محاضرة قصيرة بعنوان … ألا إن القوة لله جميعًا
المحاضرة المرئية هنا :
الحمد لله القوي المتين والصلاة والسلام على النبي الأميّ الأمين
الحمد لله الذي تفرّد بالكمال والجمال والجلال ، تفرد بالخلق والأمر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، تفرد بالخلق والإيجاد (للَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .
أخبر الله عز وجل بأن له القوة جميعًا وبأنه هو القوي العزيز ، وبأنه ذو القوةِ المتين ، وأخبر عن نفسه بأنه لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ، وأنه هو السميع العليم .
إذا أردت أن تشهد مشاهد قوة الله في القرآن فتأملها ، أوضح ما تكون في ثلاثة مواضع :
الموضع الأول : في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة .
الموضع الثاني : في إهلاك الأمم ، وكيف أن الله عز وجل يهلكهم بأقلِّ الأشياء وأضعفِ الأشياء ، فلا يملكون لأنفسهم – فضلاً عن غيرهم – نفعًا ولا ضرًّا ولا موتً ولا حياةً ولا نشورًا .
فيتبين بتلك العقوبات ، أن البشر أضعف مِن أن يدفعوا عن أنفسهم أضعف المخلوقات ، فضلاً عن أقواها .
الموضع الثالث : في أحداثِ يومِ القيامة (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، كما يطوي كاتب السجلات والصكوك سجلاته وصكوكه ، فإن الله عز وجل يطوي السماء بيمينه ، ويأخذ الأرض ثم يهزها ويقول أنا الملِك ، وينادي في ذلك اليوم يوم الدين (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا يجيبه أحد ، فيجيب نفسه بنفسه تبارك وتعالى (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) .
ولذلك نحن نقرأ في الفاتحة في كل صلاة في كل ركعة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وإن كان المُلك كله لله ، لكن في ذلك يتمحض المُلك ، ولا أحد له مُلك ، ولا أحد يدّعي المُلك ، ولا أحد يملك شيئًا .
فهذا مِن مشاهد القوّة في القرآن العظيم .
يوم تُسوّى الأرض وتُدكدكُ الجبال ، ويوم تكوّر الشمس ، ويُطمَس ضوء القمر ، كل هذا يدلُّ على القوّة الربانيّة .
وقد أعجزَ اللهُ تعالى الخلقَ فتحداهم بالإيجاد وبالموجود ، فتحداهم بإيجاد أقل الأشياء وأحقر الأشياء ، فبالذباب والبعوض والذَّر – صغار النمال ، والحبة من القمح أو الشعير .
يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)، ضعُف العابد والمعبود من دون الله ، فهُم أضعفُ مِن أن يستنقذوا شيئًا أخذه الذباب ، وهو هذا المخلوق المحتقَر كما يقول ابن كثير رحمه الله .
وفي صحيح البخاري ومسلم في أحاديث وعيد المصورين “قال رسول الله ﷺ: قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة “ .
البشر أضعف مِن أن يوجِدوا شيئًا من العدم مهما صغُر ، ولو كان حبة رملٍ أو خردلة .
لا يستطيعون أن يوجِدوا شيئًا وإنما يتصرفون فيما أوجد الله عز وجلّ .
وتحداهم الله عز وجل في الموجود بين أيديهم ، في هذه الروح التي يحييون بها (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْر مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
فلو كان الميت أكثرَ الناس ثراءً ، أو أعظمَ الناسِ مُلكًا ، ما استطاعوا أن يردّوا هذه الروح فيه أو إليه .
ولذلك الأطباء قديمًا وحديثًا يتكلمون في المريض وعلاج المريض ويحاولون ما دامت هذه الروح في الجسد ، فإذا خرجت هذه الروح رفعوا أيديهم وأعلنوا عجزهم .
وتحداهم الله تعالى في أحقر الأشياء وأقلها وهو البعوض ، فإذا أتى البعوض وأخذ مِندم إنسان فإنه لا يستطيع أن يستخلص هذا الدم ويعيده .
وأضعف مِن ذلك الفيروسات التي لا تُرى بالعين المجرّدة ، فيسلطها الله على مَن شاء ولو كانت أقوى الأمم ، مهما كان عندها من التقنية أو التقدم أو الطب ، فإنها لا تستطيع أن تمنع هذه الفيروسات من دخول البلد ، كل ما يستطيعونه هو أن يعزلوا المرضى وأن يحدوا من انتشار المرض .
جاء في تفسير عبد الرزاق عن زيد بن أسلم في خبر الذي حاج إبراهيم في ربه وهو النمرود ، أن الله أرسل إليه مَلَكًا بعد أن حَكَم هذا الملِك أربعَ مئةِ سنة ، وظنَّ أنه باقٍ ، وهو أوّل مِن ادعى الربوبية .
قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبّار ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه . ثم دعاه الثانية فأبى عليه . ثم دعاه الثالثة فأبى عليه . وقال : اجمعْ جموعك وأجمعُ جموعي .
فجمع النمرود جيشه وجنوده ، وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذباباً من البعوض ، بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم ، فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا باديةً ، ودخلت واحدةٌ منها في منْخَر الملكِ فمكثت في منخره أربعمائة سنة ، عذبه الله تعالى بها فكان يُضْرَبُ رأسُه بالمرِازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها. ا.هـ .
وعادٌ (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، أرسلَ الله عز وجل عليهم هذا الهواء ، زادت سرعته وجعله الله ريحًا (مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) ، فسلطه الله عليهم فأهلكهم جميعًا .
وكذلك سلّط الله على فرعون (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ)
أرسل عليهم الطوفان وهو ماءٌ زاد منسوبُه ، وأرسل عليهم الحشرات .
فهذا فرعون الذي ادعى الربوبية ما استطاع أن يدفعَ عن نفسه هذه الأشياء الضعيفة .
وكذلك في أخبار آخر الزمان كما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا ، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ : لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ “
قال الإمام النووي : النغف: دُودُ يكون في أنوف الإبل والغنم.
وأخرج الترمذي في حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف يأجوج ومأجوج : ” فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ فِي السَّمَاءِ ، فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ ، فَيَقُولُونَ : قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ . قَسْوَةً وَعُلُوًّا ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ ، فَيَهْلِكُونَ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ تَسْمَنُ وَتَبْطَرُ وَتَشْكَرُ شَكَرًا مِنْ لُحُومِهِمْ “
فالله عز وجل هو القوي وهو العزيز الذي لا يُغلَب وهو القادِر على كل شيء ، فيذلّ الله عز وجل هذه الأمم المتجبرة بأقل الأشياء ، فتظهر بذلك عظمةُ الله عز وجل ويظهر ضَعف البشر .
تأمّل في مشاهِدِ قوة الخلق في القرآن الكريم ، وأكتفي بمشهدين ..
الأول / جبريل عليه السلام الذي أهلك الله به المؤتفكات – قرى قوم لوط – ، فأرسله الله تعالى عليهم ، وجاء وصفه في السُّنة “له ست مئة جناح “ ، فرفَع تلك القرى على جناحٍ واحد إلى عنان السماء ، حتى سمعت الملائكة التي في السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها عليهم ، ثم أتبعهم الحجارة .
جبريل عليه السلام الذي أُتي تلك القوة العظيم لم تغرّه تلك القوة ، لأنه علِم أن الله عز وجل هو الذي أعطاه إياها .
جاء في الحديث الصحيح “مررتُ ليلةَ أسريَ بي على الملأِ الأعلى فإذا جبريلُ كالحلسِ البالي من خشيةِ اللهِ” وفي لفظٍ لابنِ مردويهِ “مررتُ على جبريلَ في السَّماءِ الرَّابعةِ فإذا هوَ كأنَّهُ حلسٌ بالٍ من خشيةِ اللهِ”
فعظمة جبريل تلاشت أمام عظمة الله عز وجل لأنه يعلم أنه ضعيف أمام قوة الله عز وجل ، ويعلم أن الله عز وجل هو الذي منحه وحباه تلك القوة .
المشهد الثاني / وهو مِن أعجب مشاهد القوة .
نبي الله سليمان دعا (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)
كان سليمان عليه السلام في الشام ، وبلقيس في اليمن ، وبينهما أكثر مِن ألفي كيلو ، فيقول عليه السلام لجلسائه (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ) وأعظم مِن قوة هذا ، قوة الآخر (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قوة هائلة غير متصوَّرة ، فمَن الذي منح هذا المخلوق هذه القوة ؟
إنه القوي سبحانه وتعالى .
لذلك لما رأى سليمان عرشَ بلقيس مستقرًا عنده (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) .
أنتم ترون اليوم أمم الأرض إذا أرادت أن تخوض حربًا في مكانٍ آخَـر، فكم تحتاج مِن الزمن لتنقل العتادَ مِن هذا البلد إلى ذلك البلد ، رغم ما أوتوا مِن قوة ومِن تقدم ؟
ونبي الله سليمان يؤتى له بعرش بلقيس في زمن غمضة عين .
الخلاصة :
أن تعلَّقَ قلبك بالله القوي العزيز ، ولذلك اقترن هذا الاسم وهذي الصفة بالرزق ، لأن الرزق مِن أعظم ما يهم بني آدم ، قال الله تعالى (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)
القوي هو القادِر على كل شيء ، والعزيز هو الذي لا يُغلَب ويَمنع غيره.
وقال الله عز وجل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) .
فكأنه يقال لك في هذه الآيات علّق قلبك بالله عز وجل ، فهو القوي وهو العزيز وهو ذو القوة سبحانه وتعالى .
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الرياض : 23/6/1441 هـ