محاضرة قصيرة بعنوان … وكان فضل الله عليك عظيمًا
المحاضرة مرئية هنا :
ذَكّرَ اللهُ نَبِيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم بِفضلِه ونِعمَتِه عليه ، فقال : (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)
وذلك أنّه تباركَ وتعالى آوَاه وعلَّمَه ونَصَرَه وحَمَاه وحَفِظَه .
وقال عَزَّ وَجَلَّ في شأنِ المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)
وقالَ تباركَ وتعالى في تَربِيةِ المؤمنين : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا)
وقال سبحانه وتعالى في ذِكْرِ نِعمتِه وفَضْلِه على الناسِ جَميعا : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ)
وتَنوّعتْ عِباراتُ الْمُفسِّرينَ ؛ فقال ابنُ جريرٍ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بِتَرْكِهِ مُعَاجَلَتَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ ، وَكُفْرِهِمْ بِهِ ، وَهو ذُو إِحْسَانٍ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ نِعَمِهِ عِنْدَهُمْ . اهـ .
وقال القرطبيُّ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) فِي تَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ وَإِدْرَارِ الرِّزْقِ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فَضْلَهُ وَنِعَمَهُ . اهـ .
وقال ابنُ كثيرٍ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أَيْ : فِي إِسْبَاغِهِ نعمَه عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) أَيْ : يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ، كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ . اهـ .
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في كلِّ شيءٍ
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في بقاءِ عَقْلِك
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في بصَرِك وبصيرتِك
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في سَمعِك
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في عافيةِ بَدَنِك
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في جَرَيانِ النّفَسِ
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في جَرَيانِ الدّمِ في العُروقِ دُون جُهْدٍ منك ولا عَمَلٍ
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في هضْمِ الطّعامِ
كلُّ هذه تعْمَلُ في كلِّ وقتٍ دون جُهدٍ منك ولا عَمَلٍ ، ولو كُلِّفتَ بِعَملِها لكُلِّفتَ بأمرٍ شاقّ .
قال ابنُ القيمِ : مَن جَعَل فِي الْحَلْقِ مَنْفَذَيْن : أحدُهما للصوتِ ، وللنَّفسِ الْوَاصِلِ إلى الرئةِ .
والآخَرُ للطعامِ وَالشرَابِ وَهُوَ المريءُ الْوَاصِلُ إلى الْمعدةِ .
وَجعلَ بَينهمَا حاجزا يمْنَعُ عبورَ أحدِهما فِي طَرِيقِ الآخَرِ ، فَلَو وَصَلَ الطَّعَامُ مِن مَنْفَذِ النَّفَسِ إلى الرئةِ لأهْلَكَ الْحَيَوَانَ ؟
وَمَن جَعَلَ الرئةَ مُرْوَحةً للقَلْبِ تُرَوِّحُ عَلَيْهِ لا تَنِي وَلا تَفْتُر ؛ لكيلا تَنْحَصِرَ الْحَرَارَةُ فِيهِ فَيهْلكَ ؟
وَمن جَعَلَ الْمِعْدَةَ كَأشَدِّ مَا يكونُ مِن العَصَبِ ؛ لأنها هُيِّئَتْ لِطَبْخِ الأطْعِمَةِ وإنْضَاجِها ، فَلَو كَانَت لَحْمًا غَضّا لانْطَبَخَتْ هِيَ ونَضِجَتْ ، فَجُعِلتْ كَالعَصَبِ الشَّديدِ لتِقْوَى على الطَّبْخِ والإنْضَاجِ ، وَلا تُنْهِكُها النَّارُ الَّتِي تَحتهَا ؟
وَمَن جَعَل الكَبدَ رَقيقَةً ناعمةً ؛ لأنها هُيّئتْ لِقَبُولِ الصّفْوِ اللَّطِيفِ مِنَ الْغِذَاءِ والْهَضْمِ ، وَعَمَلٍ هُوَ ألْطَفُ مِن عَمَلِ الْمِعْدة ؟
وَمَن حَصَّنَ الْمُخَّ اللَّطِيفَ الرَّقِيقَ فِي أنابيبَ صَلْبَةٍ مِنَ الْعِظَامِ ؛ لِيَحْفَظَها ويَصُونَها ، فَلا تفْسُدُ وَلا تذوبُ ؟
وَمَن جَعَلَ الدَّمَ السّيّالَ مَحْبُوسًا مَحْصُورا فِي الْعُرُوقِ بِمَنْزِلَةِ المَاءِ فِي الْوِعَاءِ لِيَنْضَبِطَ فَلا يَجْرِي ؟
وَمَن جَعلَ الأظفارَ على أطْرَافِ الأصابعِ وِقَايَةً لَهَا وصِيَانةً مِن الأعْمَالِ والصّنَاعَاتِ ؟
وَمنْ جعلَ بَاطِنَ الْكَفِّ غيرَ قَابلٍ لإنْبَاتِ الشّعْرِ ؛ لأنه لَو أشْعَرَ لَتَعَذّرَ على الإنسانِ صِحَةُ اللَّمْسِ ، ولَشَقَ عَلَيْهِ كثيرٌ مِنَ الأعمالِ الَّتِي تُبَاشَرُ بِالكَفِّ ؟
ولِهَذه الْحِكْمَةِ سُلِبَ عَنِ الشّفَتَيْن وَكَذَا بَاطِنِ الْفَمِ وَكَذَا أيضا الْقَدَم أخْمُصها وظَاهِرُها ؛ لأنها تُلاقِي التُّرَابَ والوَسَخَ والطّينَ والشّوكَ ، فَلَو كَانَ هُنَاكَ شَعْرٌ لآذى الإنسانَ جدا ، وَحَمَلَ مِنَ الأرضِ كُلَّ وَقَتٍ مَا يُثْقِلُ الإنسانَ .
وَلَيْسَ هَذَا للإنسانِ وَحْدَه ، بل تَرَى الْبَهَائِمَ قد جَلّلَها الشّعْرُ كُلهَا ، وأُخْلِيَتْ هَذِه الْمَوَاضِعُ مِنْهُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ .
أفلا تَرَى الصَّنْعَةَ الإلهيةَ كَيفَ سَلَبَتْ وُجُوهَ الْخَطَأِ والْمَضَرَّةِ ، وَجَاءَتْ بِكُلِّ صَوَابٍ وكلِّ مَنْفَعَةٍ وكلِّ مصلحَةٍ ؟
وَمنْ جَعَلَ الرِّيقَ يجْرِي دَائِما إلى الْفَمِ لا يَنْقَطِعُ عَنهُ لِيَبُلَّ الْحَلْقَ واللّهَوَاتِ ، ويُسَهِّلَ الْكَلامَ ، ويُسِيغَ الطَّعَامَ .
فَتَأمَّلْ حالَكَ عِنْد مَا يَجِفُّ رِيقُك بَعضُ الْجَفَافِ ، ويَقِلُّ يَنْبُوعُ هَذِه الْعينِ الَّتِي لا يَسْتَغْني عَنهُ . (باختصار مِن : مفتاح دار السعادة)
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في حِفظِه لك وحراستِه لك حتى وأنت نائمٌ
قال اللهُ عَزَّ وَجَلّ : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) وقال تبارك وتعالى : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)
قال ابنُ كثيرٍ : وَقَوْلُهُ: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ: لِلْعَبْدِ مَلائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ وحَرَسٌ بِالنَّهَارِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنَ الأَسْوَاءِ وَالْحَادِثَاتِ ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلائِكَةٌ آخَرُونَ لِحِفْظِ الأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ؛ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ . اهـ .
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في سترِه الذَّنْبَ وهو يَرى عبدَه يُبارِزُه بالعصيانِ
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في عدمِ مُعاجَلَتِك بالعقوبةِ
يا مَنْ يَرى مَدَّ البَعوضِ جناحَها … في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ
ويَرَى عروقَ نِياطِها في نَحرها … والمخَّ في تلك العظامِ النّحّلِ
اغفرْ لعبدٍ تابَ مِن فَرَطاتِه … ما كان مِنه في الزمانِ الأولِ
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في تعلِيمِه إياكَ ما لم تَعلَمْ
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ في تَكفّلِه بِرِزقِك
والرزقُ في كلِّ شيءٍ : فالهدايةُ رِزقٌ ، والصحةُ رِزقٌ ، والغنى رِزق ، والعافيةُ رِزْق ، والولَدُ رِزق ، وصلاحُ الولدِ رِزق ، وغيرُها كثير .
قَالَ الْحَسَنُ البصري : مَنْ لا يَرَى لِلَّهِ نِعْمَةً إِلاّ فِي مَطْعِمٍ أَوْ مَشَرْبٍ أَوْ لِبَاسٍ ؛ فَقَدْ قَصُرَ عِلْمُهُ ، وَحَضَرَ عَذَابُهُ . رواه ابنُ أبي الدنيا في “الشُّكر”
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ حينما شرّفَك وكرّمَك وحَبَاك وأعطاك وكَفَاك وآواك
بلْ فضّلَكَ ومَنَّ عليك بِما مَنَّ به على المرسَلِين ؛ فإنُّه سبحانه وتعالى أعطَى المؤمنين ما أعطَى المرسلين إلاّ ما خَصّ الرُّسُلَ به ، كالعِصْمَةِ الوَحِي .
تأمّلَ قولَ اللهِ عزّ وجَلّ : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)
وقالَ في حقِّ المؤمنين : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)
وقال الله تبارك وتعالى في شأن نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم : (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)
وقال في شأن المؤمنين : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا)
ووَعَدَ الله المؤمنين بِما وَعَد به المرسَلِين ، فقالَ تباركَ وتعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)
وقال عن رسولِه صلى الله عليه وسلم : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
وقال عنِ المؤمنين : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا)
وجَعَل الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم شَاهِدًا على المؤمنين ، فقال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)
وقال عن المؤمنين : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
وفي دُعاء خليلِ الرحمن إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .
وفي دعاء نَبِيّ الله سليمانَ عليه الصلاة والسلام : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)
وقال عنِ المؤمنين : (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَال : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). رواه مسلم .
وقال تبارك وتعالى عن أجْرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ)
وقال عن أُجور المؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)
فَهَل تَعِي قَدْرَك ؟
قال ابن الجوزي : يا مُختَار الكَوْن وما يعرف قَدْر نفسِه . أمَا أسجَدت الْمَلائِكَة بالأمْس لَك ، وجَعَلتُهم الْيَوم فِي خِدْمَتِك ؟
(الْمُدْهِش)
وقال ابن القيم رحمه الله : فالدّنيا قَرْية ، والمؤمِن رَئيسها ، والكُلّ مَشغُول به ، سَاع في مَصَالِحه ، والكُلّ قد أُقِيم في خِدْمته وحَوائجه ؛ فالملائكة الذين هُم حَمَلة عرش الرحمن ومَن حَوله يسَتغفرون له ، والملائكة الْمُوَكّلُون به يَحْفَظونه ، والْمُوَكّلُون بِالقَطْر والنّبات يَسْعَون في رِزْقه ويَعمَلون فيه ، والأفلاك مُسَخّرَة مُنْقَادة دَائرة بِما فيه مَصالِحه ، والشمس والقمر والنجوم مُسَخّرات جارِيات بِحِسَاب أزْمِنتِه وأوقاتِه ، وإصلاحِ رواتِب أقْوَاته ، والعَالَم الْجَويّ مسَخّر له بِرِيَاحِه وهَوائه وسَحابِه وطَيْرِه وما أُودِع فيه ، والعَالَم السُّفْلي كُلّه مُسَخَّر له ، مَخْلُوق لِمَصَالِحِه : أرضه وجِباله وبِحاره وأنْهَاره وأشجَاره وثِمَاره ونَبَاته وحَيَوانه وكُلّ مَا فيه .
(مفتاح دار السعادة)
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ حينما بَصّرَك وعَلّمَك ما ينفعُك وما يضرُّك
حينما حَذّرَك مِن عَدوِّك الْمُبِينِ ” إبليسَ “ ، فقال : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) .
وحينما حَذّرَك مِن طُرُقِه وخُطواتِه في الغِوايةِ والإضلالِ
قال اللهُ تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلامِ، فَقَالَ لَهُ : أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ ، وَدِينَ آبَائِكَ ، وَآبَاءِ أَبِيكَ ؟ قَال : فَعَصَاهُ ، فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ ، فَقَال : أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ . قَال : فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ . قَال : ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ ، فَقَال : هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ ، وَالْمَالِ ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ، وَيُقَسَّمُ الْمَالُ . قَال : فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ . رواه الإمامُ أحمدُ والنسائي، وصححه الألباني .
وقال عَزّ وَجَلّ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
قال القرطبيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أَيْ : فَعَادُوهُ وَلا تُطِيعُوهُ. وَيَدُلُّكُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ إِخْرَاجُهُ أَبَاكُمْ من الجنةِ ، وضَمَانُه إضلالَكم في قَوْلِ : (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ) .
وَقَوْلِهُ : (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآية .
فأخبرَنا عزّ وجَلّ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَنَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَاقْتَصَّ عَلَيْنَا قِصَّتَهُ ، وَمَا فَعَلَ بِأَبِينَا آدَمَ صلى الله عليه وسلم ، وَكَيْفَ انْتَدَبَ لِعَدَاوَتِنَا وَغُرُورِنَا مِنْ قَبْلِ وُجُودِنَا وَبَعْدَهُ ، وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ نَتَوَلاّهُ وَنُطِيعُهُ فِيمَا يُرِيدُ مِنَّا مِمَّا فِيهِ هَلاكُنَا …
قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : يَا عَجَبًا لِمَنْ عَصَى الْمُحْسِنَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِإِحْسَانِهِ ، وَأَطَاعَ اللَّعِينَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِعَدَاوَتِهِ ! . (الجامع لأحكام القرآن)
وقال الشيخُ السّعديُّ في تفسيرِ آيةِ الأعرافِ (ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) : لَمَّا عَلِمَ الْخَبِيثُ أنهم ضعفاءُ قد تَغلِبُ الغَفْلةُ على كثيرٍ منهم ، وكان جَازِمًا بِبَذلِ مَجْهودِه على إغوائهم ، ظَنَّ وصَدَقَ ظَنُّه فقال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) ؛ فإنّ القيامَ بِالشّكرِ مِن سُلوكِ الصّرَاطِ المستقيمِ ، وهو يُريدُ صَدَّهم عنه ، وعدمَ قيامِهم به ، قال تعالى : (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) .
وإنّما نَبّهَنا اللهُ على ما قالَ وعَزَمَ على فِعلِه ، لِنَأخُذَ مِنه حِذْرَنا ، ونَسْتَعِدَّ لِعَدوُنا ، ونَحْتَرِزَ مِنه بِعِلْمِنا بِالطّريقِ التي يأتي منها ، ومَدَاخِلِه التي يَنفذُ منها . فَلَه تعالى علينا بِذَلك أكملُ نِعْمَةٍ . (تيسيرُ الكريمِ الرحمنِ في تفسيرِ كلامِ المنان)
وحينما لم يَجعَلْ للشيطانِ علينا سُلطانا ، كما قال تعالى : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)
وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقال : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ ، لأَنْ أخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ ، قَال : فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ ، اللهُ أَكْبَرُ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيَدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ. رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داود والنسائي في ” الكُبرى ” ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط.
فضْلُ اللهِ عليك عظيمٌ حينما حَبّبَ إليك الإيمانَ وزيّنَه في قلبِك ، وكَرّهَ إليك الكُفرَ والفسوقَ والعصيانَ .
(َولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
فإن كُنتَ تُحِبُّ الفسوقَ والعصيانَ فلِزامًا عليك أن تُراجِعَ نفسَك : هل أنت مِن أهلِ هذه الآيةِ أوْ لا ؟
وكذلك إن كُنت تُحبُّ الكُفّارَ ..
قال ابن كثير في قوله تعالى : (فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) : أَيْ: هَذَا الْعَطَاءُ الَّذِي مَنَحَكُمُوهُ هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ عَلَيْكُمْ وَنِعْمَةٌ مِنْ لَدُنْهُ .
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أَيْ : عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ . اهـ .
واللهُ يتولاّك .
الرياض جمادى الأولى 1441 هـ