محاضرة قصيرة بعنوان … داء الأمم
المحاضرة مرئية هنا :
الحمدُ للهِ (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
ألاَ وإن مِن أعظَم الإحسان : صِلَةَ الأرحام . ومِن أعظَم الْمُنكَر : قطيعة الأرحام التي أمَرَ اللهُ بِوَصْلِها ، ونَهَى عن قطْعِها ، ولو قَطَعَت .
قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)
قَالَ الضَّحَّاكُ : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي بِهِ تَعَاقَدُونَ وَتَعَاهَدُونَ ، وَاتَّقُوا الأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا، وَلَكِنْ بِرُّوهَا وصِلُوها (ابن كثير)
والواصِل هو الذي يصِل ما قُطِع مِن الرّحِم .
قال رسول الله ﷺ : لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا . رواه البخاري .
وجاء رَجُل فقال : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَال: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ . رواه مسلم . الْمَلّ : هو الرّماد الْحَارّ .
وقد شَخّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الداءَ ، ووَصَفَ الدواءَ
فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ : دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ ، هِيَ الحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا . أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ . رواه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ ، وحسّنَه الألبانيُّ .
وفي حديثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال : أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنَ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى ، قال : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في ” الأدبِ المفْرَدِ ” والترمذيُّ وأبو داودَ ، وَصحّحَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
وفي حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُسْلِمُوا ، وَلا تُسْلِمُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، وَأَفْشُوا السَّلامَ تَحَابُّوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْبُغْضَةَ ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ لَكُمْ : تَحْلِقُ الشَّعْرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في ” الأدبِ المفْرَدِ ” .
وأمَر الله بإصلاحِ ذاتِ البَيْن ، فقال عزّ وجَلّ : (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا تَحْرِيج مِن الله على المؤمنين أن يَتّقُوا الله وأن يُصْلِحوا ذات بينهم . رواه ابن أبي شيبة والبخاري في ” الأدب المفْرَد ” وابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره .
وقال سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ؟
قَالُوا : بَلَى .
قَال: إصلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْبِغْضَةَ ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَالِقَةُ . رواه الإمامُ مالكُ .
وجاءَ الحثُّ على التسليمِ والمصافَحَةِ ؛ لِمَا فيها مِن التحابِّ ودَفْع العداوة والبغضاء
قال رسولُ اللهِ ﷺ : لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ . رواه مسلمٌ .
وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ : إنَّ المسلمَ إذا صافَحَ أخَاه تَحاتَّتْ خَطَاياهُمَا كَمَا يتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ . رواه البزارُ ، قال الألبانيُّ : صحيحٌ لغيرِهِ .
مَنْ هَجَرَ أُخْوانَه ، فماذا بَقيَ لَهُ ؟
أخاك أخاك إنَّ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ *** كَسَاعٍ إلَى الهَيجَا بغَيرِ سِلاَحِ
وَإِنَّ ابْنَ عَمِّ المرءِ – فَاعْلَمْ – جَنَاحُهُ *** وَهَل يَنْهَضُ البَازِي بِغَيرِ جَنَاحِ ؟!
خُطورةُ التهاجُرِ :
إذا كانَ التّهاجُرُ بين ذوي الأرحامِ ؛ فهو كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ؛ لأنَّه قَطِيعَةٌ للرَّحِمِ ، وقاطِعُ الرَّحِم مَلْعونٌ مَطرود مِن رَحمةِ الله .
قال اللهُ عزّ وجَلّ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) .
وقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ . رواه البخاريُّ ومسلمٌ وزادَ مسلم : قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ : قَال سُفْيَانُ : يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ .
واسْتَجَارَتِ الرَّحِمُ بِاللهِ مِنَ القَطِيعةِ ، فقالَ اللهُ عزّ وجَلّ لها : أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَال : فَذَاكِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) . رواه البخاريُّ ومسلم .
وقطيعةُ الرّحِمِ مِنَ الذّنوبِ الْمُعجّلةِ عقوبتُها في الدنيا ، مع ما يَنْتَظِرُ صاحِبَها في الآخرةِ .
قالَ رسولُ اللهِ ﷺ : مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ الْعُقُوبَةَ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ : مِنَ الْبَغْيِ ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في ” الأدبِ المفْرَدِ ” والترمذيُّ وابنُ ماجَه ، وصححَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
وفي روايةٍ لأحمدَ : ذَنْبَانِ مُعَجَّلان لا يُؤَخَّرَان : الْبَغْيُ ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ .
ومِن عقوباتِ القَطيعةِ والتّهاجُرِ : إعراضُ الرّبِّ تباركَ وتعَالى عمّنْ هَجَرَ أخَاه المسلمَ بِلا عُذرٍ شرعيٍّ، ولا تُرفَعُ أعمالُه، ولا تُعرَضُ على اللهِ عزّ وجَلّ .
قالَ رسولُ اللهِ ﷺ : تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا ، إِلاّ رَجُلا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. رواه مسلم .
وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ : لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُصَارِمَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثٍ ، فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صِرَامِهِمَا ، وَإِنَّ أَوَّلَهُمَا فَيْئًا يَكُونُ كَفَّارَةً عَنْهُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ، وَإِنْ مَاتَا عَلَى صِرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلا الْجَنَّةَ جَمِيعًا أَبَدًا ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ تَسْلِيمَهُ وَسَلامَهُ ، رَدَّ عَلَيْهِ الْمَلَكُ ، وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ . رواه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ في “الأدبِ المفْرَدِ ” ، وَصحّحَه الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
وهذا الحديث وأمثاله مِن أحاديث الوعيد تُمَرّ كما جاءت مِن غير تفسير ؛ لأنه أبْلَغ في الترهيب مِن الكبائر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ عَنْ سُفْيَانَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . اهـ .
وفي حديثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ : يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاّ لاثْنَيْنِ : مُشَاحِنٍ ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ . رواه الإمامُ أحمدُ . وقالَ شعيبٌ الأرنؤوطُ : صحيحٌ بشواهِدِه .
ورَواه ابنُ أبي عاصمٍ في كتابِ ” السُّنةِ ” مِن طَرِيقين ؛ مِن حديثِ معاذٍ ومِن حديثِ أبي موسى رضي اللهَ عنهما . وصححَه الألبانيُّ .
وفي حديثِ معاذٍ رضي الله عنه : يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ فِي اللَّيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِن .
ومِن عُقوباتِ القطيعةِ : ذَهَابُ بَرَكةِ العُمرِ .
قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ . رواه البخاريُّ ومسلم .
قالَ النوويُّ : يُنْسَأَ مهموزٌ أي : يُؤخَّرُ . والأثَرُ الأجَلُ ؛ لأنه تابِعٌ للحياةِ في أثرِها. وبَسْطُ الرِّزْقِ تَوْسِيعُهُ وَكَثْرَتُهُ . وَقِيلَ : الْبَرَكَةُ فِيهِ . اهـ .
وأمّا الحسد فهو داء وشرّ وبلاء
وإن العاقِلَ ليَعجَب : فِيمَ يتنافسُ الناسُ ، وعلى أيِّ شيءٍ يُتحاسَدون ؟ فيَبْغِي بَعضُهم على بعضٍ ، ويَقَعُ بينهم التهاجُرُ والتقاطعُ ، وتَدُبُّ بينهم البغضاءُ ؟
إنهم يَتَنَافَسُونَ ويَتَحَاسَدُونَ ويَتَقَاطَعُونَ ويَقْتَتِلونَ على جَناحِ بعوضةٍ !
لو قيل لك : إن عُقلاءَ الناسِ يَختَصِمون على بَيْضَةٍ لعُدَّ ذلك مِن الْسَّفَهِ ونَقْصِ العَقْلِ !
فكيف وهم يَختَصِمون على ما لا يُساوي جَناحَ بعوضةٍ ؟!
مَرَّ رسولُ اللهِ ﷺ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ ، فَقَال : أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا . رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه ، وَصحّحَه الألبانيُّ وحسّنَه الأرنؤوطُ .
وفي روايةٍ : لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا .
الدّنيا مِن أوَّلِها إلى آخرِها لا تعدِلُ جناحَ بعوضةٍ !
فَكَم يَملِكُ الناسُ اليومَ مِن هذا الجناحِ ؟! فالناسُ يتنافسونَ ، ويتحاسَدون ، ويتقاطَعون على جُزءٍ لا يَكادُ يُذكَرُ مِنْ جناحِ بعوضةٍ !
وواللهِ لو كانتِ الدنيا تَجْرِي على صاحِبِها ذَهَبًا ، ويُدرِكُ كُلَّ كَرَامٍ ، ويحصُلُ له كلُّ مقصودٍ ؛ فإنها لا تُساوي لحظةً واحدةً مِن عذابِ اللهِ .
قال رسولُ اللهِ ﷺ : يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ . رواه مسلم .
والحسَد خُلُق ذميم مِن أخلاق اليهود .
قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ؟ وقال عنهم : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).
والْحَسَد شرّ ، ولذا يُستعاذ بالله من الحاسِد كما يُستعاذ بالله من الشياطين !
وفي سورة الفَلَق : (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) .
قال الْمَاوَردِيّ : اعلم أن الحسَد خُلُق ذَميم مع إضراره بالبَدَن وفَسَاده للدّين ، حتى لقد أمَر الله بالاستعاذة مِن شَرّه ، فقال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ، ونَاهِيك بِحَال ذلك شَرّا .
قال بعض السَّلَف : الحسد أوّل ذَنْب عُصِي الله به في السماء ، يعني : حسَد إبليس لآدم عليه السلام ، وأوّل ذَنْب عُصِي الله به في الأرض ، يعني : حَسَد ابن آدم لأخيه حتى قَتَلَه .
وقال بعض الحكماء : مَن رَضِي بِقضاء الله تعالى لم يُسْخطه أحد ، ومَن قَنع بِعطائه لم يَدخُله حَسَد .
وقال بعض الأدباء : ما رأيت ظالِمًا أشْبَه بِمَظْلُوم مِن الْحَسُود : نَفَس دائم ، وهَمّ لازِم ، وقَلْب هائم !
ولو لم يكن مِن ذمّ الحسَد إلاّ أنه خُلُق دنيء يتوجّه نحو الأكْفَاء والأقارب ، ويَخْتصّ بالْمُخَالِط والْمُصَاحِب ؛ لَكَانت النّزَاهَة عنه كَرَما ، والسلامة مِنه مَغْنَمًا . فكيف وهو بِالنّفْس مُضِرّ ، وعلى الْهَم مُصِرّ ، حتى ربما أفضى بِصاحِبه إلى التّلَف مِن غير نكاية في عَدوّ ولا إضرار بِمَحْسُود .
(أدب الدنيا والدين)
والحسد صِفَة مِن صِفات المنافقين !
قال الْفُضَيْل بن عِيَاضٍ: الْغِبْطَةُ مِنَ الإِيمَانِ وَالْحَسَدُ مِنَ النِّفَاقِ , وَالْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ وَلا يَحْسِدُ , وَالْمُنَافِقُ يَحْسِدُ وَلا يَغْبِطَ . وَالْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَعِظُ ، وَيَنْصَحُ وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ وَيُفْشِي . رواه أبو نُعيم في ” حلية الأولياء ” .
والحاسِد لئيم .
قال ابن حِبّان : الحسَد مِن أخلاق اللئام، وتَرْكه مِن أفعال الكرام ، ولِكُلّ حَرِيق مُطْفِيء ، ونار الحسد لا تُطْفأ .
ومِن الحسد يَتَولّد الْحِقد ، والْحِقْد أصل الشرّ ، ومَن أضْمَر الشرّ في قَلْبه أنْبَت له نَبَاتًا مُرّا مَذَاقه : نَمَاؤه الغَيْظ ، وثَمَرَته النّدم . (روضة العقلاء)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : يُقال: ما خَلا جَسَد مِن حَسد ، لكن اللئيم يُبْدِيه ، والكريم يُخْفِيه . اهـ .
والحاسِدُ مُعتَرِضٌ على اللهِ عزّ وجَلّ ؛ لأنَّ القِسْمَةَ قِسْمَتُه ، والرّزقَ رِزْقُه ، والأمْرَ أمْرُه .
(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
وفي بعضِ الآثارِ الإلهيةِ : الْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَتِي ، مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي ، غَيْرُ رَاضٍ بِقِسْمَتِي الَّتِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي . رواه البيهقيُّ في ” شُعبِ الإيمانِ ” .
وفي وَصَايا سُفيانَ الثوريِّ : إِيَّاكَ وَالشَّحْنَاءَ , فَإِنَّهُ لا تُقْبَلُ تَوْبَةُ عَبْدٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ, وَإِيَّاكَ وَالْبَغْضَاءَ , فَإِنَّمَا هِيَ الْحَالِقَةُ , وَعَلَيْكَ بِالسَّلامِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَخْرُجُ الْغِلُّ وَالْغِشُّ مِنْ قَلْبِكَ , وَعَلَيْكَ بِالْمُصَافَحَةِ تَكُنْ مَحْبُوبًا إلى النَّاسِ . رواه أبو نُعيمٍ في ” حليةِ الأولياءِ ” .
وكان السلفُ يَحْرِصُونَ على تَنْقِيَةِ قُلُوبِهم في كلِّ آنٍ .
جَرَى بَيْن ابنِ السَّمَّاكِ وبَيْن صديقٍ له كلامٌ ، فقالَ له صديقُه : الميعادُ غَدًا نَتَعَاقَبُ ! فقالَ : بلِ الميعادُ غدًا نَتَغَافَرُ !
فاعفوا واصفَحوا عِبادَ اللهِ ، يَعفُ اللهَ عنكم .
وأصلِحوا ذاتَ بينكِم .
وصِلُوا أرحامَكم ، واحذروا مِنْ قَطيعَةِ الأرحامِ ، ومِن التقاطُعِ .
وأمّا علاجُ التهاجُرِ والتقاطُعِ ؛ فجاءَ في القرآنِ وفي السُّنّةِ
بِإفشاءِ السلامِ والتواصلِ ، كما تقدّمَ .
وبأنْ يَدفَعَ الإنسانُ بالتي هي أحسَنُ ، كما أمَرَ اللهُ عزّ وجَلّ .
قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : (ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال : هُوَ السَّلامُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ . رواه البيهقيُّ في ” شُعبِ الإيمانِ ” .
وأنْ يَحرِصَ المسلمُ على نَيْلِ الخيريةِ ؛ فيَكونَ هو الذي يَبْدأُ بِالسلامِ ، كما في قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ : لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ ، يَلْتَقِيَان فَيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا ، وخَيْرُهُمَا الذي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
وأنْ يتذكّرَ أنْ عَفْوَ اللهِ أقْربُ إلى مَنْ عَفَا
كان أبو بكرٍ الصدّيقُ رضي الله عنه يُنْفِقُ على مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَلِفَقْرِهِ ، فَلَمَّا خَاضَ مسْطحُ في عِرْضِ عائشةَ رضي اللهُ عنها ، حَلَفَ أبو بكرٍ أَنْ لاَ يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) الآيَةَ قال أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَال: وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا . رواه البخاريُّ ومسلمٌ .
قال ابنُ كثيرٍ : وَكَانَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفًا بِالْمَعْرُوفِ ، لَهُ الْفَضْلُ وَالأَيَادِي عَلَى الأَقَارِبِ وَالأَجَانِبِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) الآية ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ، فَكَمَا تَغْفِرُ عَنِ الْمُذْنِبِ إِلَيْكَ نَغْفِرُ لَكَ ، وَكَمَا تَصْفَحُ نَصْفَحُ عَنْكَ . فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ الصَّدِّيقُ : بَلَى وَاللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ – يَا رَبَّنَا- أَنْ تَغْفِرَ لَنَا ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا ، فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ قَالَ : وَاللَّهِ لا أَنْفَعُهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا .
فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِه . اهـ .
وأنْ يتذكّرَ أنَّ الدنيا لا تساوي عندَ اللهِ شيئا .
وأنَّ خيرَ الكَسْبِ فيها وخيرَ ما يُغْنَمُ : طاعةُ اللهِ .
قال رسولُ اللهِ ﷺ: أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ . رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه ، وحسّنَهُ الألبانيُّ والأرنؤوطُ .
وأن الآخرة هي الأبقَى .
(وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)
قال ابن كثير : أَيْ: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ . وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَعْظَمَهُمْ لَهَا إِطْرَاحًا . اهـ .
قُومُوا فَاسْتَعِينُوا بِربِّكم ، وَأَخْسِئوا شَيَاطِينَكم
وصِلُوا أرْحامَكم قبلَ مَغيبِ شمسِ هذا اليوم .