محاضرة قصيرة بعنوان … خُطورة الإعراض عن الاستِجابة للحقّ والهداية
المحاضرة مرئية هنا:
خطورة الإعراض عن الاستجابة للحق والهداية
الحمدُ لله حمدًا طيّبًا كثيرًا مُبارَكًا فيه؛ كما يُحبّ ربُّنا ويرضى. وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدهُ لا شريكَ لهُ؛ يهدي مَن يشاءُ ويُضلُّ مَن يَشاءُ، وإليهِ المَرجِعُ والمآبِ، وأصلّي وأسلّم على المَبعوثِ رحمةً للعالمين؛ الذي ما ترَكَ خيرًا إلاّ دلّ أمّتَهُ عليهِ، ولا تَركَ شرًّا إلاّ حذّر أمّتهُ منهُ. أمّا بعدُ
فأسألُ الله أن يُسعِدَ هذه الوُجوهَ سعادَةً لا شقاء معها ولا بَعدها، وأن يَجمَعها في جنّاتٍ ونَهَرٍ في مقعدٍ صِدقٍ عندَ مَليكٍ مُقتَدر، وكُلّ مَن استَمَع إلى هذا القولِ، وكُلّ مَن ألقى السّمع وهُو شهيدٌ.
أيّها الكرامُ
أعظمُ الدُّعاء هُو ما اشتَملَت عليهِ أعظمُ السُّور وهو دُعاء الهِداية في سورةِ الفاتِحةِ ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) [الفاتحة: 6]. صِراط مَن؟! ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)) [الفاتحة: 7] ؛ الذينَ أنعمَ اللهُ عليهِم هُم الذينَ قالَ الله عزّ ووجلّ فيهمُ: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)) [النساء: 69]. هُناكَ مَعنى من معاني الهِدايةِ إلى الصّراطِ المُستقيمِ يغفلُ عنها كثيرٌ من النّاس؛ وهو معرفةُ الحقّ والإذعانُ والانقِيادُ والاستِسلامُ لهُ. فليسَت العِبرةُ بمعرفةِ الحقّ وحدهُ؛ وإنّما العِبرةُ بالإذعانِ والانقِيادِ والاستِسلامِ. جاء في الصّحيح في صَحيحِ مُسلم ؛ لمّا نزلَ قولُ الله عزّ وجلّ ((لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ)) [البقرة: 284]؛ جاء أصحابُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قالوا: يا رسولَ الله: حُمّلنا ما نُطيقُ الصّلاةُ والصّيام والصّدقة والجِهادُ في سَبيلِ الله؛ أمّا هذه فلا نُطيقُها! أي أن نُحاسَبَ بما في أنفُسِنا؟ هذهِ لا نُطيقُها! فجَلَس النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ الله وقَد تغيّرَ وجهُهُ! قالَ: أتُريدونَ أن تقولوا كما قالَ أهلُ الكِتابِ مِن قبلكمُ: ((سمِعنا وعَصينا))؟! قولوا: سمِعنا وأطَعنا غُفرانكَ ربّنا وإليكَ المَصير ([1])؛ فقالوها. قالَ أبوهَريرةَ: لمّا اقترأها القومُ واستذلّتها ألسنتهمُ. يعني قالوها من غَير تكلّف، وقالوها استِجابةً لله عزّ وجلّ، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، لا تصنُّعًا ولا رياءً. لمّا قالوها؛ أنزل الله عزّ وجلّ التّخفيف بعد ذلكَ في الآيتين الأخيرتين من سورةِ البقرةِ: ((آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ)) [البقرة: 285]. لعلّ هذه الآية من أكثَر الآيات التي يقرأها الأئمّة، وهي شاهدةٌ على صِدق استِجابةِ أصحابِ النّبيّ صلّى الله عليهِ وسلّمَ وعَلى إذعانهمُ للحقّ وعلى انقيادهم إليه، هذه الآيةُ فيها ثناءٌ على أصحابِ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حتّى خُلِّد قولُهمُ ((وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ)). على الإنسان أن يُذعن، وأن يستسلِم لأمر الله عزّ وجلّ. يقول الله عزّ وجلّ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ)). [الأنفال:24]. يقول ابن القيّم رحمه الله الاستِجابةُ لله حياةٌ، وتركُ الاستِجابةِ لله موتٌ ([2]). ليس موت البَدن؛ ولكن موت القلبِ. ((لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) [ق: 37]. ((اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)). [الأنفال:24]. يُحالُ بين المرء وبين ما يُريد. ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم )) يُحال بين الإنسان وبين الهِداية، يُحال بين الإنسان وبين العَمل الصّالح؛ جزاءً وِفاقًا. لأنّه يأتيه الحقّ فيُعرض، يأتيه الحقّ فيُعرض، يأتيه الحقّ فيُعرض! فلا يُوفّق للهداية، لا يوفّق لعمل الخير، لا يُوفق.. ولذلك قال الله عزّ وجلّ: ((سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ)) [الأعراف:146]. يصرفهمُ الله عزّ وجلّ عنها جزاءً وفاقًا.
ذكر ابن كثير رحمه في البداية والنّهاية ([3]) أنّ رجُلاً من مُلوك العرب يُقال لهُ جبلة بن الأيهم أسلم في زمن عُمر فحجّ، فبينما هو يطوف إذ وطئ رجُلٌ من أهل البادية إزارهُ، فانحلّ إزارُ الرّجُل. فالتَفتَ غلى الرّجُل فضربه على أنفهِ فهشمهُ! فذهب هذا الرّجل يشتكي عند عُمر، فدعا عُمر جبلة، فقال لهُ عُمر: إمّا أن تُرضيَ الرّجُل وإمّا القِصاصُ. لكن هذا الرجُل مازال فيه نعرَة الجاهليّة والكبرياء، قال: كُنتُ أظنّ أنّني في الإسلامِ أعزُّ منّي في الجاهليّة! قال عُمر هُو ذاك، النّاس في دينِ الله سواسية. إمّا أن تُرضي الرّجُل وإمّا القِصاص. قال: أمهلني الليلة، فلمّا كان مِن اللّيل انطَلقَ هذا الرّجُل وذهبَ إلى الشّامِ، وراجعَ دينه وتنصّرَ، وارتدّ عن الإسلام! بعدَ ذلك كانَ هذا الرّجُل يُحاولُ أن يرجِع إلى الإسلام فيُحال بينه وبين ما يشتهي، يُحال بينه وبين ما يُريد، وكان يتمثّل بأبياتٍ:
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها لجاج ونخوةٌ * وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشّام أدنى معيشةٍ * أجالسُ فيها قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعةٍ * وقد يصبر العَود الكبير على الدّبر
هذا الرّجُل حيل بينه وبين ما يشتهي. الذين عرفوا الحقّ كثيرٌ، والذين انقادوا لهُ واستجابوا قليلٌ! ألًم يقُل الله عزّ وجلّ عن آل فرعون: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ)) [النمل:14]. استِكبارًا على موسى أنّه لم يكُن منهم؛ وإنّما كان من بني إسرائيل! فاستَكبروا وظهَرت هذه الحقيقة.. هذه الحقيقة لمّا أدركَ فرعون الغرق. قال: ((آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [يونس:90]. ما قالَ: آمنتُ بالله فقط! حتّى لا يُظنّ أنّه يقصِد نفسهُ؛ لأنّه كان يدّعي الرُّبوبيّة! وإنما قال: ((آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) تأكيد. قال الله عزّ وجلّ: ((آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)) [يونس:91]. الآن لا تنفع التّوبة! الإيمان بالمُعاينة عند الهلاك، وعند الغَرغرة، عند خُروج الرّوح لا ينفع؛ لأنّهُ إيمان بشيءٍ مُشاهدٍ؛ ليس إيمانًا بالغيب. وليسَت استِجابةً لله عزّ وجلّ في زمَن المُهلةِ.
لمّا بُعثَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانَ من ألدّ أعدائِهِ أبوجَهل. أبو جهل كان يعرِف أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الحقّ. التقى يوم من الأيّام هو وصاحبهُ يُقال له الأخنس، فقال لهُ الأخنسُ قد سمِعت ما قال مُحمّد فما أنتَ قائِلٌ؟! قال له أبو جهل: تنافسنا نحنُ وعبد مناف الشّرف فأطعَموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وحَملوا وحملنا، حتّى إذا كُنّا كفرسيّ رِهانٍ ([4]) ما في أحد يسبِق الآخَر تساوينا نحنُ وإيّاهُم؛ بالفَخر، والخُيلاء، والشّرف. قالوا: – حتّى إذا كُنّا نحنُ وإيّاهُم كفرسيّ رِهانٍ – قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحيُ من السّماء! قال أبو جَهل: فمَتى نُدرك هذه؟!([5]) هذه غير مُدركة غير مُستطاعة، هذه مُستحيلة! فما الحلّ؟! الحلّ: أن نُنكر النّبوّة حتّى إذا افتَخروا عليكَ.. قال: أصلاً أنا ما آمنت بهذه النّبوّة، هذه غير صحيحة!
وكذلك قال الأخنسُ لأبي سُفيان: ماذا ترى؟! وكانوا على الشّرك، قال أبو سُفيان: أعرفُ وأُنكِر. قال لهُ أبو سُفيانُ: وأنتَ؟! يقول الأخنسُ قال: أمّا أنا فأراهُ الحقّ! ولذلك كان الذي يعرِف ويُنكِر، والذي يراهُ الحقّ أسلَموا. وأمّا الذي عزَم على حربِ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فحاربَ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام حتّى قُتِل كافرًا ذليلاً صغيرًا حقيرًا!
لمّا هاجر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان في أنحاء المدينة طوائِف من اليهود، منهم بنو النّظير، من رؤسائهم حُييّ بن أخطَل، ومن عُلمائِهم أخوه أبو ياسِر. تقولُ صفيّةُ رضي الله عنها – كما في السّيرة لابن هِشام – تقول: خرجا مُغلّسين في وقت الغَلس وقت الفجر، ذهبا إلى المدينة؛ لينظُروا حال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ هل هُو الموجود عندهم في التّوراة أو لا! قالت: ذهبا مُغلّسينِ، وعادا مُمسيينِ كالّينِ تعبانَينِ كسلانينِ. فجلَسا فجلستُ إليهما، فقال أحدهما للآخر: أهُو هُو؟! – هذا الرجل الذي رأيناه في المدينة هو الموجود عندنا في الكِتاب – قال: نَعم! – تيقّن – نعم! قال: على ماذا عزمت؟! مادام أنّهُ هُو هو. وهُم كانوا يستفتحون على الذين كفروا كما أخبرالله عزّ وجلّ. يقولون للأوس والخَزرَج: سيُبعث منّا نبيّ نقتلكُم معهُ كقتلِ عادٍ! ((وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا)) [البقرة:89]. قال لهُ: أهُو هُو؟! قال: نَعم! قال: على ماذا عزمت؟! قال: على حربهِ ما بقيتُ! وفِعلاً حُييّ بن أخطَل حارب النّبيّ صلى الله عليه وسلّمَ حتّى مدّ عُنقه فضُربت على الكُفر!
ليسَت العبرة أن تعرفَ الحقّ؛ بقدر العبرة أن تُذعِن للحقّ، أن تستسلم للحقّ، ألا تُنازِع الحقّ. من عُلماء اليهود الذينَ استشهد الله عزّ وجلّ بهم ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ۖ)) [الأحقاف:10].، منهم عبدالله بن سلام كان في نخل لهُ يَجني يَخترف، فرأى مجيء النّبي عليه الصّلاة والسّلام واندِفاع النّاس نحوَ النّبي عليه الصّلاة والسّلام فترك ما بيدهِ ونزَلَ ([6]). قالَ – كما عند التّرمذيّ – قال: فلما رأيتُه واستثبتُّ وجههُ. تثبّتُّ من وجه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ قال: عرفتُ أنّ وجهه ليس وجه كذّاب! ثمّ سأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ آمن مُباشرةً! لأنّه عرف الحقّ وأذعَن واستسلم وانقادَ.
كذلك من الرّؤساء في زمنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام؛ رئيس النّصارى في زمانه هِرقل وخبرهُ في الصّحيحينِ ([7]). لمّا أرسل لهُ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، الدّعوة إلى الإسلام، يدعوهُ إلى الإسلامِ؛ جمَع هذه الرّجُل التّجّار الموجودين، وكن من بينهمُ أبو سُفيان، قالَ: من أقربكمُ لهذا الرّجُل؟! قال أبو سُفيان: أنا – وكان على الشّرك – فقرّبهُ أتى بالتُرجُمان، وسألهُ عدّة أسئلة، تبيّن لهُ من خلال هذه الأسئلة أنّه نبيٌّ! قال: هرقل لهؤلاء التُّجّار ومَن حولهُ – قد كُنتُ أعلمُ أنّه خارج ولَم أكُن أعلمُ أنّهُ منكمُ! يعني هذا موجود عندي في التّوراة والإنجيل، قد كنت أعلم أنّه خارج؛ لكن ما كُنت أعلمُ أنّهُ منكم! ولو كُنتُ أصِلُ إليهِ – يعني النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام – لتجشّمتُ لقاءَهُ، وفي رواية لأحببتُ لقاءهُ! فقط؟! لا. استمع: ولو كُنتُ عندهُ يقولُ هرقلُ: ولو كُنتُ عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولو كُنتُ عندهُ لغسلتُ عن قدميهِ! هذا الرّجُل همّ أن يُسلِم، وجمعَ رجال الدّين ورجال الدّولة عنده وأغلقَ الأبوابَ. فلمّا جلسوا عندهُ أخبرهُم بخبر النّبيّ عليه الصّلاة والسّلامِ؛ فحاصوا حيصة حُمر الوَحش، فرّوا إلى الأبواب فَوجدوها مُغلقةً. فأعادهم وقال: إنّما كُنتُ أختبرُ إيمانكم! وبقيَ على نصرانيّتهِ. اعترف بنبوّة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وكان يعرف أنّ هذا سيكون، وهو موجود عندهُ في الكِتاب؛ لكنّه لم يؤمِن. ما نفعهُ هذا، وما زال، أو لازال يُحارب الإسلام، وحارب الإسلام، حتّى خرجَ مُنهزمًا، وقف على أعتاب سوريّا يُودّعها! هذا الرّجُل ما نفعهُ هذا الإقرار، ما نفعهُ هذا الاعتراف بنبوّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. لأنّه لم يُذعن لم ينقد لم يستسلم!
والمؤمن إذا جاءه الأمر من أمرِ الله عزّ وجلّ، ومِن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سمِعنا وأطعنا؛ لا يعرض الأمر من أمرِ الله عزّ وجلّ، ومِن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم على عقله؛ لأنّ الشّرع أعلى من عَقله؛ ولذلك يقولُ ابن القيّم رحمه الله: المؤمن لا يعرِض الشّرع على عقلٍ، ولا على هوى، ولا عَلى قِياسٍ؛ وإنّما يعرضُ هذهِ الأشياء على الشّرع.
المُعتزلةُ عَكَست القاعدةُ. المُعتزلةُ ومن نحى نحوهم من العقلانيّين ومن يقول لكَ: ما أقتنعتُ بالدّليل، ما أقتنعت بالحُجّة. عكَسوا.. أصبحت العُقول والأهواء والقياسات وغَيرها هي التي تحكُم الشّرع؛ بينما عند الصّحابة رضي الله عنهمُ الشّرع هو الحاكِم عليها جميعًا، لا يرونَ أنّ لهُم خيارًا في المُخالفة؛ ولذلك جاءَ في الصّحيحين مِن حَديث أنَس رضي الله عنهُ، قال: كُنتُ أسقي القَوم الخَمر في بيت أبي طلحة رضي الله عنهُ، قال: فجاءَ رجُلٌ – هكذا في الرّواية ([8])– ما قالوا: جاء رجُل من كبار الصّحابة ولا جاء رجُل مُرسلٌ إليهم، إلى أهلِ هذا البيتِ .. لا، جاء رجُلٌ؛ قال: جاء رجُل، فقال: هل علِمتُم؟! قالوا: ماذا؟! قالَ: إنّ الخَمرَ قد حُرّمَت! وسَكَت! ما قالوا: والله نُكمِلُ ما بأيدينا، نتأكّد .. هل هُو صحيحٌ أو غير صحيحٌ؟! وخبر واحد يُعتمد أو لا يُعتمَد! كما تقول المُعتزلة؛ لا.. قال أبو طلحةُ: اخرُج يا أنَس فأرِق هذه القلال، اسكُب هذه القلال. خلاص الخمرُ حُرّمت؟! انتهينا. قالَ أنسُ فوالله ما راجَعوها بعدَ خبرُ الرّجُل. لمّا جاءهمُ خبرُ الرّجل سكبوها ولا راجَعوها.
هكذا يكون الإذعان لله عزّ وجلّ، وهكذا يكونُ الاستِسلام، وهكذا يكونُ الإسلامُ. وحقيقةُ الاستِسلام. أنّكَ عبدٌ لله عزّ وجلّ، والعبدُ ليس على مولاه يعترضُ يقول: واعلم بأنّك عبدٌ لا فِكاكَ لهُ = والعبدُ ليسَ على مولاه ُ يعترضُ!
العبدُ يُذعنُ ويُسلّم وينقادُ ويقولُ: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) [البقرة:285]؛ كما قالَ أصحابُ النّبيّ صلّى الله عليهِ وسلّم، ورضيَ الله عنهُم وأرضاهُم. وقصصُ الصّحابة رضي الله عنهم، ومواقِف الصّحابة رضي الله عنهم في الاستجابة لله ولرسولهِ صلّى الله عليه وسلّم. كثيرةٌ ومُشرقةٌ وجميلةٌ أيضًا في ذاتِ الوقتِ. وهي تدلّ على صِدق الاستجابة، و تدلّ على التّخلّي عن رغبات النّفسِ وعن الهَوى، وأنّ الإنسان لا يرى له خيارًا في الطّاعة، في طاعة الله وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإنّما هو عبدٌ لا ينفكّ عن هذهِ العُبوديّة، عبدٌ مُستسلمٌ لله عزّ وجلّ، وهذه هي حقيقة الإسلام.
نسألُ الله بأسمائه الحُسنى، وصِفاته العُلا ووحدانيّته أن يجعَلنا كذلك. اللّهمّ خُذ بنواصينا للبرّ والتّقوى، ومن العمل ما تَرضى، اللّهمّ ردّنا إليكَ ردًّا جميلاً. يقولُ ابنُ كثير رحمهُ الله وفي الدُّعاء المأثور، واحفَظوا هذا الدُّعاء، وكرّروا هذا الدُّعاء؛ خاصّة في هذه الأيّام، وخاصّة في هذا الزّمَن. يقولُ: اللّهمّ أرِنا الحقّ حقًّا وارزُقنا اتّباعه، وأرِنا الباطِل باطِلاً ووفّقنا لاجتِنابهُ، ولا تَجعلهُ مُلتبِسًا علينا فنضلّ، واجَعلنا للمُتّقينَ إمامًا. اللّهمّ اجعَلنا كذلك. اللّهمّ اشفِ مَرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحَم موتانا. اللّهمّ فرّج همّ المَهمومين، ونفّس كَربَ المكَروبين، واقضِ الدّين عن المَدينين، اللّهمّ صلّ وسلّم علىى عبدك ورسولك مُحمّد النّبيّ الأميّ الأمين.
([2]) كتاب الفوائد لابن القيم ص 88
([3]) البداية والنهاية ص 8/ 70
([4])السير والمغازي لابن إسحاق ص 189-190.
([5]) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 315-316 .
([6]) السيرة النبوية – ابن كثير – ج ٢ – الصفحة ٢٩٧