ولا يُولِج الكفّ ليعلم البثّ
حدّثت الصّدّيقة بنت الصّدّيق رضي الله عنها أن إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا ..
فقالت السادسة : زوجي إن أكل لفّ ، وإن شرب اشتفّ ، وإن اضطجع التفّ ، ولا يولج الكفّ ليعلم البث . والحديث بطوله رواه البخاري ومسلم ، وهو مشهور بحديث أم زرع .
والحديث مليء بالفوائد ، وقد ألفّ فيه بعض العلماء تأليفا خاصاً .
والذي يهمنا في هذا المقام هو حديث المرأة السادسة في ترتيب المتكلِّمات من تلك النسوة
قالت في معرض الذمّ لزوجها :
إن أكل لفّ
وإن شرب اشتفّ
وإن اضطجع التفّ
ولا يولج الكفّ
ليعلم البثّ
فهي تذمّـه بأنه إذا أكلّ الطعام لفّـه لفّـاً ، بحيث يأكل بِـنَـهم ، أو أنه لا يُبقي لها شيئا !
وهي تذمّـه بأنه إذا شرب اشتفّ فأصدر صوتا لشُربِه !
كما تذمّـه بأنه يلتف بملحفته إذا أوى إلى فراشه ، فكأنه لا يُعاشر أحداً ، ولا اعتبار لأحد عنده !
فهي إذاً .. تذمّـه في أكله وشُربِه ونومِه
كما تذمّـه بأنه لا يتفقّد أحوالها ، فالبثّ هو الشكوى أو هو شدّة الحزن .
تذمّـه بأنه لا يُراعي حال شكواها ومرضها فيسأل عنها ، أو يضع يده على مكان الألم تخفيفاً لمعاناتها ..
وهذا الجانب أو هذا الفعل تظهر فيه الناحية النفسية أكثر من الناحية الفعلية .
فربما كان تلمّس الرجل لحال أهله ، أو تلمّس الزوجة لحال زوجها ، مما يُشعر أحد الطرفين بأهميته ومكانته لدى الطرف الآخر !
ولربما لم يكن لذلك تقديم ولا تأخير في الظاهر !
فالذي يشكو من ألم في ظهره أو في رأسه لا يُخفف عنه مُجرّد وضع اليد على مكان الألم ليَعْلّم ما يبثّـه صاحبه من شكوى ، بقدر ما يُشعره ذلك بمكانته وقدرِه ..
وكم مِن لمسة حانية كانت أغلى من ألف كلمة ، وأكبر في الـنَّـفس من سائر الأدوية
فهي لمسة حنان وعطف وشفقة تؤذن بأن ما بالمريض من ألم وداء هو محلّ عناية الطرف الآخر
وقُل مثل ذلك في الطفل ..
فإنه عندما يمرض ينظر إلى الشفقة والعطف في عيون والديه
وربما أنّ واشتكى لينظر مكانته ، ويرقب منـزلته ، وليرى مدى الاهتمام به !
والأثر النفسي ، والناحية النفسية مُعتبرة في التعامل الأُسري ، سواء كان مع الزوجة أو مع الأولاد أو حتى مع الخدم .
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين أو لقمة أو لقمتين ، فإنه ولي حـرّه وعلاجه . رواه البخاري ومسلم .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط ؛ إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه . رواه البخاري ومسلم .
وكل هذا من باب مراعاة النّفسيّات ..
فمن وَلي حرّ الطعام يُعطى منه ما يُشعره بالاعتراف بما قدّم
والزوجة إذا وَلِيَت الطّعام فلم يكن على ما يُرام يوما من الأيام فلا أقل من السّكوت
فـ نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا كره طعاماً تركه
والزوج العاقل الحصيف قادر على أن يوصل ما يُريد بتعبيرات وجهه
فقد وُصِف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشد حياء من العذراء في خدرها ، وبأنه إذا كرِه شيئا عُرِف في وجهه . رواه البخاري ومسلم .
ولا شك أن هذا الفعل له أثره في الـنّفس ، وإن لم يتكلّم صاحبه أو ينطق بما في نفسه .
بل انظر إلى مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للجانب النفسي ، وتودّدِه إلى حبيبته وأحب الناس إليه :
” عائشة “
فإنه عليه الصلاة والسلام كان يضع فمه على موضع فمِ عائشة رضي الله عنها في الطّعام والشَّراب .
ولا شك أن هذا الفعل له أثره النفسي في التعبير عن الحب والرضا .
تقول عائشة رضي الله عنها : كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِـيّ فيشرب ، وأتعرّق العَرْق وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِـيّ . رواه مسلم .
والعَرْق : العظم عليه بقية لحم .
وأبعد من ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من منـزله ، وكان خارجا للصلاة فقبّـل حِـبَّـه “عائشة ” ثم خرج .
تقول عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَـَّـل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ، ولم يتوضأ . قال عروة : قلت لها : من هي ألا أنت ؟! قال : فضحكت . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بحاجة إلى تلك القُبلة عند خروجه للصلاة ، ولكن تلك القُبلة لها أثرها البالغ في نفس زوجه .
وكلمة الشُّـكر وعبارة الثناء لها ألف أثر في نفس من يسمعها .
ورب كلمة فعلت في النفوس فِعل السّحر ، ولكنه السحر الحلال !
وابتسامة الرضا ترسم السعادة الزوجية ولا تُكلّف صاحبها شيئا !
بل هو مأجور على ابتسامته ، مع ما يجني من ثمارها العاجلة والآجلة !
قال جرير رضي الله عنه : ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسّم في وجهي . رواه البخاري ومسلم .
وإن باستطاعة كلّ من الزوجين كَسْب قلب صاحبه بابتسامة تُشعر الطرف الآخر بالرضا عنه .
وليس بالضرورة أن تكون الحياة الزوجية مثالية خالية من المشكلات أو المنغِّصات ، وإنما العِبرة بالأعمّ الأغلب .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لا يَـفْـرَك مؤمن مؤمنه إن كَرِه منها خلقا رضيَ منها آخر . رواه مسلم .
أي لا يُبغض المؤمن زوجته لأجل خُلُق قد يبدو منها ، فإن ظهر له من أخلاقها ما يذمّه ويمقته ، فلينظر في محاسنها .
وإن كرِه منها تقصيرها في جانب فلينظر إلى قيامها ووفائها بجوانب أخرى .
والمسلم مأمور بالعدل والإنصاف في كل شيء ، ومع كل أحد .
والزوجة مُطالبة بهذه النّظرة أيضا ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إياكن وكفران المنعمين ، إياكن وكفران الـمُنْـعَمِين . قالت امرأة : يا رسول الله ، أعوذ بالله يا نبي الله من كفران نِعَم الله . قال : بلى ، إن إحداكن تطول أيْمتها ، ويطول تعنيسها ، ثم يُزوِّجها الله البعل ، ويُفيدها الولد ، وقرّة العين ، ثم تغضب الغضبة فتقسم بالله ما رأت منه ساعة خير قط ، فذلك من كفران نِعَم الله عز وجل ، وذلك من كفران المنعمين . رواه الإمام أحمد ، وأصله في الصحيحين .
هذه إشارة إلى الجانب النفسي في التعامل الأُسري ، وفي الحياة الزوجية خاصة .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم