محاضرة قصيرة بعنوان … نعمة العافية
المحاضرة مرئية هنا :
الحمدُ لله حمدًا طيّبًا كثيرًا مُبارَكًا فيه؛ كما يُحبّ ربُّنا ويرضى. وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ مُحمّدًا عبدهُ ورسولهُ؛ بلّغ الرّسالةَ وأدّى الأمانةَ، ونصحَ للأمّة، وتركها على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلاّ هالكٌ.
كان يُقالُ: العافيةُ لا يعدلُها شيءٌ، ويُقال: مَن عوفيَ فليحمدِ الله، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ” سَلوا الله العافيةَ “ ([1]) – ” سَلوا الله العافيةَ “ – كما في الصّحيحينِ. وعند الإمام أحمد أنّه قال: ” سلوا الله العافية؛ فإنّه لم يُعطَ عبدٌ شيئًا أفضَل من العافية واليَقينَ في الآخِرةِ والأولى “.
مِن العافيةِ واليَقينِ، في الدُّنيا وفي الآخِرةِ. قال ابنُ القيّم رحمهُ الله: ” فجمعَ بينَ عافيتيّ الدّينِ والدُّنيا، ولا يتمّ صَلاحُ العبدِ في الدّارين؛ إلاّ باليقينِ والعافيّة “. – إلاّ باليَقينِ والعافيةِ –.
العافية التي فوقَ كُلّ عافيةٍ؛ أن تسلَمَ من الشِّرك، والشّكَ، والشُّبهةِ والشّهوةِ. العافيةُ عافيةُ الدّين التي فوق كُلّ عافيةٍ؛ هذه هيَ العافيةُ؛ السّلامةُ من هذه الأربعِ. فإذا عوفيتَ في دينكَ؛ فقَد أفلَحتَ؛ كما في حديثِ العبَاس بن عبد المُطّلِب؛ جاء إلى النّبيّ عليهِ الصّلاة والسّلام – كما في المُسنَد – وقال: يا رسول الله علّمني دُعاءً أدعو بهِ – علّمني دُعاءً أدعو بهِ – قال لهُ النّبي عليه الصّلاةُ والسّلام كلمةً واحدةً قال له: يا عمّاه سلِ الله العافيةَ. فسكت العبّاس ثُمّ عاد مرّةً أخرى وسأل نفس السّؤال! فأعاد عليهِ النبيّ عليه الصّلاة والسّلام نفس الجوابِ: يا عمّاه سلِ الله العافيةَ في الدُّنيا والآخِرة. قال:” فإنّكَ إذا عوفيتَ في الدُّنيا والآخِرة فقد أفلَحت “! إذا عوفيتَ في الدُّنيا والآخِرة فقد أفلَحت.
العافية بابُ الفلاح – العافية باب الفلاح – العافية رُكنٌ من أركانِ النّعمة، يقول النّبيّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ – كما عند البُخاريّ في الأدب المُفرد وعند الترمذي وابن ماجه: ” مَن أصبَح آمناً في سِربهِ – في حيّهِ في مُجتمعهِ في بلدِهِ – مَن أصبَح آمناً في سِربهِ مُعافًا في بدنهِ عندهُ قوتُ يومهِ فكأنّما حيزَت له الدُّنيا “. من جمَع هذه الثلاث التي هي أركان النّعمة، كأنّ الدُّنيا برُمّتها جُمِعت لهُ؛ لأنّ النّعمة لا تتمّ إلاّ بها ” مَن أصبَح آمناً في سِربهِ مُعافًا في بدنهِ عندهُ قوتُ يومهِ فكأنّما حيزَت له الدُّنيا “([2]). هذه العافية في البَدن فما بالُك بما هُو أعمّ من عافية البدن؟! ولذلك يقولُ ابن مسعود رضي الله عنهُ: العافيةُ الأمنُ والصّحّة. – العافيةُ الأمنُ والصّحّة –
ويقولُ أبو الدّرداء رضي الله عنهُ: “كم من نعمةٍ لله في عرقِ ساكِن”! – عرقِ ساكِن! – عِرق في عينِك، عِرق في رأسك، عِرق في أيّ مَكانٍ ساكِن! “كم من نعمةٍ لله في هذا العِرق السّاكن”! لو تحرّك، أو اضطَرب ما استطعتَ أن تنامَ! إذا آلَمتكَ عينُك، أو ضِرسٌ من أضراسكَ ما استطعتَ أن تنامَ! تعرِف قدرَ العافيةَ – تعرِف قدرَ العافيةَ -.
العافية في لُقمة العيش، في استِساغةِ الطَعامِ والشّرابِ. ولذلك كان النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام إذا أكِل أو شرِب؛ قال:” الحَمد لله الذي أطعمَ وسقى، وسوّقه، وجعلَ لهُ مخرجًا “([3]). أن يكون الطّعامُ سائِغًا هنيئًا مريئًا هذه عافيةٌ.
العافيةُ في النّفَس وأنت لا تُكلّف بآلتِه، تتنفّس في كُلّ حالٍ: وأنتَ تشرب، وأنت تأكُل وأنت تعمَل وأنتَ نائِم لا تُكلّف بهذه الآلة! ذكرَ ابن القيّم رحمه الله أن الإنسان يتنفّس في اليوم واللّيلةِ أربعًا وعشرين ألفَ نفسٍ! فتحتاجُ هذه النّعمةُ منكَ إلى أربعٍ وعشرين ألفَ شُكرٍ! هذا القلب الذي يعمل يذكُر العُلماء أنّه ينبِض في اليوم واللّيلة مائة ألف نبضةً! ما كُلّفت أنتَ بعمله! وما يحتاجُ إلى صِيانةٍ! وهذه الأجزاء التي تعيش مع كثير من النّاس الخمسين والسّتّين والسّبعين؛ بل ربّما أكثَر من ذلك! وهي لم تتغيّر؛ وذلكَ مَن عوفيَ؛ فليَحمدِ الله.
عافية في أنّك تُحسُّ بالحارّ بحرارته، والبارد ببرودتهِ، العافية أنّك تشُمّ.
أذكُر رجلاً كبيرًا في السّنّ فقد حاسّة الشّمّ، وفقدَ الإحساس في أطرافه إثر مرضٍ أصابهُ. اشتعلت البطّانيّة التي يتغطّاها في الشّتاء من أطرافِ المدفأة (الدّفّاية) فاشتعلت فلم يشمّ الرّائحة، وأصابَت أقدامه ولم يحسُّ بذلك! حتّى وَصلت إلى السّاق فأحسّ! هل تأمّلت هذه النّعمة؟! أنتَ تجلِس في بيتك فتشُمّ رائحة الغاز فتنهَض، أو تُنبّه، تشمّ رائحة الكهرباء فتُنبّه، تشمّ رائحة نارٍ تنتبِه لهذا.
العافية في أنّك ترى. حضر أحدُ المشايخ – وهو كفيف البَصر – حَضر حفل تخريجٍ حفظة – حفظة من حفظ القرآن – فلمّا تكلّمَ بكى! قال: ما تمنّيتُ أنّني أرى؛ إلاّ مرّتين: في هذه اللّيلة لأرى هؤلاء الحفظة، ولمّا قرأتُ في أحد الأيّام ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)) [ الغاشية:17]. تمنّيتُ أنّني أرى لأرى هذا الخَلق العَجيب الذي أمرَ الله عزّ وجلّ بالتّفكُّر فيه.
كان النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ يقولُ في كُلّ صباحٍ ومساءٍ:” اللهمّ عافِني في سَمعي، اللّهمّ عافِني في بَصري، اللّهمّ عافِني في بَدني “([4])؛ كما عند أحمد والتّرمذيّ. هو يشعُر بهذه العافية، يُدرك أنّ هذه عافية، وأنّهُ بحاجةٍ إلى الشُّكر فيها.
العافيةُ في القلبِ بثباتهِ وصَلاحِهِ.
العافية في الوَلَد بصلاحهِ وعافيتهِ وصحّته.
العافية في المال في كونهِ حلالاً طيّبًا مُباركًا فيهِ.
العافيةُ أن تسلَم – كما قُلت – من كُلّ شكّ وشِرك وشهوةٍ وشُبهةٍ.
العافيةُ أن تسلَم من الذّنب، سُئِل حكيمٌ: ما العافية؟! قال: أن يمرّ بكِ يومٌ بلا ذَنب. ما العافية؟! قال: أن يمرّ بكَ يومٌ بلا ذنبٍ! هذه عافيةٌ وسَلامةٌ. من سلامة الدّين.
ومن العافية في الدّين أن تسلمَ من البِدعة، ومن مُشاقّة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ومن مُحادّتهِ ومِن مُضادّتهِ، ومن معصيتهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ. والله عزّ وجلّ قال: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم )) [ النور:63]. قال الإمامُ أحمد: أتدري من الفتنة؟! لعلّهُ يرُدّ بعض ما جاء بهِ النّبيّ عليه الصلاة والسلام فيقعُ في قلبهِ شيءٌ من الزّيغ؛ فيهلَك! “.
العافيةُ بمفهومها الواسِع تشملُ حتّى الأموات! قال عوفُ بن مالك رضي الله عنهُ: حفِظتُ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الميّت: اللّهمّ اغفر لهُ وارحمهُ وعافهِ واعفُ عنهُ ([5])- اللّهمّ اغفر لهُ وارحمهُ وعافهِ واعفُ عنهُ – كما في صحيحِ مُسلم. وفي صحيح مُسلم أيضًا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا زارَ المقابر دعا لهُم، ومِن دُعائِهِ: نسألُ الله لنا ولكمُ العافية ([6])- نسألُ الله لنا ولكمُ العافية – فالعافية لا تقتصِر على الأحياء.
ومن دُعاء النبيّ عليهِ الصّلاةُ والسّلام في كُلّ صباحٍ ومساءٍ: ” اللّهمّ إنّي أسألُك العافيةَ في الدُّنيا والآخِرةَ “ ([7])، “اللّهمّ إنّي أسألُك العافيةَ في ديني ودُنياي وأهلي ومالي” ([8])؛ كما عند أحمد وأبي داوود وابن ماجه. وجاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله ما أسأل الله في الصّلوات الخمس – ما أسأل الله في الصّلوات الخمس – ماذا أقول؟! بماذا أدعو في الصّلوات الخَمس؟! فقال له النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلام: ” سلِ الله العافيةَ “ ([9])- سلِ الله العافيةَ -. وقالت عائشةُ رضي الله عنها: لو عرفتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر؛ ما سألتُ الله إلاّ العافيةَ.
السّلامة أيّها الكريم من حُقوق الخلق: مِن العافية. أن تسلم من حُقوق الخَلق لا يُطالبونك بها لا في الدُّنيا ولا في الآخرة من العافية؛ ولذلك كتب رجُل إلى ابن عُمر رضي الله عنهما: أن اكتُب لي بالعلم كُلّه! فاختصر ابن عُمر العلم؛ بقولهِ: “العلم كثيرٌ ولكن إن استطعتَ أن تلقى الله خفيف الظّهر من دماء المُسلمين” – إن استطعتَ أن تلقى الله خفيف الظّهر من دماء المُسلمين – تلقى الله عزّ وجلّ وما في رقبتك وما في ذمّتك قطرة دم – وابن عُمر رضي اللهُ عنهُما هُو القائل: لمّا قيل له في زمانِه اخرُج نُبايعَك قال: و”من خالفني ماذا أعمل بهِ؟! قال: نضرب عُنقه بالسّيف؛ حتّى يستتبّ لك الأمر، حتّى يدين لك النّاس! قال: والله ما أحبّ أنّ الأرض دانت لي، وأريق بسببي دم مُسلمٍ بقدر مِحجمةٍ”؛ يعني التي تُخرج من الإنسان في الحِجامة قليل دَم، في آلة الحِجامة القديمة. ما يسُرّني أنّ الأرض دانت لي وسُكب بسببي دم مُسلم بقدر محجمةٍ. هذه العافية. “قال: إن استطعتَ أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المُسلمين، خميص البطن من أموالهم، لازمًا لأمر جماعتهم فافعَل”. – “إن استطعتَ أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دِماء المُسلمين، خميصَ البطن مِن أموالهم، لازمًا لأمر جَماعتهم فافعَل – ” هذا هو العلم، هذا هو الذي ينفعُ عند الله عزّ وجلّ، هذا من العافية؛ أن تلقى الله عزّ وجلّ ولا تُطالَب بشيء من حُقوق الخَلق، وهذا المَعنى نظرَ إليه النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وقال: إنّي لأرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ وما أحد منكُم يطلبُني مَظلمة. ولذلكَ قبل غزوةٍ من الغزوات أعلنَ في النّاس من كان لهُ مظلمة قبل هذه الغزوة – من كان لهُ مظلمة – فليأتِ إليّ؛ فجاءه رجُلٌ وقال: يا رسول الله أنتَ ضَربتني بقَضيبٍ على خاصِرتي؛ فقال لهُ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلامُ: ” دونكَ فاقتصّ” ([10]) – خُذ .. خُذ حقّك في الدُّنيا – فقالَ: يا رسول الله أنتَ ضربتني بالقضيب وليس عليّ رِداء – مُباشرةً – فرفع النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام رداءهُ وقال: ” دونَكَ ” فأكبّ الرجُلّ على النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلام وقال: إنّما أردتُ أن أقبّلَ جسمكَ من غَير أن يكون عليك ثيابٌ! قال: لعلّي لا ألقاكَ بعدَ يومي هذا. فهذا من العافية أن تتحلّل من النّاس في الدُّنيا قبلَ الآخِرةَ. ولذلك يقول النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلام كما عند البُخاري: “مَن كان لهُ عند أخيه مظلمةٌ من عِرضٍ أو شيء؛ فليَتحلّل منه اليوم قبل أن لا يكونُ دينارٌ ولا درهم “([11]). – قبل أن لا يكونُ دينارٌ ولا درهم – لأنّهُ يوم القيامة ليسَ هُناك إلاّ الحسنات والسّيّئات – ليسَ هُناك إلاّ الحسنات والسّيّئات – في هذا يقولُ النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ في صحيح مُسلم: ” لتؤدّنّ الحُقوق إلى أهلها، حتّى يُقاد – يعني يُقتصّ – للشّاة الجَلحاء من الشّاةِ القَرناء “([12]). يؤتى بها لبَيان كمال العدل الإلهيّ؛ وإلا ليس عليها حِسابٌ ولا عَذابٌ! ثُمّ يُقتصّ مِن هذي لهذي، ثُمّ يُقال لها: كوني تُرابًا!
أعودُ إلى ما بدأت بهِ، وهو قولُ النّبيّ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: ” سلَوا الله العافيةَ “ ([13]).
اللّهمّ إنّا نسألُكَ العافيةَ، اللّهمّ إنّا نسألُكَ العافيةَ، اللّهمّ إنّا نسألُكَ العافيةَ، العفو والعافية والمُعافاة الدائمة في الدين والدُنيا والآخِرة، اللّهمّ عافِنا واعفُ عنّا، اللّهمّ عافِنا واعفُ عنّا، اللّهمّ اشفِ مَرضانا ومرضى المُسلمينَ، وعافِ مُبتلانا، وارحَم موتانا، اللّهمّ فرّج همّ المهمومين، ونفّس كَربَ المَكروبينَ، واقضِ الدّينِ عن المَدينين، اللّهمّ أنجِ المُستضعفين من المؤمنينَ في كُلّ مكانٍ، اللّهمّ احقِن دماء إخوانِنا المُسلمينَ، اللّهمّ احقِن دماءهُم، اللّهمّ كُن لهُم عونًا ومُعينًا ومؤيّدًا وظَهيرًا ونَصيرًا يا ربّ العالمينَ. اللّهمّ اشفِ مَرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحَم موتانا، اللّهمّ صلّ وسلّم وأنعِم وبارِك وأكرِم على عَبدك ورسولِك ونبيّك مُحمّد.