ولا نِصف كلمة !
جَعل الله القلوب أوعية .. وجَعَل لها وسائل تصُبّ فيها وتملؤها ..
وجَعَل أعلى تلك الوسائل السمع والبَصر ، والسمع أهمّ مِن البَصر ، ولذا قُدِّم ذِكْر السَّمع على البصر في آيات الكتاب العزيز .
وجَعَل الله للإنسان وسائل إدراك وتلقّي ، وأقواها : السمع .
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
قال ابن كثير : ذَكَر تعالى مِنَّته على عباده في إخراجه إياهم مِن بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، ثم بعد هذا يَرزقهم تعالى السمع الذي به يُدْرِكون الأصوات، والأبصار اللاتي بها يُحِسّون المرئيات .. والعقل به يُميّز بين الأشياء ضارها ونافعها ، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا ، كلما كَبُر زِيد في َسمعه وبصره وعقله ، حتى يبلغ أشده . اهـ .
ولَمّا كان السمع والبصر وسائل الإدراك وسُبُل التعلُّم ، كانا مما يُسأل عنهما على وجه الخصوص .
قال تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) .
قال الزمخشري : المراد : النهي عن أن يقول الرَّجل ما لا يَعلم ، وأن يَعمل بما لا يَعلم ، ويَدخُل فيه : النهى عن التقليد دخولا ظاهرا ؛ لأنه اتِّباع لِمَا لا يَعلم صحته مِن فساده . اهـ .
وقد حذَّر السلف مِن الاستماع إلى أصحاب الأهواء والبِدَع ؛ لأن الإنسان لا يدري ماذا يُصيبه مِن تلك الشبهات ، وقد يُعجَب بذلك الشخص البِدْعيّ ويتأثّر به دون أن يشعر بذلك ، وقد ينصبغ بِصبغته !
وكان السلف يقولون : الشُّبَه خَطّافَة . أي تُؤثِّر وتَخْطف العقل .
ولذا نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان الدجال ، فقال عليه الصلاة والسلام : مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ مِنْهُ ، مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَالِ ، فَلْيَنْأً مِنْهُ ، مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَالِ ، فَلْيَنْأً مِنْهُ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ، فَلَا يَزَالُ بِهِ لِمَا مَعَهُ مِنَ الشُّبَهِ حَتَّى يَتَّبِعَهُ . رواه أحمد وأبو داود . وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي رواية : مَن سَمِع بالدجال فَلْيَنْأ عنه ، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مُؤمِن ، فَيَتبعه مما يَبْعَث به مِن الشُّبُهات .
وحَدَّث سلاّم بن أبي مُطيع أن رجلا من أصحاب الأهواء قال لأيوب السختياني : يا أبا بكر ، أسألك عن كلمة ، قال أيوب وجَعل يشير بإصبعيه : ولا نصف كلمة ، ولا نصف كلمة !
وفي رواية : قال : لأيوب ، يا أبا بكر ، أسألك عن كلمة ؟ قال : فَوَلَّى ، وهو يُشير بأصبعه ، ولا نصف كلمة . وأشار لنا سعيد بخنصره اليمنى !
وسعيد هو ابن عامر ، الراوي عن سلاّم بن أبي مُطيع .
وكان هذا مَنْهج يتوارثه العلماء .. ويُورّثه السابق لـ اللاحق
قال أبو قِلابة – وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – : لا تجالسوا أصحاب الأهواء – أو قال : أصحاب الخصومات – فإني لا آمن أن يَغمِسُوكم في ضلالتهم ، أو يُلَبِّسوا عليكم بعض ما تَعرفون .
وقال مصعب بن سعد : لا تجالس مَفتونا ، فإنه لن يُخطئك إحدى اثنتين : إما أن يَفْتِنك فتتَّبعه ، وإما أن يُؤذيك قبل أن تُفارِقه .
ودَخَل رَجلان مِن أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين ، فقالا : يا أبا بكر نُحدِّثك بحديث ؟ فقال : لا . قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟ قال : لتقُومَان عني أو لأقوم عنكما ! قال : فقام الرَّجُلان فَخَرَجا .
وقال هِشَام بن حَسّان : قال رَجُلٌ لابنِ سِيرِين : إنّ فُلانًا يُرِيدُ أنْ يَأْتِيَك , وَلا يَتَكَلّمُ بِشَيء ! قال : قُلْ لِفُلانٍ : لا ، مَا يَأْتِينِي ؛ فَإنّ قَلْبَ ابنِ آدَمَ ضَعِيفٌ ، وَإنّي أخَافُ أنْ أسْمَع مِنه كَلِمَة , فَلا يَرْجِعُ قَلْبِي إلَى مَا كَان . رواه ابن بَطّة في ” الإبانة الكبرى ” .
ولَمَّا قال رَجُل للحَسَن رحمه الله : يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدِّين . قال له الحسن : أما أنا فقد أبصرت دِيني , فإن كنت قد أضللت دِينك ، فالتمسه !
وقال أبو ثور : سمعت الشافعي يقول : كان مالك بن أنس إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال : أما أنا فَعَلَى بَيّنة مِن رَبّي ، وأما أنت فَشَاكّ ؛ فاذْهب إلى شَاكّ مِثلك فخَاصِمه .
قال معمر : كان ابن طاوس جالسا ، فجاء رجل مِن المعتزلة ، فجعل يتكلّم قال : فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه ، وقال لابنه : أي بني ! أدخل أصبعيك في أذنيك ، واشْدُد ، ولا تَسمع مِن كلامه شيئا . قال معمر: يعني أن القلب ضعيف .
وكانوا يُهينون أهل البِدَع الذين يَدْعُون إلى بِدَعهم ..
قال عمرو بن دينار : بينا طاووس يطوف بالبيت لَقِيَه مَعْبَد الجهني فقال له طاووس : أنت مَعْبَد ؟ فقال : نعم ، قال : فالْتَفَت إليهم طاووس فقال : هذا مَعْبَد فأهِينُوه !
وما كانوا يُجالِسون أهل البِدَع ..
حدّث مسلم بن خالد عن ابن خثيم : أن طاووسا كان جالسا هو وطَلْق بن حبيب ، فجاءهما رَجُل مِن أهل الأهواء ، فقال : أتأذن لي أن أجلس ، فقال له طاوس : إن جلست قُمْنا ، فقال : يغفر الله لك أبا عبد الرحمن ، فقال : هو ذاك إن جلست – والله – قُمْنا ، فانصرف الرجل .
ورُوي أن طاووسا جاءه رجل في المسجد الحرام ، وكان مُتَّهَمًا بالقَدَر ، وكان مِن الفقهاء الكبار ، فجلس إليه ، فقال له طاوس : تَقوم أو تُقام ؟ فقيل لطاووس : تقول هذا لرَجُل فَقِيه ! فقال : إبليس أفقه منه ! يقول إبليس : رب بما أغويتني . ويقول هذا : أنا أغوي نفسي !
وقوله : (وكان مُتَّهَمًا بالقَدَر) أي : أنه يَقول بِقَول القَدَريّة ، الذين يقولون : إن الله لم يُقدِّر الأشياء قبل وُجودها ، وأن العبد يَخلُق فِعله !
وروى الإمام اللالكائي من طريق مالك أبي هشام قال : كنت أسير مع مِسْعَر ، فَلَقِيه رَجل مِن الرافضة قال : فَكَلّمه بشيء لا أحفظه ، فقال له مِسعر : تَنَحّ عني ، فإنك شيطان !
وقال عبد الرزاق : قال لي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى : أرى المعتزلة عندكم كثيرا ، قلت : نعم ، وَهُم يَزعمون أنك منهم ، قال : أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك ، قلت : لا ، قال : لِمَ ؟ قلت : لأن القلب ضعيف ، والدِّين ليس لمن غَلَب .
وقال ميمون بن مهران : ثلاث لا تبلون نفسك بهن : لا تدخل على السلطان ، وإن قلت آمره بطاعة الله ، ولا تصغينّ بسمعك إلى هوى ، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه ، ولا تدخل على امرأة ، ولو قلت أعلمها كتاب الله .
وجاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس فسأله ، فقال : قال رسول الله كذا ، فقال : أرأيت لو كان كذا ؟ قال الإمام مالك : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقال مالك : أوَ كُلَّما جاء رجل أجْدل مِن الآخر رُدّ ما أنْزَل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟!
وليُعلَم أن ردّ النصوص الصحيحة ليس مِن شأن أهل الإيمان ، بل هو شأن أهل الزندقة والنفاق !
قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .
قال العلامة القاسمي في تفسيره ” محاسِن التأويل ” :
اعْلَم أن كل حديث صَحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن رَوَاه جامِعو الصِّحاح ، أو صَحَّحَه مَن يُرْجَع إليه في التصحيح مِن أئمة الحديث ، فهو مما تَشمله هذه الآية ، أعْنِي قوله تعالى : (مِمَّا قَضَيْتَ) ، فحينئذٍ يَتعيّن على كُلّ مُؤمن بالله ورسوله الأخْذ به وقبوله ظاهرا وباطنا ، وإلاّ بأن الْتَمَس مَخَارِج لِردِّه أو تأويله ، بِخلاف ظاهره ، لِتَمذهُبٍ تَقَلَّدَه ، وعَصَبيّة رُبِّيَ عليها – كما هو شأن الْمُقَلِّدَة أعداء الحديث وأهله – فيَدخُل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية ، الذي تقشعّر له الجلود ، وتَرجف منه الأفئدة . اهـ .
ونَقَل عن العلامة الطيبي قوله : عَجبتُ ممن سُمِّي بالسُّنِّي ، إذا سمِع مِن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله رأي ، رَجَّح رأيه عليها ! وأي فَرْق بينه وبين المبتدِع ؟! . اهـ .
ولا يَعرِف قدر أهل الفضل إلاّ الأفاضل .
قال الإمام الشافعي : إذا رأيتُ رجلا من أصحاب الحديث ، فكأنّي رأيت رَجُلا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جزاهم اللَّه خيرًا ، حفظوا لنا الأصل ، فلهم علينا الفضل .
وما عَبَّر الإنسان عن فَضْل نَفْسه *** بمثل اعتقاد الفضل في كُلّ فاضِل
وإن أخَسّ النقص أن يَرْمِي الفتى *** قَذَى العين عنه بانتقاص الأفاضل
وفي المقابِل : لا يُسيء الظنّ بالأخيار ويَطْعَن فيهم إلاّ سيئ السيرة خبيث الطوية ، فهو كما قيل :
إذا ساء فِعْل الْمَرء ساءت ظنونه *** وَصَدَّق ما يعتاده بالتوهّم
أخيرا :
كان مُصْعَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ يُنْشِدُ :
أَأَقْعُدُ بَعْدَ مَا رَجَفَتْ عِظَامِي … وَكَانَ الْمَوْتُ أَقْرَبَ مَا يَلِينِي
أُنَاظِرُ كُلَّ مُبْتَدَعٍ خَصِيمٍ … وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا لَدِينِي
فَأَتْرُكُ مَا عَلِمْتُ لَرَأْيِ غَيْرِي … وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ
وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَنٌ قُدَامَى … يَلُحْن بِكُلِّ فَجٍّ أَوْ وَجِينِ
وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ لُبْسٌ … تَفَرَّقَ فِي الشِّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ
وَمَا عِوَضٌ لَنَا مِنْهَاجُ جَهْمٍ … بِمِنْهَاجِ ابْنِ آمِنَةَ الْأَمِينِ
فَأَمَّا مَا عَلِمْتُ فَقَدْ كَفَانِي … وَأَمَّا مَا جَهِلْتُ فَجَنِّبُونِي
وَكُنَّا إِخْوَةً نَرْمِي جَمِيعًا … فَنَرْمِي كُلَّ مُرْتَابٍ ظَنِينِ
فَمَا بَرِحَ التَّكَلُّفُ أَنْ رَمَتْنَا … بِنَشَانٍ وَاحِدٍ فَوقَ الشُّئُونِ
فَأَوْشَكَ أَنْ يَخِرَّ عِمَادُ بَيْتٍ … وَيْنَقَطِعَ الْقَرِينُ مِنَ الْقَرِينِ
خاتمة الوصايا :
نصيحة لإخواني وأخواتي .. لا تكونوا أقماع شُبُهات !
فإنه يَجِب قَبول ما ثَبَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه حقّ وصِدق .
قال الإمام الشافعي: ما صَحَّ أَن رَسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَه ، لا يُقال فيه : لِمَ ، ولا : كيف ؟
وقال الإمام أحمد في أصول السنة : الإيمان بالقَدَر خيرِه وشَرّه ، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها ، لا يُقال : لِمَ ، ولا كيف ؟ إنما هو التصديق والإيمان بها ، ومَن لم يَعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله ؛ فقد كُفِي ذلك ، وأُحْكِم له ؛ فعليه الإيمان به والتسليم .
ورَحِم الله هارونَ الرشيد ..
فقد حدّث أبو معاوية الضرير هارونَ الرشيد بِحديث ” احتج آدم وموسى ” فقال رجل شَريف : فأين لَقِيَه ؟ فغضب الرشيد ، وقال : النطع والسيف ! زنديق يَطعن في الحديث . فما زال أبو مُعاوية يُسكِّـنه ويقول : بادِرَة منه يا أمير المؤمنين . حتى سَكَن .
قال ابن القيم رحمه الله : وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه – وقد جَعَلْتُ أُورِد عليه إيرادا بعد إيراد : لا تَجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيَتَشَرّبها ، فلا يَنضَح إلاَّ بها ، ولكن اجْعَله كالزجاجة الْمُصْمَتَة تَمُرّ الشبهات بِظَاهِرها ولا تَسْتَقِرّ فيها ، فَيَرَاها بِصفائه ، ويَدفعها بِصلابته ، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْتَ قلبك كل شبهة تَمُرّ عليها صار مَقَرًّا للشبهات . أوْ كما قال . فما اعلم أني انتفعت بِوَصية في دَفع الشبهات كانْتِفَاعِي بذلك .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
الرياض – 1436 هـ