الحيي الجواد الكريم الشهيد : ذو النورين
كان حَيِيًّا ، حتى وُصِف بالحياء ، وعُرِف به ، ونال مَنَازِل لَم يَنَلها أحد مِن هذه الأمّة !
اسْتَحيَا مِنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ ؟ رواه مسلم .
وفي الحديث قصة ، وهي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُضطجعا في بيت عائشة رضي الله عنها كاشِفًا عن فخذيه أو سَاقيه ، فاستأذَن أبو بكر فأذِن له وهو على تلك الحال ، فَتَحَدَّث ، ثم استأذَن عُمر فأذِن له وهو كذلك ، فَتَحَدَّث ، ثم استأذَن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوَّى ثيابه ، فدَخَل فَتَحَدَّث ، فلمّا خَرج قالت عائشة رضي الله عنها : دَخَل أبو بكر فلم تَهْتشّ له ولم تُبَاله ، ثم دَخَل عُمر فلم تَهتَشّ له ولم تُبَالِه ، ثم دَخَل عثمان فجَلستَ وسَوّيت ثيابك ؟ فقال : ألا أسْتَحي مِن رَجل تَستحي منه الملائكة ؟ رواه مسلم .
قال أبو نُعيم عن عثمان رضي الله عنه : الْقَانِتُ ذُو النُّورَيْنِ ، وَالْخَائِفُ ذُو الْهِجْرَتَيْنِ ، وَالْمُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ ، هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ . كَانَ مِنَ الَّذِينَ (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) [المائدة: 93] ، فَكَانَ مِمَّنْ (هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9] . غَالِبُ أَحْوَالِهِ الْكَرَمُ وَالْحَيَاءُ ، وَالْحَذَرُ وَالرَّجَاءُ ، حَظُّهُ مِنَ النَّهَارِ الْجُودُ وَالصِّيَامُ ، وَمِنَ اللَّيْلِ السُّجُودُ وَالْقِيَامُ ، مُبَشَّرٌ بِالْبَلْوَى ، وَمُنَعَّمٌ بِالنَّجْوَى . (حِلْيَة الأولياء) .
وعثمان رضي الله عنه أوّل مَن هاجَر الهجرة الأولى إلى الحبشة .
قال ابن عبد البر في ” الاستيعاب ” في ترجمة عثمان رضي الله عنه : هاجَر إلى أرض الحبشة فارًّا بِدِينه مع زوجته رُقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول خارِج إليها ، وتَابَعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة ، ثم هاجَر الهجرة الثانية إلى المدينة ، ولم يشهد بَدْرًا لتَخَلّفه على تَمْريض زَوجته رُقية ؛ كانت عَلِيلة ، فأمَره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتّخَلّف عليها . هكذا ذكره ابن إسحاق . اهـ .
وقال ابن القيم في ” زاد المعاد ” : فَهَاجَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنْهُمْ عُثْمَانُ ابْنُ عَفّانَ ، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ خَرَجَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَأَقَامُوا فِي الْحَبَشَةِ . اهـ .
ولذلك لَمّا دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى الْحَجَّاجِ ، فقَالَ الْحَجَّاجُ لِجُلَسَائِهِ : إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إِلَى رَجُلٍ يَسُبُّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ فَهَذَا عِنْدَكُم – يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَن – فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن : مَعَاذَ اللهِ أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أَكُونَ أَسُبُّ عُثْمَانَ ؛ إِنَّهُ لَيَحْجِزُنِي عَنْ ذَلِكَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ ، قَالَ اللَّهُ : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [(59)الْحَشر:8] ، فَكَانَ عُثْمَان مِنْهُمْ . رواه ابن أبي شيبة .
وقد زوّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ رضي الله عنه بِنْتَين مِن بَنَاته ؛ فَزوّجه رُقيّة رضي الله عنها ، فتُوفّيتْ عنده ، ثم زوّجه أم كلثوم رضي الله عنها ؛ ولِذلك سُمِّي عثمان رضي الله عنه بـ (ذي النّورَيْن) .
قِيل للمُهَلَّب بن أبي صُفرة : لِمَ قيل لِعثمان : ذو النّورَين ؟ قال : لأنه لم نَعلم أحَدًا أسْبَل سِترًا على ابْنَتَيّ نَبِيّ غيره . وروى خيثمة في ” الفضائل ” والدّارَقُطني في ” الأفراد ” من حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه ذَكَر عُثمان ، فقال : ذاك امرؤ يُدْعَى في السماء ذو النورين (عمدة القاري شرح صحيح البخاري ، للعيني)
فهذه فضيلة ليست لغير عثمان رضي الله عنه مِن البَشَر .
ومَن فضائل عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بايَع نِيَابَة عنه في بَيْعة الرّضْوان ، وأخبَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه يُختَم له بالشهادة ، وزوّجه بِِنْتَيْن مِن بَناته .
وسَمّى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بَكر صِدِّيقا ، ووصَف عُمر وعُثمان بِوَصْف الشهادة ؛ فقد صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَبَل أُحُد وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ ، فَرَجَفَ بِهِمْ ، فَقَالَ : اثْبُتْ أُحُدُ ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ (1) .
وبشّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عُثمانَ بالجنة في غير مَوضِع ، منها :
ما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَطَلْحَةُ ، وَالزُّبَيْرُ ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اهْدَأْ، فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ ، أَوْ صِدِّيقٌ ، أَوْ شَهِيدٌ (2) .
وَرَوى عبد الله بن حبيب السُّلَمِيّ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ : أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ – وَلا أَنْشُدُ إِلاَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم – أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ” مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ ” فَحَفَرْتُهَا أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ . فَجَهَّزْتُهُمْ ؟ قَالَ : فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ (3) .
قال ابن حَجَر في ” الإصابة ” : وجاء مِن أوْجه مُتَواتِرة أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بَشّره بِالجنة ، وعَدّه مِن أهل الجنة ، وشَهِد له بالشهادة . اهـ .
وعثمان رضي الله عنه كَرِيم جَوَاد .
فقد جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِألْف دِينار حين جَهّز جيش العُسْرَة ، فَنَثَرَهَا عثمان في حِجر النبي صلى الله عليه وسلم ، فَجَعل النبي صلى الله عليه وسلم يُقَلّبها ويقول : ما ضَرّ عُثمان ما عَمِل بعد هذا اليوم . قالها مِرارا (4) .
وسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنْ عُثْمَانَ ، فَقَالَ : شَهِدَ بَدْرًا ؟ فَقَالَ : لاَ . فَقَالَ : هَلْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ؟ فَقَالَ : لاَ . قَالَ : فَهَلْ تَوَلَّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ ، فَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ : إنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّك عِبْت عُثْمَانَ ! قَال : رُدُّوهُ عليّ . قَالَ : فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : هَلْ عَقَلْت مَا قُلْتُ لَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : سَأَلْتُنِي هَلْ شَهِدَ عُثْمَان بَدْرًا ؟ فَقُلْتُ لَكَ : لاَ ، فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَتِكَ وَحَاجَةِ رَسُولِكَ ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ .
وَسَأَلْتنِي هَلْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ لَكَ : لاَ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الأَحْزَابِ لِيُوَادِعُونَا وَيُسَالِمُونَا ، فَأَبَوْا ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَايَعَ لَهُ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَتِكَ وَحَاجَةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ مَسَحَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى فَبَايَعَ لَهُ .
وَسَأَلْتنِي هَلْ كَانَ عُثْمَان تَوَلَّى يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : نَعَمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)، فَاذْهَبْ فَاجْهَدْ عَلَيّ جَهْدك (5) .
وفي رواية البخاري : قَالَ ابْنُ عُمَر : تَعَالَ لأُخْبِرَكَ وَلأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ : أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ ؛ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ (6) .
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ غَزوة بَدْرٍ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ .
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ ، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ ، فَقَالَ : هَذِهِ لِعُثْمَانَ .
اذْهَبْ بِهَذَا الآنَ مَعَكَ (7) .
وقد أجاب عثمان رضي الله عنه عن سبب تَخَلَّفه يَوْمَ بَدْرٍ بِقوله : وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنِّي تَخَلَّفْتُ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ فَإِنِّي كُنْتُ أُمَرِّضُ رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَاتَتْ ، وَقَدْ ضَرَبَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَهْمِي ، وَمَنْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَهْمِهِ فَقَدْ شَهِدَ (8) .
وخِلافة عثمان رضي الله عنه منصوص عليها ، فمن ذلك :
شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لِعثمان بِالجنّة ، وأنه على الْحقّ حتى يُقتَل .
أمّا شَهادة النبي صلى الله عليه وسلم لِعُثمان بالجنّة ، فمنه :
قوله صلى الله عليه وسلم : أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ (9) .
وقال سعيدُ بن زَيد رضي الله عنه : عَشْرة في الجنة : النّبيّ في الجنة ، وأبو بكر في الجنة ، وعُمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعليّ في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير بن العوام في الجنة ، وسعد بن مالك (10) في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة . قال سَعِيدُ بن زَيْد : ولو شئت لَسَمّيتُ العاشِر . قال : فقالوا : مَن هو ؟ فَسَكَتْ . قال : فقالوا : مَن هو ؟ فقال : هو سعيد بن زيد (11) .
ومِن النّصّ على خِلافة عثمان رضي الله عنه ما جاء في حديث سَفِينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال سَفِينة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الخلافة ثلاثون عامًا ، ثم يكون بعد ذلك الْمُلْك . قال سَفِينة : أمْسِك ؛ خلافة أبي بكر رضي الله عنه سَنَتَين ، وخلافة عمر رضي الله عنه عَشْر سنين ، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثْنَتَا عشرة سنة ، وخلافة علي رضي الله عنه سِتّ سِنين رضي الله عنهم . رواه الإمام أحمد ، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن رجاله ثقات رجال الصحيح غير سعيد بن جمهان . اهـ .
فهذه ثلاثون سَنَة ذَكَرها مَن لا يَنْطِق عن الهوى ؛ وجاءت كما قال وأخبر صلى الله عليه وسلم ، وسَمّاها عليه الصلاة والسلام خِلافة نُبُوّة ، وَوَصَف الخلفاء بـ : الراشِدين الْمَهْدِييّن .
وأمّا أن عثمان رضي الله عنه على الْحقّ حتى يُقتَل ؛ فقال أبو الأشْعَث : قامَتْ خُطباء بِإيلْيَاء في إمارة معاوية ، فتَكلّمُوا وكان آخِر مَن تكلم مُرة بن كَعب ، فقال : لَولا حَديث سَمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قُمتُ ، سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَذْكر فِتْنة فَقَرّبَها ، فَمَرّ رَجُل مُتَقَنّع فقال : هذا يومئذ وأصحابه على الحق والْهُدَى ، فقلت : هذا يا رسول الله ؟ وأقْبَلْتُ بِوَجْهه إليه ، فقال : ” هذا ” ، فإذا هُو عثمان (12) .
ومِن مَفَاخِر عثمان رضي الله عنه : أنه هو الذي جَمَع الناس على مُصحف واحد .
قال علي رضي الله عنه عن عثمان رضي الله عنه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لا تَغْلُوا فِي عُثْمَانَ ، وَلا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ ، فَوَ اللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ عَنْ مَلأٍ مِنَّا جَمِيعًا (13) .
وكان عثمان رضي الله عنه مِن كُتّاب الوحي ، كما ذَكَر ابن القيم في ” زاد المعاد ” .
وكان عثمان رضي الله عنه مِن أهل القرآن ، وربما يقرأ القرآن في ركعة .
قال عبد الرحمن بن عثمان : قُمتُ خَلف الْمَقام أُصلّي ، وأنا أُريد أن لا يَغْلِبني عليه أحد تلك الليلة ، فإذا رَجُل مِن خَلْفي يَغْمِزني ، فلم ألْتَفِت إليه ، ثم غَمَزَني فَالْتَفَت ، فإذا هو عثمان بن عفان ، فتَنَحّيتُ ، وتقدّم وقرأ القرآن كُلّه في رَكعة ، ثم انصرف . رواه ابن أبي شيبة .
وخَرَج غوغاء الناس على عثمان رضي الله عنه وحُصِر وقُتِل ظُلْمًا رضي الله عنه والمصحف بين يديه .
وعند البيهقي في ” شُعب الإيمان ” أنه لَمّا دَخَل الْمِصْريّون على عثمان والمصحف بين يديه فضَربوه على ثَدْيه فجَرى الدم على : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .
وعند ابن أبي شيبة أن الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه انطلقوا هِرَابا يسيرون بالليل ويَكْمُنون بالنهار حتى أتوا بَلدا بين مِصر والشام , فكَمَنوا في غَار , فجاء نَبَطِيّ مِن تلك البلاد معه حِمَار , فَدَخل ذُباب في مِنْخَر الحمار , قال : فنَفَر حتى دَخَل عليهم الغار , وطَلَبه صاحبه فَرَآهم ؛ فانطلق إلى عامل معاوية , فأخْبَره بهم , فأخَذَهم معاوية فضَرَب أعنَاقهم .
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في رثاء عثمان رضي الله عنه :
ضَحّوا بِأشْمَط عُنوان السّجُود به … يُقطّع الليل تَسبِيحًا وقُرْآنا
وعثمان رضي الله عنه مِمّن شَاب في الإسلام .
وقد قُتِل رضي الله عنه بعد أن جَاوَز الثمانين سَنَة ، وكان مِن السّابِقين الأولين إلى الإسلام .
وحَسْب عثمان رضي الله عنه شَرَفًا وفَخْرًا : أنه مِن السّابِقِين الذين مَدَحهم الله وزكّاهم بِقولِه : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وشَهِد الصحابة الكرام رضي الله عنهم بِفَضْل ومكانة عثمان رضي الله عنه .
وقال عليّ رضي الله عنه : كان عثمان أوْصَلنا للرّحِم .
وقال ابن مسعود لَمّا بُويِع عثمان رضي الله عنه : بَايَعنا خَيرَنا ، ولم نأل .
وقالت عائشة رضي الله عنها لَمّا بَلَغها قَتْله : قَتَلوه ، وإنه لأوْصَلهم للرّحِم ، وأتْقَاهُم للرّب .
(الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حَجَر)
ونَهَى أئمة آل البيت عن سبّ الصحابة ، خاصة الخلفاء الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان)
رَوَى محمد بن عليّ بن الحسين(14) عن أبيه قال : جَلَس إلِيّ قَوم مِن أهل العراق ، فَذَكَرُوا أبا بكر وعمر فَسَبّوهُما ، ثم ابْتَرَكُوا في عثمان ابْتِرَاكا ، فقلت لهم : أخبروني أنتم مِن المهاجرين (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا ًمِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ؟ قالوا : لا ، لَسْنَا مِنْهم . قال : فأنتم مِن الذين قال الله عز وجل : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ؟ قالوا : لا ، لَسْنَا مِنْهم . قال : فقلتُ لهم : وأما أنتم فقد تَبَرّأتُم وشَهِدتم وأقْرَرْتُم أن تَكُونُوا مِنهم ، وأنا أشهد أنكم لَسْتُم مِن الفِرقة الثالثة الذين قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، قُومُوا عَنّي لا بَارَك الله فيكم ، ولا قَرَّب دُوركم . أنتُم مُستَهزِئون بالإسلام ، ولَسْتُم مِن أهلِه (15) .
وفَضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كثيرة جدّا ، ولا يَعرِف فَضْل أهل الفضل إلاّ أهل الفَضْل ، ولا يُقاس بِأصْحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحَد .
قال رَبَاحُ بْنُ الْجَرَّاحِ الْمَوْصِلِيُّ : سَمِعْتُ رَجُلا يَسْأَلُ الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا مَسْعُودٍ ، أَيْنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ؟ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا ، وَقَال: لا يُقَاسُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ ، مُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ وَصِهْرُهُ وَكَاتِبُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : دَعُوا لِي أَصْحَابِي وَأَصْهَارِي ، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (16) .
فَرَضْي الله عن عثمان ، وعن سائر الصّحْب الكِرام ، وحَشَرْنا في زُمرَتهم .
قال الإمام الذهبي : أَعَاذنَا اللهُ مِنَ الفِتَنِ ، وَرَضِيَ عَنْ جَمِيْعِ الصَّحَابَةِ ؛ فَترضَّ عَنْهُم يَا شِيْعِيُّ تُفلحْ ، وَلاَ تَدْخُلْ بَيْنَهُم ، فَاللهُ حَكَمٌ عَدْلٌ ، يَفعلُ فِيْهِم سَابقَ عِلْمِهِ ، وَرَحْمتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ . (سِيَر أعلام النبلاء)
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري (ح 3675) مِن حديث أنس رضي الله عنه .
(2) رواه مسلم (ح 6327) .
(3) رواه البخاري تَعلِيقًا (ح 2778) ، ووصَلَه الترمذي (ح 3699) والدارقطني في سُننه (ح 4447) والبيهقي (ح 11933) ، ورواه الإمام أحمد بِنحوه (ح 511) .
(4) رواه الترمذي (ح 3701) والحاكم (ح 4553) وصححه ووَافَقَه الذهبي .
(5) رواه ابن أبي شيبة (ح 32704) .
(6) وذلك في صريح القرآن : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) .
(7) صحيح البخاري (ح 3759) .
(8) رواه الإمام أحمد (ح 490) ، وقد سَبَق .
(9) رواه الإمام أحمد (ح 1675) والترمذي (ح 3747) والنسائي في ” الكُبرى ” (ح 8138) .
(10) هو سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه .
(11) رواه الإمام أحمد (ح 1631) وأبو داود (ح 4649) .
(12) رواه الإمام أحمد (ح 18068) والترمذي (ح 3704) والحاكم (ح 4552) وصححه ، ووافقه الذهبي. ورواه الإمام أحمد (ح 18118) وابن ماجه (ح 111) مِن حديث كعب بن عُجْرَة . قال ابن أبي حاتم في ” العِلَل” (6/442) : قال أَبِي: يُقَالُ : هَذَا الحديثُ عَنْ كعب بن مُرَّة البَهْزي .
وقال ابن عبد البر : وقد قيل في البَهْزِيّ هذا : إنه مُرّة بن كَعب ، والأكثر يقولون : كَعب بن مُرّة (الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/1326) .
وله شاهِد مِن حديث ابن عمر : رواه الإمام أحمد (ح 5953) والترمذي (ح 3708) ، وقال ابن حَجَر : إِسْنَادُهُ صَحِيح (فتح الباري 7/38) .
(13) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص 96) .
(14) هو الباقر ، وأبوه هو : زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم .
(15) تاريخ دمشق ، لابن عساكر (41/390) ، وسير أعلام النبلاء ، للذهبي (4/395) . وفي لسان العرب (10/398) : وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : ابْتَرَكَ الناسُ فِي عُثْمَانَ ، أَيْ : شَتَمُوهُ وتنقَّصُوه يُقَالُ: ابْتَرَكَ الرَّجُلُ فِي عَرْضِ أَخِيهِ : إِذَا اجْتَهَدَ فِي ذَمِّهِ .
(16) رواه الآجُرِّيُّ في كتاب ” الشريعة ” (5/2466) واللالكائي في ” شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ” (8/1531) والخطيب البغدادي في ” تاريخ بغداد ” (1/577) . وحديث : ” مَن سَبّ أصحابي ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين” حَسّنه الشيخ الألباني في ” سلسلة الأحاديث الصحيحة ” بِرَقم (2340) .