محاضرة قصيرة بعنوان … عشرة أسباب للفلاح
المحاضرة المئية هنا :
الحمد لله الذي هدى مِن الضلالة وبصّر مِن العمى ، الحمد لله العليِّ الأعلى ، والصلاة والسلام على النبيِّ المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه واقتفاه
هذه عشرة مِن أسباب الفلاح
فما هو الفلاح ؟
قال الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات القرآن : الفلاح الظفر وإدراك المطلوب وذلك ضربان:دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز، وفلاح أخروي وذلك أربعة أشياء:بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل . ا.هـ .
ولذلك يُقال : لا عيش إلا عيش الآخرة .
سئلت عائشةُ رضي الله عنها : كَيْف كَانَ خُلُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : كَانَ خُلُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآن فَقَرَأَتْ ” (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حَتَّى اِنْتَهَتْ إِلَى (وَاَلَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتهمْ يُحَافِظُونَ) قَالَتْ هَكَذَا كَانَ خُلُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .رواه النسائي في الكبرى
في مطلع هذه السورة يقول الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، فأوّل وصف مِن أوصافهم وأول أسباب الفلاح هو الإيمان .
قال ابن كثير رحمه الله : وَقَوْله تَعَالَى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَحَصَلُوا عَلَى الْفَلَاح وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَاف .
الإيمان بالله عز وجل من أسباب السعادة ومن أسباب الفلاح ومن أسباب الطمأنينة .
فالإيمان بالله عز وجل والإيمان باليوم الآخر وأن هناك دار جزاء وحساب فلا يستوي المسلم والمجرم ولا يستوي الذي صبر عن المحرمات مع الذي أطلق لنفسه العنان في الشهوات .
والإيمان بالقدر فتطمئن النفس إلى أن ما اختاره الله عز وجل لعبده خير مما اختار العبد لنفسه .
ولذلك يقول بعض السلف : لو كُشفت لك الحجب فرأيت ما قدّر الله عز وجل لك ، ما اخترت إلا ما اختاره الله عز وجل لك .
وذلك لأن الله عز وجل أرحم بالخلق من أمهاتهم ، كما جاء في الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا.
فأول وصف مِن أوصاف الفلاح والسعادة هو الإيمان ، ولذلك يكثر الانتحار قديمًا وحديثًا لفقدهم السعادة والفلاح المبني على الإيمان بالله عز وجل .
السبب الثاني : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)
والخشوع في القلب كما يقول علي رضي الله عنه ، وقال القرطبي : إذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها لخشوعه .
وعن أبي الدرداء قال: استعيذوا بالله من خشوع النفاق ، قيل : وما خشوع النفاق ؟ قال : أن يرى الجسد خاشع والقلب ليس بخاشع .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : والخشوعُ في الصلاة إنما يحصُل لِمَن فَرَّغَ قلبَه لها، واشتَغَل بها عمَّا عَدَاها، وآثرَها على غيرها، وحينئذٍ تكون له قُرَّةَ عيْن؛
كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم ” وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة ” .
وللخشوع أسباب :
أن يقبِلَ على الصلاة عند الأذان ، أو بعد الأذان مباشرة ، أو قبل الأذان وذلك أفضل ، ثم يحضر إلى الصلاة بسكينة ووقار كما أمر النبي صلى الله وعليه وسلم ثم يدخل المسجد فيصلي ركعتين ويصلي ما شاء الله ، إذا كان ذلك ممكنًا ثم يذكر الله عز وجل ويقرأ ما تيسر من القرآن ، فيكون قد انقطع عن الدنيا وانقطع عن المشاغل .
أما الذي لا يزال مشغولاً بدنياه ويترك ما بيده ويدخل في الصلاة مباشرة ، فهذا لم ينفصل عن الدنيا ، وما يزال متعلقًا بأمور دنياه ومشاغلله وحساباته وغير ذلك . لكن إن انفصل عنها أقبل على الصلاة .
وقد ارتبط الفلاح بالصلاة كم قال الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ، فلا شيء يزكي النفس مثل العمل الصالح ، وأجلُّ العمل الصالح هو الصلاة ، خاصةً إذا أقبل عليها بخشوع وبحضور قلب .
وفي سورة الشمس (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)
قال ابن القيم : مَعَاصِي تُصَغِّرُ النَّفْسَ ، وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تُصَغِّرُ النَّفْسَ، وَتَقْمَعُهَا، وَتُدَسِّيهَا، وَتَحْقِرُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَصْغَرَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَحْقَرَهُ، كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تُنَمِّيهَا وَتُزَكِّيهَا وَتُكَبِّرُهَا، قَالَ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ، وَالْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَبَّرَهَا وَأَعْلَاهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَظْهَرَهَا، وَقَدْ خَسِرَ مَنْ أَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا وَصَغَّرَهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ .
ولذلك كل ما أقبل الإنسان على الطاعة والصلاة والعبادة وجدَ أثرَ ذلك في نفسه ، حتى تصير الصلاة كما كانت للنبي عليه والصلاة والسلام قرة عين .
فتقر العين بها وتأنس النفس بها ، ويرتاح القلب لها .
السبب الثالث من أسباب السعادة والفلاح
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
جاء في تفسير اللغو أنه الشِرك ، وجاء في تفسيره عن الحسن أنها المعاصي .
وهو يشمل الإعراض عنها جميعا وذلك مِن وصْفِ عبادِ الرحمن (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي يسرعون ولا يستمعون إليه .
ولذلك لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم زمّارةَ راعٍ وضعَ أصبعيه في أذنيه ، وسمِع ابنُ عُمرَ ذلك فوضَعَ أصبعيه في أذنيه تأسيًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحِفظًا للقلب .
لأن القلب الذي يخشع يجب أن يُحفَظ ، فيُحفظ عن النظر المحرم ، ويُحفظ عن السماعِ المحرم .
ولذلك من أسباب مِن أسباب الفلاح ، الإعراض عن اللغو .
الرابِع : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)
قال ابن كثير في تفسيرها : الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال …… وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا : زكاة النفس من الشرك والدنس …….. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ; فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا ، والله أعلم . ا.هـ .
وتأملوا أيها الكرام (الإعراض عن اللغو) ، جاء بين الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة ، مما يدلّ على أن الإسلام يأتي بتزكية النفس بالإقدام على الفِعل ، والكَف عن الفِعل . فالخشوع فِعل ومحله القلب ، والزكاة فعل في النفس والمال ، والإعراض عن اللغو ترْك .
فدين الإسلام يأتي بتزكية النفس وبالفلاح بالفِعل والترك .
السبب الخامس : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)
لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عما أكثر ما يُدخِل الناسُ النارَ ، قال الفم والفَرْج ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة “ . رواه البخاري .
وقد استدل العلماء من هذه الآية على تحريم الزنا ، وتحريم المتعة ، وتحريم عمل قوم لوط ، وتحريم الاستمناء والعادة السيئة التي تُسمى العادة السرية .
فالله عز وجل قال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ثم قال : (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) .
قال ابن القيم رحمه الله : أن من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين ، وأنه من الملومين ، ومن العادين ، ففاته الفلاح ، واستحق اسم العدوان ، ووقع في اللوم . ا.هـ .
السبب السادس : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
قال القرطبي رحمه الله : والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا . وهذا يعم معاشرة الناس ، والمواعيد ، وغير ذلك ؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به . والأمانة أعم من العهد ، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد . اهـ .
وقد عَدَّ أبو الدرداء رضي الله عنه غُسل الجنابة من الأمانة .
فكل ما أُؤتمِن عليه الإنسان ، حتى المال والولد ، فالله عز وجل جعلك مُستخلَفًا في المال ، وجعلك عز وجل أمينًا على أهلك وولدك ، فكل هذا مِن الأمانات التي تُسأل عنها يوم القيامة .
السبب السابع : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)
في الأول ذكر الخشوع في الصلاة وفي الأخير ذَكَر المحافظة على الصلاة .
قال ابن كثير رحمه الله وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة ، واختتمها بالصلاة ، فدل على أفضليتها ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن “ .ا.هـ.
فصفات المؤمنين من أولها الخشوع في الصلاة ومن آخرها المحافظة على الصلاة .
ثم قال الله عز وجل (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
فالذين اتصفوا بهذه الصفات استحقوا الفردوس الذي هيأه الله عز وجل لعباده المؤمنين لما خلق الله عز وجل جنة عدن قال لها تكلمي ، قالت : قد أفلحَ المؤمنون ، فلما رأتها الملائكط قالت : طوبى لك منازل الملوك .
الثامن مِن أسباب الفلاح : هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الله عز وجل : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
فمِن أعظم أسباب الفلاح وأعظم أسباب السعادة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدمُ مشاقته عليه الصلاة والسلام فيما يأمر .
التاسع : التوبة إلى الله عز وجل
قال الله عز وجل : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
جميعًا بدون استثناء ، وليست توبةً خاصة بأصحاب المعاصي .
العاشر مِن أسباب الفلاح : أن يُوقَى العبدُ شُحَّ نفسِه
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)
فيتجنب الإنسانُ الشحَّ ويتجنبُ البخلَ ، وهذا مِن أعظم أسباب الفلاح ومِن أعظم أسباب انشراح الصدر .
قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) : الشح والبخل سواء ……. وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل ……. والمراد بالآية : الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة ، وما شاكل ذلك . فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه . ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه . وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله عز وجل يقول : (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا . فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل . ا.هـ .
اللهم إنا نسألك يا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكُن له كفوًا أحد أن تشفيَ مرضانا وأن تعافيَ مبتلانا وأن ترحمَ موتانا وأن تقينا شُحَّ أنفسنا وأن تجعلنا مِن عبادك الصالحين المفلحين .