ابن وَهب يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : ما في زماننا شي أقلّ مِن الإنصاف .
قال القرطبي في تفسيره : قلت : هذا في زمَن مالِك ، فكيف في زماننا اليوم الذي عَمّ فِينا الفَسَاد وكَثُر فيه الطّغام ؟! وطَلب فيه العِلم للرئاسة لا للدّرَاية ، بل للظهور في الدنيا وغَلَبة الأقْران بِالْمِراء والْجِدَال الذي يُقَسّي القَلب ويُورث الضغن ، وذلك مما يَحْمِل على عدم التقوى وتَرك الخوف من الله تعالى .اهـ .
قال ابن عبد البر : مِن بَرَكة العِلْم وآدابه : الإنصاف فيه ، ومَن لم يُنصف لم يَفهم ولم يَتفَهّم . اهـ .
وقال جعفر بن سعد : ما أقلّ الإنصـاف ، ومـا أكثر الخلاف ، والخِلاف مُوكَل بِكُلّ شيء حتى القَذَاة في رأس الكُوز ، فإذا أردت أن تَشْـرب الماء حَـارَتْ إلى فِيك ، وإذا أردت أن تَصُبّ مِن رأس الكوز لِتَخْرُج رَجَعَتْ !!
وأكثر ما يَعزب الإنصاف إذا وَقع التخاصم ، وخاصة بين النساء وبين الضَّرَّات أخص ..
قال ابن سيرين رحمه الله : ظُلْمٌ لأخيك أن تَذْكُر منه أسوأ ما تَعْلم ، وتَكْتُم خَيْرَه .
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتصف بِخُلُق الإنصاف الرفيع حتى مع جَارَاتها ، فكانت تقول في حـق زينب بنت جحش رضي الله عنها : وهي التي كانت تُساميني منهن في المنـزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أرَ امرأة قط خيرا في الدِّين مِن زَينب وأتْقَى لله ، وأصْدَق حَدِيثـا ، وأوْصَل للرَّحِم ، وأعظم صَدقة ، وأشدّ ابتذالا لنفسها في العَمل الذي تَصدّق به وتَقرّب به إلى الله تعالى ، ما عَدا سَورة مِن حَـدّ كانت فيها تُسْرِع منها الفيئة .
وكونـها التي تنافسها وتُساميها في المنـزلة ، لم يمنعها ذلك مِن ذِكرِ محاسنها ، وما امتازتْ به مِن دِينٍ وتقوى .
ولو ذَكَرَتْ جارةٌ جارتـها فكأنما تذكر الشيطان !
ومن إنصـاف عائشـة رضي الله عنها قولها في حـق ضرّتـها الأخرى – سَودة رضي الله عنها – : ما رأيت امرأة أحبَّ إليّ أن أكون في مِسْلاخِها مِن سَودة بنت زَمْعَة ، مِن امـرأة فيها حِدّة . رواه مسلم .
وقولها رضي الله عنها – في شأن ميمونة رضي الله عنهـا – : ذَهَبَتْ والله ميمونة ، أمـا أنـها كانت مِن أتقانـا لله ، وأوْصَلنـا للرَّحِم . رواه أبو نعيم في الحلية ورواه ابن سعد على ما ذَكره الحافظ ابن حجر في الإصابة ، وقال الحافظ : وهذا سند صحيح .
وكانت تُنْصِف حتى مَن وَقع في عرضها ..
روى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ذهبت أسُبُّ حسّان عند عائشة – وكان ممن كَـثَّر عليها – فقالت : لا تسُبُّـه ، فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وحسّان رضي الله عنه تاب ونَدِم ، ومَدَح عائشة رضي الله عنها بقوله :
حصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبة ٍ***وتُصْبِحُ غَرْثَى من لحومِ الغوَافِلِ
حليلة ُ خيرِ الناسِ دينا ومنصبا *** نبيِّ الهُدى والمَكرُماتِ الفِوَاضِلِ
عقيلة ُ حيٍّ من لؤيّ بنِ غالبٍ *** كرامِ المساعي، مَجْدها غيرُ زائلِ
مهذبة ٌ قدْ طيبَ اللهُ خيمها *** وطَهَّرَها مِن كلّ سوءٍ وباطـلِ
وأوْرَد ابن كثير في ” البداية والنهاية ” أن عبد الله بن مطيع – داعية ابن الزبير – مَشَى هو وأصحابه إلى محمد بن الحنفية ، فأرادوه على خَلْـع يَزيد ، فأبى ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يَشرب الخمـر ، ويَترك الصلاة ، ويَتعدّى حُكم الكِتاب ، فقال لهم : ما رأيت منه ما تذكرون ، وقد حضرتُـه وأقمتُ عنده ، فرأيتُـه مواظبـا على الصلاة ، متحرّيا للخير ، يَسْألُ عن الفقه ، ملازمـا للسُّنّة .
قالوا : فإن ذلك كان منه تصنُّعا لك .
فقال : وما الذي خاف منّي أو رَجَـا ، حتى يُظهر إليّ الخشوع ؟! أفـأطلعكم على ما تذكرون مِن شُرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكـم على ذلك إنكم لشركاؤه ، وإن لم يكن أطلعكم فمـا يحـلّ لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا .
قالوا : إنه عندنـا لَحَـقٌّ ، وإن لم نكن رأيناه .
فقال لهم : قد أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال : (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، ولست مِن أمْرِكم في شيء .
قالوا : فلعلّك تَكْرَه أن يَتولّى الأمـر غيرُك ، فنحن نولّيك أمْرنـا .
قال : مـا أسْتَحِلّ القتال على ما تريدونني تابعـا ولا مَتبوعـا .
قالوا : فقد قاتَلْتَ مع أبيك .
قال : جيئوني بمثل أبي أُقَاتِلُ على مثل ما قاتَل عليه .
فقالـوا : فَمُرْ ابنيك أبا هاشم والقاسم بِالقِتال معنا .
قال : لو أمَرْتُـهما قاتَلتُ .
قالـوا : فَقُم معنا مَقامًا تَحضّ الناس فيه على القِتال .
قال : سبحان الله ! آمُر الناس بما لا أفعله ولا أرْضاه ؟! إذًا ما نَصَحْتُ لله في عباده .
قالوا : إذًا نُكرِهك !
قال : إذا آمُر الناس بِتقوى الله ، وألاّ يُرْضُوا الْمَخْلُوق بِسَخَط الْخَالِق . وخَرَجَ إلى مكة .
ومِن أكثر الناس إنصاف فيما رأيت : شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه : الذهبي
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض أهل أهل البِدع : وكذلك استُحمِدُوا بما رَدّوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية مِن أنواع المقالات التي يُخالِفون فيها أهل السنة والجماعة .
فَحَسَناتهم نَوعَان:
إمّا موافقة أهل السنة والحديث .
وإمّا الردّ على مَن خالَف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم .
ولم يتبع أحدٌ مذهب الأشعري ونحوه إلاّ لأحَد هَذين الوَصْفَين أو كِليهما.
وكل مَن أحبّه وانتصر له مِن المسلمين وعُلمائهم فإنما يُحبّه ويَنتَصِر له بذلك . اهـ .
وقال الإمام الذهبي في ترجمة محمد بن نصر المروزي : ولو أنا كُلّما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خَطأً مَغفورا له ، قُمْنَا عليه وبدَّعْنَاه وهَجَرْنَاه ، لَمَا سَلِمَ مَعَنا لا ابن نَصر ولا ابن مَنْدَه ، ولا مَن هو أكبر منهما ، والله هو هادي الْخَلْق إلى الْحَقّ ، وهو أرْحَم الرّاحِمين ، فنَعوذ بالله مِن الْهَوى والفَظَاظة . اهـ .
مَشَاهِد ولَمَحَات إنْصَاف سَلَفِيَّة ..
يحتاجها المسلم لِيَتَربّى عليها ، ويأطِر نفسه عليها أطْرًا .
ويَتَشَبَّه بالكِرام .. إن الـتَّشبُّـه بالكِرام فلاح ..
23 / رمضان / 1431 هـ .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم