محاضرة قصيرة بعنوان … الدين كله خلق
المحاضرة مرئية هنا :
يَتصوّر بعض الناس أن مُصطَلَح الأخلاق مُرادِف للأدب ، أو يُعنى به : دَمَاثَة الْخُلُق والسماحة والتواضع ، بينما الإسلام هو دِين الأخلاق ، والأخلاق أعمّ مِن ذلك .
والعلماء يُعرِّفون الأخلاق بأنها : الدِّين كُلّه .
قال ابنُ القيمِ : الدِّينُ كُلُّه خُلُق، فمن زادَ عليكَ في الْخُلُقِ، زادَ عليك في الدِّين .
وقال ابنُ رَجَبٍ : حُسنُ الْخُلُقِ قد يُرادُ به التَّخَلُّقُ بِأَخْلاقِ الشَّرِيعَةِ ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللَّهِ الَّتِي أَدَبَّ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ : كَانَ خُلُقُهُ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ ، يَعْنِي أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ ، وَيَتَجَنَّبُ نَوَاهِيَهُ ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ لَهُ خُلُقًا كَالْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ لا يُفَارِقُهُ . وَهَذَا أَحْسَنُ الأَخْلاقِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجْمَلُهَا . اهـ . (جامع العلوم والْحِكَم)
وقال ابنُ رجبٍ أيضا في قولِه عزّ وجَلّ : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) : وَصَفَ [الله] الْمُتَّقِينَ بِمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالإِنْفَاقِ ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ ، فَجَمَعَ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِبَذْلِ النَّدَى ، وَاحْتِمَالِ الأَذَى ، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ الَّذِي وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ . اهـ . (جامع العلوم والْحِكَم)
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جاءَ بِمَكارِمِ الأخلاقِ ، ودَعا إليها ، حتى عَرَفَ ذلك القاصِي والدّاني ، والموافِقُ والْمُخالِف .
لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ قَالَ لأَخِيهِ أُنَيْس : ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي ، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ ، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي ، فَانْطَلَقَ الآخَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ ، وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ : رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ . رواه البخاري ومسلم .
قال القسطلاّني : ” قال لأخِيه ” : أُنَيْس بضم الهمزة مُصَغّرًا . اهـ .
قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ : كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ ، فَقُلْتُ لَهُ : مَا أَنْتَ ؟ قَال : أَنَا نَبِيٌّ ، فَقُلْتُ : وَمَا نَبِيٌّ ؟ قَال : أَرْسَلَنِي اللهُ ، فَقُلْتُ : وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ ؟ قَال : أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ ، قُلْتُ لَهُ : فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذا ؟ قَال : حُرٌّ وَعَبْدٌ ، قَال : وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ . رواه مسلم .
فهذه أخلاق الإسلام التي جاءت مع بِعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وظَهَرت حتى وهو صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ في دعوته .
ولَمّا سألَ هِرَقْلُ أبا سُفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بِمَ يَأْمُرُكُم ؟ قال أبو سفيان : يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالعَفَافِ . رواه البخاري ومسلم .
وجاءت النصوص الكثيرة التي تدلّ على حُسن الْخُلُق .
ومِن فَضْل حُسْنِ الْخُلُق :
1 – أنه خَيرُ الأُعطِياتِ
سُئلَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم : ما خَيْرُ ما أُعطِيَ الناسُ ؟ فقال : خُلُقٌ حَسَنٌ . رواه الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ .
وسُئلَ عليه الصلاة والسلام : مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ ؟ فقَال : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في ” الأدبِ المفْرَدِ ” والترمذيُّ ، وحسَّنَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
2 – ويَكفي في فضلِ حُسنِ الْخُلُق : أنه يَرفَع صاحِبَه إلى الدّرَجات العُلى .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
3 – وبِحُسْنِ الْخُلُق تَثْقل الموازين .
قال عليه الصلاة والسلام : مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
ويَكْفِي في فضلِ حُسْنِ الْخُلُقِ :
4 – أن صاحِبَ الْخُلُق الْحَسَن مِن أحبّ الناس إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى عِبادِ الله
قال الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .
قَرَأَ الْحَسَن يَوْمًا هَذِهِ الآيَةَ ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَال : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لَكُمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَوَ اللهِ مَا تَرَكَ الْعَدْلُ وَالإِحْسَانُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيْئًا إِلاّ جَمَعَهُ، وَلا تَرَكَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيْئًا إِلاَّ جَمَعَهُ . رواه البيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا . رواه الطبراني ، وصححه الألباني .
ويَكْفِي في فضلِ حُسْنِ الْخُلُقِ :
5 – القُرْب مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ القيامةِ .
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ ، فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَال : المُتَكَبِّرُونَ. رواه الترمذي وصححه الألباني .
قال الترمذي : وَالثَّرْثَارُ : هُوَ الكَثِيرُ الكَلامِ ، وَالْمُتَشَدِّقُ الَّذِي يَتَطَاوَلُ عَلَى النَّاسِ فِي الكَلامِ وَيَبْذُو عَلَيْهِمْ . اهـ .
وقال ابنُ الأثيرِ : الثَرْثَارُون : هُم الَّذِينَ يُكْثِرون الْكَلامَ تَكَلُّفاً وَخُرُوجًا عَنِ الحقِّ . والثَّرْثَرَةُ : كَثْرةُ الْكَلامِ وتَرْدِيدُه .
وقال : الْمُتَشَدِّقُونَ : هُمُ الْمُتَوَسِّعون فِي الْكَلامِ مِنْ غَيْرِ احتياطٍ واحترازٍ . وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْمُتَشَدِّقِ : الْمُسْتَهْزِئَ بِالنَّاسِ يَلْوِي شِدْقَهُ بِهِمْ وعليهم . اهـ . (النهاية في غريب الحديث)
فإيَّاك وكَثْرَةَ الكلامِ ، وإيّاك وبَذَاءةَ اللسانِ ..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا , الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا , الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ , وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ . رواه الطبراني في ” الصغير ” ، وحسّنه الألباني .
6 – أن حُسْن الْخُلُق ذَهَبَ بِخَيْريّ الدنيا والآخِرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ . رواه أبو داود ، وَحسّنه الألباني والأرنؤوط .
قال ابن الأثير : ” فِي رَبَضِ الجنَّة ” هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ : مَا حَوْلها خَارِجًا عَنْهَا ، تَشْبيها بالأبْنِيَة الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ المُدُن وَتَحْتَ القِلاَع . اهـ .
فَجَمَع هذا الحديث خَير الآخِرَة ، وهو منازِل الجنة ، بل ضَمَان الجنة لِمَن حَسُن خُلُقُه :
بَيْت حول الجنة لِمَن تَرَك الْمِرَاء – وهو الْجِدَال – وإن كان على حَقّ .
وبيت فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا .
وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ .
مع ما تقدَّم مِن نِدَائه على رُؤوس الأشهاد ، إذا كَظَمَ غيظَه ، وهو قادِر على إنفاذِه .
وأمّا في الدّنيا ؛ فإن الْخُلُق الْحَسَن قَرِين الدِّين ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ . رواه الترمذي ، وحسّنه الألباني .
7 – وحُسْن الْخُلُق تُنال به الْخَيْريّة في الدينا والآخِرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شَرَّ الناسِ مَنْ تَرَكَه الناسُ – أو وَدَعَه الناسُ – اتّقاءَ فُحْشِه . رواه البخاري ومسلم .
ومَفهُومه : أن خِيَار الناس مَن ألِفَه الناس ، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ . رواه الإمام أحمد ، وَصحّحه الألباني وحسّنه الأرنؤوط .
وسبق : ” وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ “ .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
8- وأن صاحِب الْخُلُق الْحَسَن تُصيبه دَعوة النبي صلى الله عليه وسلم .
بوّب الإمام البخاري : بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاء وَالبَيْع ، وَمَن طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ في عَفَاف .
ثم رَوَى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال : رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى .
قال ابن بطّال : فيه : الْحَضّ على السّماحة وحُسن المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ومَكارِمها ، وتَرْك الْمُشَاحّة ، والرّقّة في البَيْع ، وذلك سبب إلى وُجود البَرَكة فيه ؛ لأن النبي عليه السلام لا يَحُضّ أمّته إلاّ على ما فيه النّفْع لهم في الدنيا والآخرة .
فأما فَضْل ذلك في الآخرة ؛ فقد دَعَا عليه الصلاة والسلام بِالرّحْمَة لِمَن فَعَل ذلك، فمَن أحبّ أن تَنَاله بَرَكة دَعْوة النبي عليه الصلاة والسلام فَلْيَقْتَد بهذا الحديث ، ويَعْمَل به . اهـ .
9 – وحُسنُ الْخُلُقِ مما يُعمِّرُ الدّيَارَ ، ويَزيدُ في الأعمارِ .
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ . رواه الإمامُ أحمدُ ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
10 – أنه يُباعِد مِن غَضَب الله
وفي مُسند الإمام أحمد أن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَال : لا تَغْضَبْ .
ولَمّا وَصَفَ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم ومَدَحَه: مَدَحه بِِحُسنِ الْخُلُقِ ، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، فلم يَمْدَحْه بِحسَبٍ ولا نسَبٍ ، وإنما مَدَحَه بِما هو مُكتَسَبٌ !
لم يَمْدَحْه بِجَمالِه ، وكان أحسنُ الناسِ وَجْهًا .
قال عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
وفي روايةٍ لمسلمٍ : وَقَال : قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا .
قال ابنُ حَجَرٍ : حُسنُ الْخُلُقِ : اختيارُ الفضائلِ ، وتَرْكُ الرّذائلِ . اهـ .
قالَ عبدُ اللهِ ابنُ الْمُبَارَكِ في وَصْفِ حُسْنِ الْخُلُقِ : هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الأَذَى . رواه الترمذي .
وكان السَّلَفُ يَتَمَثّلون ويَمْتَثِلُون حُسن الْخُلُق واقِعًا عَمَلِيًّا .
قال القرطبيُّ : رُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ ذَاتَ يَوْمٍ بِصَحْفَةٍ فِيهَا مَرَقَةٌ حَارَّةٌ، وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتِ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يضربَها ، فقالتْ الجاريةُ : يا مَولايَ، استعملْ قولَ اللهِ تَعَالَى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) قَالَ لَهَا : قَدْ فَعَلْتُ . فَقَالَتْ : اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) فَقَال : قَدْ عَفَوْتُ عَنْكِ ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقَال مَيْمُونٌ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكِ ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى . وَرُوِيَ عَنِ الأحنفِ بنِ قَيسٍ مِثلُه .
(الجامع لأحكام القرآن) .
والعَفْوُ والصَّفْحُ مِن أَجَلِّ أخلاقِ المسلمِ
قال ابنُ عَطِيّةَ : والعَفوُ عن الناسِ مِن أجَلِّ ضُرُوبِ فِعلِ الخيرِ ، وهذا حيثُ يجوزُ للإنسانِ ألاّ يَعفُوَ ، وحيثُ يَتّجِهُ حَقُّه .
وقال القرطبيُّ : قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) يُرِيدُ عَنِ الْمَمَالِيكِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا حَسَنٌ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ ، إِذْ هُمُ الْخَدَمَةُ فَهُمْ يُذْنِبُونَ كَثِيرًا ، وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِمْ مُتَيَسِّرَةٌ، وَإِنْفَاذُ الْعُقُوبَةِ سَهْلٌ ؛ فَلِذَلِكَ مَثَّلَ هَذَا الْمُفَسِّرُ بِهِ .
(الجامع لأحكام القرآن) .
وإنّما يَظْهَرُ العَفْوُ والصَّفْحُ وضَبْطُ النّفْسِ ويُحمَدُ ويُمْدَحُ في وَقْتِ الغَضَبِ .
قال ابن عبد البر :
وَرُوِّينَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ قَالَ : كَانَ الشعبيُّ مِن أوْلعِ الناسِ بهذا البيت :
ليست الأَحْلامُ فِي حِينِ الرِّضَا *** إِنَّمَا الأَحْلامُ فِي حَالِ الْغَضَبْ
وَقَالَ غَيْرُهُ :
لا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إِلاّ سَاعَةَ الْغَضَبِ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ :
وَلَمْ أَرَ فَضْلا صَحَّ إِلاّ عَلَى التُّقَى *** وَلَمْ أَرَ عَقْلا تَمَّ إِلاّ عَلَى أَدَبْ
وَلَمْ أَرَ فِي الأَعْدَاءِ حِينَ خَبَرْتُهُمْ *** عَدُوًّا يَفْعَلُ أَعْدَى مِنَ الْغَضَبْ . اهـ .
وقد عَرّفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ الشّديدَ القويَّ بأنه الذي يَملِكُ نفسَه عند الغضبِ ، فقالَ : لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
قال ابن عبد البر : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فِي صَرْفِهَا عَنْ هَوَاهَا أَشَدُّ مُحَاوَلَةً وَأَصْعَبُ مَرَامًا وَأَفْضَلُ مِنْ مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ لِلَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ لِلَّذِي يَغْلِبُ النَّاسَ وَيَصْرَعُهُمْ . اهـ .
وفي مُسند الإمام أحمد أن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَال : لا تَغْضَبْ .
قِيلَ لابْنِ الْمُبَارَكِ : اجْمَعْ لَنَا حُسْنَ الْخُلُقِ في كَلِمَةٍ ، قَال : تَرْكُ الْغَضَبِ .
وَكَذَا فَسَّرَ الإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ حُسْنَ الْخُلُقِ بِتَرْكِ الْغَضَبِ . (جامع العلوم والْحِكَم)
ومِن محاسِن الأخلاق ، وأجلِّ أخلاق الكِرام : عدم الانتقام ، وعدم التَّشَفِّي ، وكَظْم الغيظ .
قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلاّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا . رواه البخاري ومسلم .
ولِفَضْل الصّفْح والعفو ، وكَظْم الغيظ ، وعدم الانتقام : يُنادَى صاِحِب هذا الْخُلُق على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ، ويُشَاد به .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حديث حَسَن ، وحسّنه الحافظ العراقي . وحسّنه الألباني والأرنؤوط .
وقد أمَر الله بِالصَّفْحِ الْجَمِيل ، فقال عزّ وجَلّ : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
قال الراغبُ : والصَّفْحُ : تركُ التّثْرِيبِ ، وهو أبْلَغُ مِنَ العفوِ ، ولذلك قالَ : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) ، وقد يعفو الإنسانُ ولا يَصْفَحُ . قال تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) ..
وصَفَحْتُ عنه : أوْلَيْتُه مِنّي صَفْحَةً جَمْيلةً مُعْرِضًا عن ذَنْبِه ، أوْ لَقِيتُ صَفْحَتَهُ مُتَجَافِيًا عنه ، أو تَجَاوَزْتُ الصَّفْحَةَ التي أثْبَتُّ فيها ذَنْبَه مِن الكتابِ إلى غيرِها ، مِن قَولِك : تَصَفَّحْتُ الكتابَ . اهـ . (المفردات في غريب القرآن)
لَمّا نالَ أبا بكرٍ الصِّدّيقَ رضي الله عنه الأذى مِن مِسْطَحٍ حَلَفَ أبو بكرٍ ألاّ يُنفِقَ على مِسْطَحٍ ، فأنْزَلَ اللهُ قولَه : (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فقَال أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وقال : وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا . رواه البخاري ومسلم .
والرِّفْقُ بالْخَلْقِ مِن مَحاسِنِ الأخلاقِ
والرِّفْقُ يُحبُّه اللهُ تَبارَك وتَعالى ورَسولُه صلى الله عليه وسلم .
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية البخاريِّ : إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ .
وقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ . رواه مسلم .
ومِن أجلِّ الأخلاقِ : تَرْكُ شُؤونِ الْخَلْقِ الخاصَّةِ بِهِم
قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ . رواه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ ، وحسّنَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
وما أكثرُ ما يخوضُ الناسُ في أمورِ غيرِهم مما لا تَعْنِيهم لا مِن قريبٍ ولا مِن بعيدٍ ، وإنما هو الخوضُ فيمَا لا يَعنِيهم .
روى الطبرانيُّ في الأوسطِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَدَ كعبَ بنَ عُجْرَةَ رضي الله عنه فقال : ما فَعلَ كَعبٌ ؟ قالوا : مَريضٌ ، فَخَرجَ يمشي حتى دَخَلَ عليه ، فقال له : أبْشِرْ يا كَعبُ . فقالتْ أمُّهُ : هنيئا لك الجنةُ يا كَعبُ . فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : مَن هذه المتألِّيَةُ على اللهِ ؟ قال : هي أمي يا رسولَ الله . قال : ما يُدريكِ يا أمَّ كعبٍ ؟ لعلَّ كَعْبًا قال ما لا يَنْفَعُهُ ، أو مَنَعَ ما لا يُغْنيه . وصححه الألبانيُّ .
وفَرْق بين شؤون الْخَلْق الخاصّة ، وبين ما يَقَع منهم مِن مُنكرات يَجب إنكارها .
ومِن الحكمةِ : تَركُ الإنسانِ ما لا يَعنيه .
قيل لِلُقْمانَ الحكيمِ : ما بَلَغَ بك ما نَرى ؟ قال : صِدْقُ الحديثِ ، وأداءُ الأمانةِ ، وتَرْكُ ما لا يَعْنِيني .
وقال رجلٌ للأحنفِ بنِ قيسٍ : بِمَ سُدتَ ؟ – وأرادَ أن يَعِيبَه – قال الأحنفُ : بِتَرْكِي ما لا يَعنيني كَمَا عَنَاكَ مِنْ أمْرِي ما لا يَعنِيك !
وذَكَرَ مُصعبٌ الزبيريُّ عن مالِكٍ قال : اخْتَلَفْتُ إلى جعفرَ بنِ محمدٍ زمانا ، فما كنتُ أرَاه إلاَّ على ثلاثِ خصالٍ : إما مُصَلٍّ ، وإما صائم ، وإمّا يَقرأ القرآنَ ، وما رأيتُه يُحَدِّثُ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ على طهارةٍ ، وكان لا يتكلَّمُ فيما لا يَعنِيه ، وكان مِن العلماءِ العُبّادِ الزهّادِ الذين يَخْشَون الله . اهـ .
قال ابنُ رَجَبٍ : وَكَانَ السَّلَفُ كَثِيرًا يَمْدَحُونَ الصَّمْتَ عَنِ الشَّرِّ ، وَعَمَّا لا يَعْنِي لِشِدَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ ، وَذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ النَّاسُ كَثِيرًا ، فَكَانُوا يُعَالِجُونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَيُجَاهِدُونَهَا عَلَى السُّكُوتِ عَمَّا لا يَعْنِيهِمْ . اهـ .
وحُسْن الْخُلُق سبب حُسْن الْخَاتِمة
دَخَلَ زيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَلى ابْنِ أَبِي دُجَانَةَ رضي الله عنه وَهُوَ مَرِيضٌ ، وَكَانَ وَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ ، فَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ يَتَهَلَّلُ وَجْهُكَ ؟ قَال : مَا مِنْ عَمَلِ شَيْءٍ أَوْثَقَ عِنْدِي مِنَ اثْنَيْنِ : أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ لا أَتَكَلَّمُ بِمَا لا يَعْنِينِي ، وَأَمَّا الأُخْرَى : فَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا . رواه ابن وَهْب في ” الجامع ” .
وكَمَا تُحِبُّ أنْ يَكونَ اللهُ لك ؛ كُنْ لِخَلْقِه ، خاصّةً الضعفاءَ منهم
قال ابنُ القيمِّ : وهو سبحانه وتعالى رَحِيمٌ يُحبُّ الرُّحَماءَ ، وإنما يَرْحَمُ مِنْ عبادِه الرحماءَ ، وهو سِتِّيرٌ يُحِبُّ مَن يَسترُ على عبادِه ، وعَفوٌّ يُحِبُّ مَن يعفو عنهم ، وغفورٌ يُحِبَّ مَن يَغفرُ لهم ، ولطيفٌ يُحِبُّ اللطيفَ من عبادِه، ويُبغِضُ الفظَّ الغليظَ القاسِيَ الجعْظَرِيَّ الجوَّاظَ ، ورفيقٌ يُحِبُّ الرفقَ ، وحليمٌ يُحِبُّ الْحِلمَ ، وبَرٌّ يُحِبُّ البِرَّ وأهْلَه ، وعَدْلٌ يُحِبُّ العدلَ ، وقابِلُ المعاذيرِ يُحِبُّ مَن يَقبلُ معاذيرَ عبادِه، ويجازي عبدَه بحسَبِ هذه الصفاتِ فيه وجودا وعَدَما ، فمَنْ عَفا عَفا عنه ، ومَن غَفَرَ غَفَرَ له ، ومَن سامَحَ سامَحَه ، ومَنْ حَاقَقَ حَاقَقَه ، ومَنْ رَفَقَ بعبادِه رَفَقَ به ، ومَن رَحِمَ خَلْقَه رَحِمَه ، ومَنْ أحْسَنَ إليهم أحسَنَ إليه ، ومَن جَادَ عليهم جَادَ عليه ، ومَن نَفَعَهم نَفَعَه ، ومَن سَتَرَهم سَترَه ، ومَنْ صَفَحَ عنهم صَفَحَ عنه ، ومَن تَتَبَّعَ عورتَهم تَتَبَّعَ عورتَه ، ومَن هَتَكَهم هَتَكَه وفَضَحَه ، ومَن مَنعهم خَيرَه مَنَعَه خيرَه ، ومَن شاقَّ شاقَّ اللهُ تعالى به ، ومَنْ مَكَرَ مَكَرَ بِه ، ومَنْ خَادَعَ خَادَعَه . ومَن عامَلَ خَلْقَه بِصِفَةٍ عامَلَه اللهُ تعالى بِتلك الصِّفَةِ بِعَيْنِها في الدنيا والآخرةِ .
فالله تعالى لِعَبْدِه على حَسَبِ ما يكونُ العَبدُ لِخَلْقِه . اهـ . (الوابل الصّيِّب)
وقال ابنُ رَجَبٍ : وفي الجملةِ : فكان خُلُقُه صلى الله عليه وسلم القرآنَ ؛ يَرْضَى لِرِضَاه ويَسْخَطُ لِسَخَطِهِ ، فأكْمَلُ الْخَلْقِ مَن حَقَّقَ مُتَابَعَتَه وتَصديقَه قَولا وعَملا وحالاً ، وهُم الصّدِيقُون مِن أُمّتِه الذين رأَسَهم : أبو بكر – خليفتُه بعده – وَهُم أعلى أهلِ الجنةِ دَرَجةً بَعد النّبِيِّين . اهـ . (فتح الباري)
ومَع كمالِ خُلُقِه صلى الله عليه وسلم وحُسْنِ أدَبِه إلاّ أنه كان يسألُ اللهَ أن يَهدِيَه لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ .
فقد كان مِنْ دُعائه : اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاّ أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاّ أَنْتَ . رواه مسلم .
ومِن دُعائه عليه الصلاةُ والسلام : اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا . رواه مسلم .
ومِن دُعائه عليه الصلاةُ والسلام : اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي ، فَأَحْسِنْ خُلُقِي . رواه الإمام أحمد ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
ومِن دُعائه عليه الصلاةُ والسلام : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ . رواه الترمذي ، وصححه الألباني .
وكلّما زادَ الإيمان حسُنَت الأخلاق
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا ، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ . رواه الطبراني في الأوسط ، وحسّنه الألباني .
والعكس : سوء الْخُلُق يدلّ على ضَعْف الإيمان ، ولذا جاء في الحديث : وَالْخُلُقُ السُّوءُ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ . رواه الطبراني ، وصححه الألباني .
وسيّد الأخلاق ورأسها : الحياء ، فهو الْخُلُق الذي يَجمَع خِصال الخير .
قال الحسن البَصري : الحياء والتّكَرّم خَصْلتان مِن خِصال الخير ، لم يَكُونا في عبدٍ إلاّ رَفَعه الله عزّ وجَلّ بهما . رواه ابن أبي الدنيا فِي ” مكارم الأخلاق ” .
وعند ابن أبي الدنيا فِي ” الصمت ” وفي ” ذم الكذب ” : زَيْنُ الْمَرْأَةِ الْحَيَاء ، وَزَيْنُ الْحَكِيم الصمت .
وسبق :
مقال ظاهرة الفحش والتفحش
والله تعالى أعلم .
الرياض – صفر 1441 هـ