محاضرة قصيرة بعنوان … مع النبي صلى الله عليه وسلم
المحاضرة مرئية هنا :
كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أجملَ الناس وَجها ، وأعدلَهم قَوَاما ، وأحسَنَ الناس خُلُقا .
سئلَ البراء رضي الله عنه : أكان وجهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثلَ السّيفِ ؟ قال : لا، بل مثلَ القمرِ . رواه البخاري .
قال القسطلاّني : ” بل مثلَ القمرِ” في الحُسن والملاحة والتدوير . وعَدَل إلى القمر لجمْعه الصفتين : التدوّرِ واللمعان .
وعند مسلم من حديث جابر بنِ سمرةَ قال : ” بل كان مثلَ الشمسِ ” أي : في نهاية الإشراق ” والقمرِ ” أي: في الحُسن . وزاد : ” وكان مُستديرًا ” تنبيهًا على أنه أراد التشبيهَ بالصفتين معًا : الحُسنِ والاستدارةِ ؛ لأن التشبيه بالقمر إنما يُراد به الملاحةُ فقط . اهـ .
وقَال أَنَس بن مَالِك رضي الله عنه : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا . رواه البخاري ومسلم .
ويَكفِي في مَدْحِه صلى الله عليه وسلم : تَزكِيَة الله له ؛ فهي أعلى وأسْمَى تَزكِية .
زَكّاه ربّه فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
زكّى عملَه ، فقال : (وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) قال ابن كثير : أي : بل لك الأجرُ العظِيمُ ، والثوابُ الجزيلُ الذي لا ينقطعُ ولا يبيدُ ، على إبلاغك رسالةَ ربك إِلى الخلقِ ، وصبْرِك على أذاهم . اهـ .
زَكّى قلبه ، فقال : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)
وزَكّى بَصَرَه ، فقال : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)
وزَكّى نُطقَه ولِسانَه ، فقال : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)
وزَكّى عَقلَه ، فقال : (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) ، (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)
وزكّاه كلّه ، فقال : (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)
كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أندى الناسِ راحةً ، وأرحبَهم ساحةً ، كان بابُه مَحطَّ الرحَال ، مَن أتاه خائفا أمِن ، ومَن أتاه طامِعًا غَنِم .
قَال جَابِر بن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما : مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لا . رواه البخاري ومسلم .
وقَال أنسٌ رضي الله عنه : ما سئلَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه ، قال : فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إِلى قومه ، فقال : يا قوم أسلِموا ، فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقةَ . رواه مسلم .
وأعطى صفوان بنَ أميةَ يومَ حُنينٍ مائةً من النعم ، ثم مائةً ، ثم مائة . رواه مسلم .
وقال رَافِع بن خَدِيجٍ رضي الله عنه : أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ . رواه مسلم .
وفي رواية له : وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاثَةَ مِائَةً .
هذا – والله – هو الْكَرَم ، ثم لعله صلى الله عليه وسلم يَبِيت جائعا .
وقَدِمَ عليه سبعون ألفَ درهمٍ ، فقام يَقسمُها فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منها صلى الله عليه وسلم . رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخبر جبير بنُ مطعم أنه كان يسير هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناسُ مَقْفَلَهُ من حنينٍ ، فَعَلِقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمُرةٍ ، فخطفتْ رداءه ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعطوني ردائي . لو كان لي عددُ هذه العِضَاه نَعَماً لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ، ولا كذوبا ، ولا جبانا . رواه البخاري .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم الشجاعُ الذي يتقدم الشجعان إذا احْمَرّتِ الحَدَق ، وادلَهَمّتِ الخطوب
أنت الشّجاع إذا الأبطالُ ذاهلةٌ **** والهندُوانيُّ في الأعناق والُّلمَمِ
قال البراءُ رضي الله عنه : كنا والله إذا احْمَرّ البَأس نتّقي به ، وإن الشجاعَ مِنا للذي يُحاذي به ، يعني النبيَ صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم
وقال عليٌّ رضي الله عنه : كنا إذا احْمَرّ البَأس ولَقِي القَومُ القَومَ اتقينا بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون مِنا أحدٌ أدنى مِن القَوم مِنه . رواه أحمد والنسائي في الكبرى ، بإسناد صحيح .
أما البراء رضي الله عنه فهو الملقّب بالمَهلَكَة ، وأما عليٌّ رضي الله عنه فشجاعتُه أشهرُ مِن أن تُذكَر .
ومع ذلك يتّقون بِرَسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أقربُ الناسِ إلى العدوّ ، غيرَ هَيّابٍ ولا وَجِلِ
ومع ذلك كان الشجاع منهم الذي يُحاذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنظَفُ الناس ، وأعطَرُ الناس ؛ أحسنُ الناس مَظهرا وأطهرُهم مَخبَرا ، وأذكاهُم عِطرا .
قال أَنَسٌ رضي الله عنه : كان رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم أزهرَ اللونِ ، كأنَّ عَرقَه اللؤلؤُ ، إِذا مشى تكفأَ ، ولا مسستُ دِيباجةً ، ولا حَريرةً ألْينَ من كف رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وَلاَ شممتُ مِسْكَةً ولا عنبرةً أطيبَ من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري ومسلم .
قال النووي : قولُهُ : ” أَزْهَرُ اللونِ ” هو الأبيضُ المستنيرُ ، وهي أحسنُ الألوانِ .
قولُهُ : ” كأنَّ عَرقَه اللؤلؤُ ” أي : في الصفاء والبياض . اهـ .
وقال جابر بنُ سَمُرَةَ : صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الأولى ، ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه ، فاستقبله ولدانٌ ، فجَعل يَمسحُ خديْ أحدِهم واحدًا واحدًا ، قال : وأما أنا فمسحَ خَدِّي . قال : فوجدتُ لِيَدِه بَرْدًا ، أو ريحًا كأنما أخرَجها من جُؤْنَةِ عطار . رواه مسلم .
تُشرِق الوُجوه بِمسْحَة يَدِه صلى الله عليه وسلم
قال أَبو العلاء بنُ عمير : كنتُ عندَ قَتادةَ بنِ مِلحانَ حينَ حُضِرَ ، فمَرَّ رجل في أقصى الدار ، قال : فأبصرتُه في وجه قتادةَ ، قال: وكنتُ إِذا رأيتُه كأن على وجهه الدهانَ ، قال : وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسح على وجهه . رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح .
طَلْقُ الْمُحيّا ، دائمُ البِشْر
قال كَعْبُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه : وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا سُرَّ استنارَ وجهُه حتى كأنه قطعةُ قمرٍ ، وكنا نعرف ذلك منه. رواه البخاري ومسلم .
وقال جَريرُ بنُ عبدِ الله : رأيتُ وجهَ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يتهللُ ، كأنه مَذهبَةٌ . رواه مسلم .
ووصَفَه عمر رضي الله عنه فقال : وكان مِن أحسنِ الناسِ ثغرًا . رواه البخاري ومسلم .
كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصدَقَ الخَلقِ ، وأوفَى الخَلق ، وأرحَمَ الخَلق بالخَلْق .
وَصَفَه الله عز وَجَل ببعض صِفَته ، فقال : (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
أغرُّ، عليه للنبوة خاتَمٌ *** مِن الله مَشهُودٌ يَلُوحُ ويُشهَدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخَمسِ المؤذنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليُجِلَّه *** فذو العرشِ محمودٌ ، وهذا محمدُ
رَفَع الله له ذِكْرَه ؛ فلا يُذكر الله عزّ وَجَلّ إلاّ ويُذكر معه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)
قال مجاهد : لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي : أشهَد أن لا إلهَ إلا اللهُ ، وأشهد أن محمدًا رسولُ اللهِ .
وقال قتادة : رفع اللهُ ذِكرَه في الدنيا والآخرةِ، فليس خطيبٌ ولا مُتشهدٌ ولا صاحبُ صلاةٍ إلا يُنادي بها: أشهَد أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأن محمدًا رسولُ الله .
مَن يُصلِّ الصلواتِ المفروضةَ ويُصلِّ السننَ الرواتبَ ويُرددْ خلفَ المؤذنِ : فسيَذكرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (باسْمِه أو بِوصفِه) أكثرَ من 80 مرّةً في اليوم
فلو افترضنا أن مليارَ مُسلم فعلوا ذلك يوميا ؛ فسيُذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوميا أكثرَ من 80 مليار مرّة
فكم سيُذكر في الشهر الواحد ؟
وكم سيُذكر في العام الواحد ؟
وكم ذُكر مِن مرّة خلالَ 1400 عام ؟
هنا تقف الأعداد ، وتتوقف الحسابات …
مهما بَلغَت رِفعةُ بَشَر ، ومهما علا كَعبُه ، وارتفعت قيمتُه ؛ فلن يُذكرَ بَشَرٌ كما ذُكِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
وصدَق الله : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك)
أعظم الْخَلْقِ وأكرمهم على الله
كان ممكِن أن تُدَكْدَك جِبَال مكّة على أهلها نُصْرَة لِرسول الله صلى الله عليه وسلم .
في الصحيحين أن مَلَكَ الجبال نادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وسلَّمَ عليه ، ثم قال : يا محمدٌ ، إن اللهَ قد سمِعَ قولَ قومِك لك ، وأنا مَلَكُ الجبال وقد بعثني ربُّك إليك لتأمُرَني بأمرك ، فما شئتَ ، إن شئتَ أن أطبقَ عليهم الأخشبين ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أنْ يُخرِجَ اللَّه من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه لا يشرِكُ به شيئًا .
وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ وهو جالسٌ حزينا ، قد خُضِّبَ بالدماء ، ضَرَبَهُ بعضُ أهل مكةَ قال: فقال له: ما لك ؟ قال : فقال له : ” فعل بي هؤلاءِ وفعلوا “، فقال له جبريل عليه السلام : أتُحِب أنْ أريكَ آية ؟ قال : نعم ، قال : فنظرَ إلى شجرة مِن وَراء الوَادي ، فقال : ادعُ بتلك الشجرةِ ، فدعاها ، فجاءتْ تمشي حتى قامتْ بين يديه ، فقال : مُرْها فلترجعْ ، فأمرها فرجعتْ إلى مكانها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبي ، حسبي . رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، وهو حديث حَسَن .
قولُه : ” أتُحب ان أُرِيك آية ” قال السندي : تدلُّ على ما لَك عند الله مِن الكَرَامة والشَّرَف الذي تُنْسَى في جَنْبِه ما يَلحقُ بك مِن التعب في تبليغ الرسالة . اهـ .
الحوض مَورِدُه ، والصِّراطُ موقِفُه ، و” أمّتي أمّتي ” بَيَانُ رَحمتِه وشَفَقَتِه .
بِعثَته رحمة ، ورِسالته هِداية .. (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ) .
السّراجُ الْمُنِير ، والبشير النذير (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا) .
هُو نُورٌ مِن الله .. (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) ذَكَر الإمام السمعاني أن مِن معاني النورِ هنا : محمدًا صلى الله عليه وسلم . قال : وَسُمي نورا لأنه يُتبينُ به الأشياءُ ، كما يتبينُ بالنورِ .
هو الحجّة والبُرهان .. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم ، هذا قولُ أكثرِ المفسرين) … والبرهانُ : الحجةُ .
مُعجِزاته باهِرة ، وآياته ظاهِرة ، ودلائل نُبوّتِه مُتشهرة كَثْرَةٌ كاثِرة .
اشْتَكَتْ إليه البهيمةُ والطّيرُ ؛ فأنصَفَها
وحَنّ إليه الجذع ؛ فاحتضَنَه ، وهدّأ مِن حَنينه
وسلَّم عليه الحجَر ، وشَهِد بِنُبوّته الشّجر
دَخَل النبي صلى الله عليه وسلم حائطَ رَجلٍ مِن الأنصار فإِذا جَمَلٌ ، فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفتْ عيناه ، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فمَسَحَ ذِفراه ، فسَكَتَ ، فقال : مَن رَبُّ هَذَا الجمَلِ ؟ لِمَن هذا الجملُ ؟ فجاء فتًى مِن الأنصار فقال : لي يا رسولَ اللَّه ، فقال : أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ اللَّهُ إياها ؟ فإنه شَكَا إلَيَّ أنك تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ . رواه الإمام أحمد وأبو داود . وصححه الشيخ الألباني ، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غيرَ الحسنِ بنِ سعد ، فمن رجال مسلم . اهـ . قال ابن الجوزي : الذِّفْرَى من البعير مُؤخِّرُ رأسه .
وحَدَّث عبدُ اللَّه بنُ مَسْعُود رضي اللَّه عنه فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فانطلق لحاجته ، فرأينا حُمّرة معها فَرخان ، فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلتْ تَفرُش ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مَن فَجَع هذه بِولدِها؟ رُدّوا وَلدَها إليها . ورأى قَرية نمل قد حَرَقناها ، فقال : مَن حَرَق هذه ؟ قلنا : نحن ، قال : إنه لا ينبغي أن يُعذبَ بالنار إلا ربُّ النار . رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي رواية لأبي داودَ الطيالسيِّ : كُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر ، فَدخل رَجُل غَيضةً فأخْرَج منها بَيضةَ حُمّرةٍ ، فجاءت الحُمّرة تَرِفُّ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : أيكُّم فَجَعَ هذه ؟ فقال رَجُل مِن القوم : أنا أخذتُ بَيضتَها ، فقال : رُدّه رُدّه ، رَحْمَةً لها .
ورواه الإمام أحمد والبخاري في ” الأدب المفرَد ” بِذِكر بيضةٍ بدلِ ذِكرِ فَرخ .
قال ابن الأثير : الحمَّرةُ – بضم الحاء وتشديد الميم – وقد تُخَفّف : طائرٌ صغير كالعصفور .
وقال ابن الجوزي : في الحديث : ” فجاءت الْحُمَّرة فَجعلَت تَفرُش ” وهو أن تقربَ مِن الأرض وتُرفرفُ بجناحيها .
قال ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخطب إلى جذع ، فلما اتخذ المنبرَ تحولَ إليه فحَنَّ الجذع ، فأتاه فمسَح يدَه عليه . رواه البخاري .
وفي رواية عن ابن عباس : فحنَّ الجذع حتى أخذه فاحتضنه فسَكَن ، فقال : لو لم أحتضنْه لَحَنَّ إلى يوم القيامة رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرفُ حجرًا بمكةَ كان يُسَلِّم عليّ قبل أن أُبْعَثَ، إني لأعرفه الآن . رواه مسلم .
شَهِد له بالنبوّة الشجرُ والحجر
دَعَا شَجرةً فجاءت تمشي إليه
قال ابنُ عمرَ رضي الله عنهما : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأقبَلَ أعرابي ، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين تريد ؟ قال : إلى أهلي ، قال : هل لك في خير ؟ قال : وما هو ؟ قال : تشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ ، وأن محمدا عبدُه ورسولُه. فقال : ومن يشهدُ على ما تقول؟ قال : هذه السَّلَمَةُ . فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي ، فأقبلت تخدُّ الأرضَ خدا حتى قامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثا ، فشهدت ثلاثا أنه كما قال ، ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه ، وقال : إن اتبعوني أتيتك بهم ، وإلا رجعت فكنت معك. رواه الإمام الدارمي .
وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بِمَ أعرف أنك نَبِيٌّ ؟ قال : إن دعوتُ هذا العِذقَ مِن هذه النخلةِ ، أتشهد إني رسولُ الله ؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل ينزل مِن النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ارجع ، فَعَاد ، فأسلم الأعرابي . رواه الإمام أحمد والترمذي ، وهو حديث صحيح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وكان يأتِيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ومعجزاتُه تزيدُ على ألف معجزةٍ .
وأورد ابن كثير قولَ الإمام الشافعي : ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم. فقيل له : أعطى عيسى إحياءَ الموتى. فقال : أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه ، حين هُيئ له المنبرُ حن الجذع حتى سُمع صوتُه ، فهذا أكبرُ من ذاك.
والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب التنبيهُ على شرف ما أعطى الله أنبياءه عليهم السلام من الآيات البينات ، والخوارق القاطعات ، والحجج الواضحات ، وأن الله تعالى جمع لعبده ورسوله سيدِ الأنبياء وخاتمِهِم من جميع أنواع المحاسن والآيات ، مع ما اختصه الله به مما لم يؤت أحدا قبله . اهـ .
وإنما قال : فهذا أكبر من ذلك ؛ لأن الجذع ليس محلا للحياة ومع هذا حصل له شعورٌ ووجْد ، لما تحول عنه إلى المنبر فَأنَّ وحن حنين العِشار حتى نزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنه وسكَّنه حتى سكن .
قال الحسن البصري : فهذا الجذع حن إليه ، فإنهم أحقُّ أن يحنوا إليه .
وأما عود الحياة إلى جسدٍ كانت فيه بإذن الله فعظيم ، وهذا أعجبُ وأعظم من إيجاد حياة وشعور في محل ليس مألوفا لذلك لم تكن فيه قبل بالكلية . فسبحان الله رب العالمين .
وقال ابن كثير : قال شيخنا : فهذه جمادات ونباتات ، وقد حنت وتكلمت وفي ذلك ما يقابل انقلابَ العصا حية . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : وآياته صلى الله عليه وسلم المتعلقةُ بالقدرة والفعل والتأثير أنواع :
الأول منها :
ما هو في العالم العلوي كانشقاق القمر ، وحراسة السماء بالشهب الحراسةَ التامةَ لما بعث ، كمعراجه إلى السماء ، فقد ذكر الله انشقاق القمر ، وبيّن أن الله فعله ، وأخبر به لحكمتين عظيمتين :
أحدُهما : كونه من آيات النبوة ، لما سأله المشركون آية ، فأراهم انشقاق القمر .
والثانية : أنه دلالة على جواز انشقاق الفلك ، وأن ذلك دليل على ما أخبرت به الأنبياء من انشقاق السماوات …
ومعلوم بالضرورة في مطّرد العادة ، أنه لو لم يكن انشق لأسرعَ المؤمنون به إلى تكذيب ذلك ، فضلا عن أعدائه الكفار والمنافقين ، ومعلوم أنه كان من أحرص الناس على تصديق الخلق له ، واتباعِهِم إياه ، فلو لم يكن انشق لما كان يُخبر به ويقرؤه على جميع الناس ، ويُستدل به ، ويجعله آية له .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال : إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين …
وكذلك صعودُه ليلة المعراج إلى ما فوق السماوات ، وهذا مما تواترت به الأحاديث ، وأخبر به القرآن ، أخبر بمسراه ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو بيتُ المقدس ، وفي موضع آخر بصعوده إلى السماوات ، فقال تعالى : (سُبْحان الذِي أسْرى بِعبْدِهِ ليْلًا مِن الْمسْجِدِ الْحرامِ إِلى الْمسْجِدِ الْأقْصى الذِي باركْنا حوْلهُ لِنُرِيهُ مِنْ آياتِنا إِنه هُو السمِيعُ الْبصِيرُ) [الإسراء: 1] .
فأخبر هنا بمسراه ليلا بين المسجدين ، وأخبر أنه فعل ذلك ليريه من آياته . ومعلوم أن الأرض قد رأى سائرُ الناس ما فيها من الآيات فعلم أن ذلك ليريه آيات لم يرها عموم الناس …
والنوع الثاني :
آيات الجو ، كاستسقائه صلى الله عليه وسلم ، واستصحائه [طَلَب الصّحْو] ، وطاعةِ السحاب له ، ونزولِ المطر بدُعائه صلى الله عليه وسلم .
والنوع الثالث :
تصرفه في الحيوان : الإنس ، والجن ، والبهائم .
وذَكَرَ مُخاطَبَته صلى الله عليه وسلم للحيوانِ والشَّجرِ والجن .
وذَكَر حديث سَفِينَةَ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ركبت البحر في سفينة فانكسرتْ ، فركبت لوحا منها فطرحني في أجمة فيها أسدٌ ، فلم يرعني إلا به ، فقلت : يا أبا الحارث ، أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطأطأ رأسه ، وغمز بمنكبه شقي ، فما زال يغمزني ، ويهديني إلى الطريق ، حتى وضعني على الطريق ، فلما وضعني همهم ، فظننت أنه يودعني . رواه الحاكم ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي .
وفي حديث جابر رضي الله عنه ، وفِيه : أنّ امرأة أتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابني هذا به لمم منذ سبعِ سنين ، يأخذه كلَّ يوم مرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدنيه ، فأدنَتْه منه ، فتَفَل في فيه ، وقال : اخرُج عدوَّ الله ، أنا رَسول الله . رواه ابن أبي شيبة والدارمي .
وفي حديث عثمانَ بنِ أبي العاصِ رضي الله عنه قال : يا رسولَ الله عَرَض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي . قال : ذاك الشيطانُ ، أدنُه ، فدنوتُ منه ، فجلستُ على صُدور قَدمي ، قال: فضرب صدري بيده ، وتفَل في فَمِي ، وقال : اخرج عدو الله – ففعل ذلك ثلاثَ مراتٍ – ثم قال : اِلحقْ بعملك . فقال عثمان : فَلعَمْري ما أحسبه خالطني بَعد . رواه ابن ماجه .
النوعُ الرابع :
آثارُهُ في الأشجار والخشب
وقد تقدّم تكليمُهُ صلى الله عليه وسلم للشجر والحَجَر ، واستجابةُ الشجر له ، وتسليمُ الحجر عليه .
والنوعُ الخامس :
الماء والطعام والثمار ، الذي كان يكثر ببركته فوق العادة ، وهذا باب واسع نذكُر منه ما تيسر .
أما الماء : ففي الصحيحين عن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء ، فأُتي بقدح رحراح ، فجعل القوم يتوضئون ، قال : فحزرت ما بين السبعين إلى الثمانين .
وفي حديث أنس رضي الله عنه : أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ القوم . قال قتادةُ : قلت لأنس : كم كنتم ؟ قال : ثلاثمائة أو زهاءُ ثلاثمائة . رواه البخاري ومسلم .
وفي الصحيحين عن جابر قال : قد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حضرتْ صلاة العصر، وليس معنا ماءٌ غيرَ فضلة ، فجُعل في إناء فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده فيه ، وفرج أصابعه ، وقال : حي على الوضوء ، والبركةُ من الله . فلقد رأيت الماءَ يتفجر من بين أصابعه ، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلتُ في بطني منه ، فعلمت أنه بركة ، قلت : لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال : ألفا وأربعمائة .
ودعا وبارَك في طعام قليل ، فكفى أَلْفَ شخص ، وذلك يومُ الخندق
قال جابر : فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز كما هو . رواه البخاري ومسلم .
قال النووي : وقد تضمن هذا الحديث علمين من أعلام النبوة :
أحدهما : تكثير الطعام القليل .
والثاني : علمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفا وزيادة ، فدعا له ألفا قبل أن يصل إليه ، وقد علم أنه صاع شعير وبهيمة . اهـ .
وأما النوع السادس :
تأثيره في الأحجار، وتصرفه فيها ، وتسخيرها له ؛ ففي صحيح البخاري عن أنسٍ قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحدا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل ، فقال: اسكُنْ – وضربه برجله – فليس عليك إلا نبيٌّ، وصديق، وشهيدان .
النوع السابع :
من آياته صلى الله عليه وسلم تأييدُ الله له بملائكته . قال الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) .
وفي الصحيحين عن سعدِ بنِ أبي وقاص قال : رأيت يومَ أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن يساره رجلين عليهم ثيابٌ بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ القتال ، ما رأيتهما قبل ذلك اليومِ ولا بعده ، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام .
النوع الثامن :
في كفاية الله له أعداءه ، وعصمتِه له من الناس ، وهذا فيه آية لِنُبُوّته مِن وُجوه :
منها : أن ذلك تصديقٌ لقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَظ°هًا آخَرَ غڑ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 94] ، فهذا إخبارُ الله بأنه يكفيه المشركين المستهزئين .
ومنها : أنه كَفَاه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة .
ومنها : أنه نَصَرَه مع كثرة أعدائه ، وقوتهم ، وغلبتهم ، وأنه كان وحده جاهرا بمعاداتهم ، وسَبِّ آبائهم ، وشَتْمِ آلهتهم ، وتسفيهِ أحلامهم ، والطعنِ في دينهم ، وهذا مِن الأمور الخارقة للعادة ، والمستهزئون كانوا مِن أعظم سادات قريش ، وعُظماء العَرب .
وقد عَصَمَه الله مِن مَكْر اليهود ، ففي حديث أَنَسٍ ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ، قَالَ: أَوْ قَالَ ، عَلَيَّ . رواه البخاري ومسلم .
وحَفظه الله وحَرَسَه مِن كَيد المشرِكين وبَطْشِهم .
قال أَبُو جَهْلٍ : هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ ، أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ : فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي ، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ ، قَالَ : فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ ، قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : مَا لَكَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ دَنَا مِنِّي لاَخْتَطَفَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا . رواه مسلم . ورواه البخاري مُخْتَصرا مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
وهذا فيه : كفايةِ اللهِ لِنَبِيّه صلى الله عليه وسلم أعداءَه ، وعِصْمته له مِن الناس ، وتأييده له بالملائكة .
وعَصَمَ الله رَسُوله مِن مُؤامَرات الْمُشْرِكِين .
ففي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ ، فَتَعَاهَدُوا بِاللاّتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الأُخْرَى : لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا، قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ ، قَالَ : فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا ، فَقَالَتْ : هَؤُلاءِ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ ، قَدْ تَعَاهَدُوا : أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ ، قَالَ : ” يَا بُنَيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا ” فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ ، قَالُوا : هُوَ هَذَا ، هُوَ هَذَا . فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ ، فَحَصَبَهُمْ بِهَا ، وَقَالَ : ” شَاهَتِ الْوُجُوهُ ” قَالَ : فَمَا أَصَابَتْ رَجُلا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلاّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا . رواه الإمام أحمد ، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي على شرط مسلم .
قال ابن الأثير : العَقَر بفَتْحتين : أن تُسْلِمَ الرجُلَ قوائمُه من الخَوف . وقيل : هو أن يفْجَأه الرَّوعُ فَيدْهشَ ولا يستطيعَ أن يتقدَّمَ أو يتأخر . (النهاية في غريب الحديث) .
النوع التاسع :
في إجابة دعوته ، وإجابةُ الدعاء منه ما تكون إجابتُه معتادةٌ لكثير مِن عباد الله كالإغناء ، والعافية ، ونحو ذلك ، ومنه ما يكون الْمَدْعُوّ به مِن خَوَارق العادات ؛ كَتَكْثِير الطعام والشراب كثرةً خارِجةً عن العادة ، وإطعامِ النّخْل في العام مَرّتين مع أن العادة في مِثْله مَرّة ، وَرَدِّ بَصَر الذي عَمِي ، ونحو ذلك .
ومعلوم أن من عوّده الله إجابةَ دعائه لا يكون إلاّ مع صلاحه ودينه .
وقد تقدم دعاؤه للذي ذهَبَ بَصَره فأبْصَر ، ودعاؤه في الاستسقاء فما رَدّ يديه إلا والسماءُ قد أمطرت، ودعاؤه في الاستصحاء ، وإشارتُه إلى السحاب فتقطع مِن سَاعَته ، ودعوته على سُراقة بن جُعْشم لَمّا تَبِعهم في الهجرة فغاصَت فرسُه في الأرض ، ودعاؤه يوم بدر ، ويوم حُنَين .
ودعا صلى الله عليه وسلم لأنسٍ رضي الله عنه : اللهم ارزقه مالاً وولدًا ، وبارِك له فيه . قال أنسٌ : فإني أكثرُ الأنصار مالاً ، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصُلبي إلى مقدم الحَجاج البصرة بضع وعشرون ومائة . رواه البخاري .
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروةَ بنَ الجعد البارِقيّ دينارا يشتري له به شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فَدَعا له بالبَركة في بَيْعه ، وكان لو اشترى التّراب لَرَبح فيه .
(الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح) بتصرف واختصار وزيادةٍ في بعض المواضع .
ودَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه يوم بَدْر ، واستجاب الله دُعاءه .
ودَعا على قريش فقال : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ ؛ فأجَاب الله دَعوته . كما في الصحيحين .
وإجابات دعواته صلى الله عليه وسلم وقَعَت كثيرا .
والنّوع العاشِر – مما لم يَذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – : تحقق وَعْده ، وتَصدِيق الله له في حال حياته وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك : أنه أخْبَر بِمَصَارِع أعدائه ، وأشار إلى أماكِن قَتْلِهم ؛ فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام .
قال أنس رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر : هَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ ، قَالَ : وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ : هَاهُنَا، هَاهُنَا ، قَالَ : فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم .
قال النووي : قوله : ” فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ ” أَيْ : تَبَاعَدَ . (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)
والمعنى : أنه ما تجاوز أحدٌ منهم الموضِع الذي حَدّده النبي صلى الله عليه وسلم لِمَقْتلِه فيه وتَوعَّد الْمُشرِك أن يَقْتُله ؛ فَقَتَلَه .
ولَمّا جَاءَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَظْمِ حَائِلٍ ، فَقَالَ : اللَّهُ مُحْيِي هَذَا يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ رَمِيمٌ ؟ وَهُوَ يَفُتُّ الْعَظْمَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يُحْيِيهِ اللَّهُ ، ثُمَّ يُمِيتُكَ ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ . قَالَ الزهري : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ : وَاللَّهِ لأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا رَأَيْتُهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . رواه ابن جرير الطبري في ” تفسيره ” (11/87) ، وهو مِن مَرَاسيل الزهري .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمَل الناس في هذه الشجاعة ، التي هي المقصودة في أئمة الْحَرَب ، ولم يَقتُل بِيدِه إلاّ أُبَيّ بن خَلَف ، قَتَلَه يوم أُحُد ، ولم يَقْتل بِيدِه أحدًا لا قَبْلها ولا بَعدها . (منهاج السنة النبوية) .
وقال ابن القيم : وَأَقْبَلَ أُبَيّ بن خَلَف عَدُوُّ اللَّهِ ، وَهُوَ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ ، يَقُولُ : لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ ، وَكَانَ حَلَفَ بِمَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، فَقُتِلَ مصعب ، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَةَ أُبَيّ بن خَلَف مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ ، فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ ، فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ ، وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ ، فَقَالُوا : مَا أَجْزَعَكَ ؟ إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ ، فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَمَاتَ بِرَابِغ . (زاد المعاد)
وأما ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وتحقق وَعْده ، وتَصدِيق الله له ؛ فهو كثير ، ومِنه :
ما رواه الأئمة وتحقق وقوعه :
– إخباره صلى الله عليه وسلم عن الكذّابين المدَّعِين للنبوة مِن بعده .
– وإخباره صلى الله عليه وسلم عن مَقتَل عثمان رضي الله عنه ، وقد وقَع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم .
– وإخباره صلى الله عليه وسلم عن إصلاح الحسن بن علي رضي الله عنهما بين فِئتين عَظيمَتين مِن المسلمين . وقد وَقَع هذا حينما تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لِمعاوية رضي الله عنه سَنَة 41 مِن الهجرة .
– وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أسرَع أهله لُحوقا به . كما في صحيح البخاري .
– وإخباره صلى الله عليه وسلم عن رجل يكون عطاؤه حَثْيا ؛ فكان عُمر بن عبد العزيز رحمه الله ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
– وإخباره صلى الله عليه وسلم بِخُروج نار مِن أرض الحجاز ، فَوَقَع ما أخبر به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأكثر مِن 600 سَنة .
وفي الحديث : لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى . رواه البخاري ومسلم .
– وأخبَر عن قوم يَركَبون البَحر ، ودَعا لأُمّ حَرَام بِنْت مِلْحَان رضي الله عنها أن تكون معهم ؛ فكَانت ، وذلك في زَمن معاوية رضي الله عنه . كما في الصحيحين .
قال الإمام النووي : وفيه معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم ، منها : إخبَاره بِبقَاء أُمّته بعده ، وأنه تكون لهم شَوكة وقُوّة وعَدَد ، وأنهم يَغزُون ، وأنهم يرَكبون البحر وأن أمّ حرام تعيش إلى ذلك الزمان ، وأنها تكون معهم . وقد وُجِد بِحَمد الله تعالى كل ذلك . اهـ .
قال الذهبي : يُقَالُ هَذِهِ غَزْوَةُ قُبْرُسَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَان َ. اهـ .
وكان ذلك في سنة 27 هـ .
– وأخبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فُتوحات تكون بعده ؛ فكانت .
ففي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم لِعَدِيّ بن حاتم : يَا عَدِيُّ ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ ؟ قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا ، قَال : فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاّ اللَّهَ ، – قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا البِلاَدَ – ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى ، قُلْتُ : كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ؟ قَال : كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ …
قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ إِلاّ اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ ، لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو القَاسِمِ: صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ .
وقد عَقَد أبو نعيم الأصبهاني في ” دلائل النبوة ” فَصْلا قال فيه :
الفصل السادس والعشرون : ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مِن الغيوب فتَحقّق ذلك على ما أخْبَر به في حياته وبعد موته ؛ كالإخبار عن نُموّ أمْره ، وافتتاح الأمصار والبلدان على أُمّته ، والفِتن الكائنة بعده ، وإخباره بِعَدد الخلفاء ومُدّتهم ، والملك العَضوض بعدهم . اهـ .
وخلاصة القول : ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية : وكان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ومعجزاتُه تزيد على ألف معجزة .
اللهم صَلّ وسلِّم وزِد وبارك على سيِّد ولد آدم ، ما تعاقب الليل والنّهار .