محاضرة قصيرة بعنوان … مسائل في القَضاء والقَدَر
المحاضرة مرئية هنا:
الحمدُ للهِ يَفعلُ ما يشاء ، ويَحكُم ما يُريد .
الحمدُ لله يَقضِي بِالْحَقّ ، ويَحكُم بالعَدْل .
الحمد لله الذي لا رَادّ لأمْرِه ، ولا مُعقّب لِحُكْمِه ، ولا يُسأل عمّا يفعل في مُلْكِه .
فالْمُلك مُلكُه ، والأمْرُ أمْرُه ، والْحُكْمُ حُكْمُه ، والعَبدُ عَبدُه .
واعلَمْ بأنك عَبدٌ لا فِكَاكَ له *** والعبدُ ليسَ على مَوْلاهُ يَعْتَرِضُ
في يوم الاثنين الماضي 28 مِن شهر ربيع الأول من عام 1441 هـ ، وقُبيل صلاة الظهر كُنّا نُعَزّي ونُواسِي أحَدَ الزملاء في وَفاةِ والِده ، وما كنتُ أعلَم أني على موعدٍ مع الموتِ في نفسِ الساعة ..
وفي نفس اليوم كُنت أُعِدّ لهذه المحاضرة بِعُنوان : مَسائل في القضاءِ والقَدَر ، ولم أكُنْ أعلم أنها سَتَكُونُ سُلْوَانًا لي قَبْلَ غَيرِي .
فإلى تِلك المسائل :
قد يُقالُ : القضاءُ ويُقصِدُ به القَدَرُ .
وإذا قيلَ : القضاءُ والقَدَرُ ؛ فلكلِّ واحدٍ منهما معنىً مختَلِفٌ عن الآخَر .
والفَرْقُ بينهما :
أنَّ القَدَرَ : يُرادُ به التقديرُ ، وكِتابةُ المقادِيرِ قبلَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ .
قال الخطّابيُّ : القَدَرُ اسْمٌ لِمَا صَدَرَ مُقَدرًا عن فِعلِ القادِرِ … والقَضاءُ في هذا معناه الْخَلْقُ . اهـ .
وقال ابنُ الأثيرِ : الْمُرَادُ بالقَدَرِ : التقْديرُ ، وبالقضاءِ : الْخَلْقُ ، كَقَولِه تعالى : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي : خَلَقَهُنَّ .
فالقضاءُ والقَدَرُ أمْرَانِ مُتَلازِمانِ لا يَنْفَكُّ أحدُهُمَا عنِ الآخَرِ ؛ لأنَّ أحدَهُما بِمَنْزلةِ الأساسِ وهو القَدَرُ ، والآخَرَ بِمَنْزِلةِ البِناءِ وهو القَضاءُ ؛ فمنْ رَامَ الفَصْلَ بينهما فقد رامَ هَدْمَ البِناءِ ونَقْضَه . اهـ .
وقال الْمُنَاوِيُّ : القضاءُ إنْفَاذُ الْمُقَدَّرِ . اهـ .
مسألة :
يُنسَبُ الشّرُّ إلى الْمَقضِيّاتِ ولا يُنسَبُ إلى القَدَرِ .
وفي صحيحِ السُّنّةِ :
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ . رواه البخاري ومسلم .
وفي دُعاءِ القُنُوتِ : وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ . رواه الإمام أحمدُ وأبو داود والترمذيُ والنسائيُّ وابنُ ماجه ، وصححه الألبانيُّ والأرنؤوط .
قال ابنُ عبدِ البرِّ : وهذا يَرْويه الْحَسَنُ بنُ عليٍّ مِن طُرُقِ ثابِتةٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم علّمَه هذا الدعاءَ يَقْنُتُ به في الصلاةِ . اهـ .
قال شيخُنا العثيمينُ رحمه اللهُ : ونُؤمِنُ بأنَّ الشّرَّ لا يُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى لِكَمَالِ رَحمتِه وحِكْمتِه ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ” والشَّرُّ ليس إليكَ “ رواه مسلم . فَنَفْسُ قَضَاءِ اللهِ تعالى ليس فِيه شَرٌّ أبَدًا ؛ لأنه صَادِرُ عنْ رَحْمةٍ وحِكْمةٍ ، وإنما يكونُ الشّرُّ في مَقْضِيّاتِه ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في دُعاءِ القُنُوتِ الذي عَلَّمَه الْحَسَنَ : “وقِنِي شَرَّ مَا قَضَيتَ “ ، فأضافَ الشّرَّ إلى ما قَضَاه . ومع هذا فإنَّ الشّرَّ في الْمَقْضِيَّاتِ ليس شَرًّا خَالِصا مَحْضًا ، بَل هو شَرٌّ في مَحَلِّه مِن وَجْهٍ ، خَيْرٌ مِن وَجْهٍ ، أو شَرٌّ في مَحَلِّهِ ، خَيْرٌ في مَحَلٍّ آخَرَ . اهـ .
مسألة :
الدعاءُ يَرُدُّ القضاءَ ولا يَردُّ القَدَرَ ؛ لأنَّ القَدَرَ فُرِغَ منه
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ، وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ . رواه الترمذيُّ مِن حديثِ سلمانَ رضي الله عنه ، وقال الألبانيُّ : حَسَن .
ورواه الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجه مِن حديثِ ثَوْبَانَ رضي الله عنه .
وقال عليه الصلاةُ والسلامُ : لا يُغني حَذَرٌ مِن قَدَرٍ ، والدعاءُ ينفعُ مِمّا نَزَلَ ومِمّا لم يَنْزِلْ ، وإنَّ البلاءَ ليَنْزِلُ فَيَتَلَقّاه الدعاءُ ، فَيَعْتَلِجَان إلى يومِ القيامةِ . رواه الحاكم ، وقال : هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ ولم يخرِّجاه . وحَسَّنه الألباني .
قال ابنُ الأثيرِ : فيَعْتَلِجَان ، أَيْ : يَتَصارَعَان . اهـ .
مسألة :
العلماءُ يُفرِّقون بينَ القضاءِ الْمُبْرَمِ والقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ .
فيقولون : القَضاءُ الْمُبْرَمُ هو الذي في اللوحِ المحفوظِ ، وهو الذي لا يَقْبَلُ الْمَحْوَ .
والقضاءُ الْمُعَلَّقُ هو الذي في أيْدِي الملائكةِ ، وهو ما يَقبَلُ الْمَحْوَ ، كقولِه تبارك وتعالى : (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ) .
وفي حديثِ أمِّ حبيبةَ رضي اللهُ عنها أنها قالتْ : اللهم أمْتِعْنِي بِزَوجِي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبِأبِي أبي سُفيانَ ، وبِأخِي مُعاويةَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ ؛ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ. رواه مسلم .
قال النوويُّ : وهذا الحديثُ صَرِيحٌ في أنَّ الآجالَ والأرزاقَ مُقدَّرةٌ لا تَتَغيّرُ عمّا قَدّرَه اللهُ تعالى وعلِمَه في الأزَلِ ، فيَسْتَحِيلُ زيادتُها ونَقْصُها حقيقةً عن ذلك …
قال الْمَازِرِيُّ هنا : قد تَقرّرَ بِالدّلائلِ القطْعِيّةِ أنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ بِالآجالِ والأرزاقِ وغيرها ، وحقيقةُ العِلمِ معرفةُ المعلومِ على ما هو عليه ، فإذا عَلِمَ اللهُ تعالى أن زَيْدًا يَمُوتُ سَنةَ خُمْسُمِائةٍ استحالَ أنْ يموتَ قَبْلَها أو بَعدَها لئلا يَنْقَلبَ العِلمُ جَهْلاً ، فاستَحَالَ أنَّ الآجالَ التي عَلِمَها اللهُ تعالى تَزيدُ وتَنقُصُ ، فيَتعيَّنُ تأويلُ الزيادةِ أنها بِالنّسبةِ إلى مَلَكِ الموتِ أو غيرِه مِمّن وَكّله اللهُ بِقبضِ الأرواحِ ، وأمَرَه فيها بآجالٍ ممدودةٍ ، فإنه بعد أنْ يأمُرَه بذلك أو يُثبّتَهُ في اللوحِ المحفوظِ يَنقصُ منه ويَزيدُ على حسبِ ما سَبقَ به عِلْمُه في الأزلِ ، وهو معنى قولِه تعالى : (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) . اهـ .
مسألة :
متى يُحتَجُّ بالقَدَرُ ، ومتى لا يُحتَجُّ به ؟
العلماءُ يقولون : القَدَرُ يُحتَجُّ به في المصائبِ ، ولا يُحتَجُّ به في المعائبِ .
ومعنى هذا القولِ : أنه يُحتَجُّ بالقَدَرِ على المصائبِ والأمورِ التي تُصيبُ الإنسانَ مما لا يَدَ له فيها .
ولا يُحتَجُّ بالقَدَرِ على الذنوبِ والمعاصي .
وأصْلُ هذا القولِ :
قولُه عليه الصلاة والسلام : احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ ، فَلا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ . رواه مسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ ، وَاَلَّذِي يَنْفَعُهُ يَحْتَاجُ إلَى مُنَازَعَةِ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَدَفْعِ مَا قُدِّرَ مِنْ الشَّرِّ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْخَيْرِ . وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِهِ . اهـ .
وكذلك احتجاجُ آدمَ وموسى عليهما الصلاة والسلام
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ. رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ ، قَالَ لَهُ آدَمُ : يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى .
قال النوويُّ : وَمَعْنَى كَلامِ آدَمَ : أَنَّكَ يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ وقدَّرَ عليَّ فلا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ وَلَوْ حَرَصْتُ أَنَا وَالْخَلائِقُ أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْهُ لَمْ نَقْدِرْ ، فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى ذَلِكَ .
وَلأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ شَرْعِيٌّ لا عَقْلِيٌّ ، وَإِذْ تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَغَفَرَ لَهُ زَالَ عَنْهُ اللَّوْمُ ، فَمَنْ لامَهُ كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ : هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيَّ . لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ اللَّوْمُ وَالْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْعَاصِيَ بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ وَغَيْرِهَا ، وَفِي لَوْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ زَجْرٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ ، وَهُوَ محتاجٌ إلى الزجرِ مالم يَمُتْ . اهـ .
وقال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ : وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ ؛ لأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ عَلَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ ، وَيَتُوبَ إلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب . اهـ .
وقال أيضا : قَالَ تَعَالَى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قَال عَلْقَمَةُ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ .
وَأَمَّا الذُّنُوبُ : فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ لا يَفْعَلَهَا ؛ فَإِنْ فَعَلَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا فَمَنْ تَابَ وَنَدِمَ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ ، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ أَشْبَهَ عَدُوَّهُ إبْلِيسَ .
قَال اللَّهُ تَعَالَى : (فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ، فَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ ، وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَائِبِ . اهـ .
وقال الشيخُ مَرْعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ : إنما حَجَّ مُوسى لِكَونِهِ كان قد تابَ مِن الذّنبِ الصّوريِ ، واسْتَسْلَمَ للمُصِيبةِ التي لَحِقتْ الذريةَ بِسببِ أكْلِه الْمُقَدَّرِ عليه . فالحديثُ تَضَمّنَ التّسليمَ للقَدَرِ عند وُقوعِ المصائبِ ، وعدمَ لَوْمِ الْمُذْنِبِ التائبِ ، وأنَّ المؤمنَ مَأمُورٌ أنْ يَرجِعَ إلى القَدَرِ عند المصائبِ لا عند الذنوبِ والمعايبِ ؛ فيَصبِرُ على المصائبِ ، ويَستغفرُ مِن الذنوبِ .
وقال : وأما الذّنوبُ فليس لأحدٍ أنْ يَحتجَّ على فِعلِها بِقَدرِ اللهِ ، بل عليه أنْ لا يَفعلَها ، وإذا فعلَها فعليه أنْ يتوبَ منها كما فعلَ آدمُ عليه السلام .
قال بعضُ السلفِ : اثنان أذْنَبَا ، آدمُ وإبليسُ ، فآدمُ تابَ فَتَابَ اللهُ عليه واجْتَباه ، وإبليسُ أصرَّ على معصيتِه وأحتجَّ بِالقَدَرِ فلُعِنَ وطُرِدَ ، فمن تابَ مَنْ ذنْبِه أشْبَه بآدمَ ، ومَنْ أصرَّ وأحتَجَّ بِالقَدَرِ أشْبَه إبليسَ ، ومَن تابَ لا يَحسُنُ لَومُه على ذَنْبِه الذي صَدَر منه . اهـ .
(رَفْعُ الشُّبهةِ والغَررِ عمّن يَحتجُّ على فعلِ المعاصيِ بِالقَدَرِ)
والذي يَحتَجُّ بِالقَدَرِ على الذّنوبِ والمعاصي مَحْجُوجٌ بِفِعلِه هو ! لأنه لو رأى أسَدًا أو حَرِيقًا لَفَرَّ مِنه ، وما وَقَف كَالْخَشَبةِ ، ولا احتَجَّ بِالقَدَر ، ولا قال : إنْ كان مَكْتُوبا عليه أنْ يأكُلَه الأسدُ ، أو يُصيبَه الحريقُ فسَوف يُصيبُه .
ولذا قال عمرُ رضي الله عنه : نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ؟ رواه البخاري ومسلم .
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلا سَرَقَ ، فَقَالَ لِعُمَرَ: سَرَقْتُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ، فَقَالَ لَهُ : وَأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ . اهـ .
مسألة :
أهلُ السعادةِ وأهلُ الشقاوةِ والقَدَرُ السّابقِ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلاّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً . فَقَالَ رَجُل : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ . فقَال : أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ، ثُمَّ قَرَأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى). رواه البخاري ومسلم .
وسُئلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : فِيمَا نَعْمَلُ ، أَفِي شَيْءٍ قَدْ خَلا أَوْ مَضَى أَوْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ الآن ؟ قال : فِي شَيْءٍ قَدْ خَلا وَمَضَى . فَقَال الرَّجُلُ أَوْ بَعْضُ الْقَوْم : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قال : إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
والإنسانُ لا يعلَمُ ما كُتِبَ له مِن سعادةٍ وشقاوةٍ ، ولذا كان مِن دُعاءِ الصحابةِ سؤالُ اللهِ أن يُثْبِتَهُم في أهلِ السعادةِ .
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه وهو يطوفُ بالكعبةِ : اللهم إنْ كُنتَ كَتَبْتَني في أهلِ السعادةِ فأثْبِتْني فيها ، وإن كُنتَ كَتبتَ عليَّ الذّنبَ والشِّقوةَ فامْحُني وأثبِتْني في أهلِ السّعادةِ ، فإنك تَمْحو ما تشاءُ وتُثْبِتُ وعندك أمُّ الكتابِ . رواه البخاري في “التاريخِ الكبيرِ” وابنُ جرير في ” التفسير ” .
وكان ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه يقولُ : اللهم إن كُنتَ كَتَبْتَنِي في أهلِ الشقاوةِ ؛ فامْحُني ، وأثْبِتْني في أهلِ السعادةِ . رواه ابنُ جريرٍ في ” التفسير ” ، والطبرانيُّ في ” الكبير” .
والسعادةُ إنما تُنالُ بأسبابِها .
قال ابنُ القيَّمِ : وَقَدْ قَسَّمَ سُبْحَانَهُ الْخَلْقَ إِلَى قِسْمَيْنِ : سُعَدَاءَ ، وَأَشْقِيَاءَ ، فَجَعَلَ السُّعَدَاءَ هُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ ، وَالأَشْقِيَاءَ هُمْ أَهْلُ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ .
فَالسَّعَادَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ ، وَالشَّقَاوَةُ دَائِرَةٌ مَعَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ …
فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَسَعُ عِبَادَهُ غَيْرُ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَتَغَمُّدِهِ لَهُمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَيْسَ إِلاّ ذَلِكَ أَوِ الْهَلاكَ ، فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِمْ عَدْلَهُ فَعَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ ، وَإِنْ رَحِمَهُمْ فَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَلا يُنْجِي أَحَدًا مِنْهُمْ عَمَلُهُ . اهـ .
وقال أيضا : مَنْ مَلأَ قَلْبَهُ مِنَ الرِّضَا بِالْقَدَرِ : مَلأَ اللَّهُ صَدْرَهُ غِنًى وَأَمْنًا وَقَنَاعَةً ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِمَحَبَّتِهِ ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ .
وَمَنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الرِّضَا : امْتَلأَ قَلْبُهُ بِضِدِّ ذَلِكَ ، وَاشْتَغَلَ عَمَّا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَفَلاحُهُ .
فَالرِّضَا يُفَرِّغُ الْقَلْبَ لِلَّهِ ، وَالسُّخْطُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ مِنَ اللَّهِ . اهـ .
ولا يعلَمُ الإنسانُ أيضا : هل كُتِبَ عليه الفَقرُ أو الغِنى ؟ وهو مع ذلك يَسْعى – وربما سَعْيًا حَثِيثًا – في طَلَبِ الرّزقِ ، ولم يقُلْ : كُتِبَ عليّ الفَقْرُ !
فلا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يعمَلَ السوءَ بِحُجّةِ أنه كُتبَ عليه أنَّه مِنْ أهلِ الشقاوةِ .
وكذلك الهُدى والضلالُ : على الإنسانِ أنْ يَسْعى للهُدى ، ويجتَنِبَ الضلالَ ؛ لأنه مَأمُورٌ بذلك .
وأمّا الكِتابُ السابقُ على الإنسانِ وهو في بَطنِ أمِّه ؛ فهو غَيْبٌ .
ثم إنَّ الهُدى والضلالَ ، والسعادةَ والشقاوةَ كُتِبَتْ على العِبادِ قبلَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ لِمَا عَلِم اللهُ مِنهم ، وما ربُّك بِظلاّمٍ للعَبِيدِ .
قال الإمامُ الطحاويُّ : وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ، وَالأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ ، وَالشَّقِيُّ من شقيَ بقضاءِ الله . اهـ .
وأضرِبُ لذلك مِثَالَيْن يَتّضِحُ بهما الأمرُ :
الأولُّ : لو كان عند رجلٍ أربعةُ أبناءٍ ، فأمَرَهُم بأشياءَ ، ونَهَاهُم عن أشياءَ، وهو يَعلَمُ قبلَ أنْ يَتكلَّمَ مَن سيُطيعُه ، ومَن سَيَعْصِيه ويُخالِفُ أمْرَه !
فإذا أثابَ الأبُ الْمُطِيعَ ، وعاقَبَ الْعاصيَ ؛ فلا يكون ظالِمًا ، وإن كان عَلِمَ قبلَ ذلك مَن سيُطيعُه ، ومَن سَيَعْصِيه .
والثاني : لو أنَّ مُدرِّسًا درّس طلاّبا سَنَةً دراسيةً ، وَعَرَفَ الطلاّبَ وخَبَرَ أحوالَهم ، ثم كتَبَ في ورقةٍ عِندَه : هؤلاء يَنْجَحُون ، وهؤلاء يُخْفِقُون . ثم جاءت النتيجةُ كما توقّعَ الْمُدرِّسُ ، فلا يكون حُكمُه السابقُ الْمَبْنِيُّ على مَعرفتِه بالطلاّبِ سببَ رسُوبِ مَن رَسَبَ ، ولا نَجاحِ مَن نَجَح .
وللهِ عزَّ وجَلّ الْمَثَلُ الأعلى .
فتقديرُه سابِقٌ على خَلْقِه للْخَلْقِ ، وعِلْمُه بِما يَصِيرُون إليه أزَلِيّ .
ثم إن العِبَادَ لا يُؤاخَذُون ولا يُعاقَبُونَ إلاّ على ما فَعَلُوه .
ومِن كَرَمِ الله عزّ وجَلّ : أن تجاوَزَ لَهم عَمّا تَحَدّثَتْ بِه الأنفُس ، وما جالَ في الْخَواطِر .
مسألة :
مِن عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ : أنَّ اللهَ لو عَذَّبَ أهلَ السماواتِ والأرضِ بَرَّهُم وفَاجِرَهم عَذَّبَهم وهو غيرُ ظَالِمٍ لهم .
رَوى الأئمةُ : أحمدُ وعبدُ بنُ حُميدٍ وأبو داود وابنُ ماجه وابنُ حبانَ والبيهقيُّ أنّ ابنَ الدَيلَمِيِ قال : أتيتُ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ ، فَقُلْتُ له : وَقَعَ في نَفْسِي شَيءٌ مِن القَدَرِ ، فَحَدِّثْنِي بِشَيءٍ لَعَلَّه أنْ يَذْهَبَ مِن قَلْبِي ، فَقَال : إنَّ اللهَ لَو عَذَّبَ أهْلَ سَمَاواتِه وأهْلَ أرْضِه عَذَّبهم غَيرَ ظَالِمٍ لَهم ، ولَو رَحِمَهم كَانَت رَحْمَتُه خَيرًا لهم مِنْ أعْمَالِهم . قال : ثُمَّ أتَيتُ عبدَ الله بنَ مسعودٍ فَقَال مِثْلَ قَولِه ، ثم أتَيتُ حُذيفةَ بنَ اليمانِ فَقال مِثْلَ قَولِه ، ثم أتَيتُ زَيدَ بنَ ثابتٍ فَحَدَّثَنِي عنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذلك .
لأنَّ اللهَ هو مالِكُ الْمُلكِ يتصرّفُ في مُلِكِه كيفَ شاء ، لا رادَّ لِقضائه ، ولا مُعقِّبَ لِحُكمِه ؛ لذا نَقولُ في كُلِّ حِينٍ : له الْمُلْك . بعد كل صلاة ، وفي كل صباح ومساء ..
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في قولِه تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) :
فَقَوْلُهُ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إشَارَةٌ إلَى عِبَادَتِهِ بِمَا اقْتَضَتْهُ إلَهِيَّتُهُ : مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ . (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إشَارَةٌ إلَى مَا اقْتَضَتْهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لأَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ ، وَفِيهِ أَيْضًا مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ والإصْلاحِ.
وَالْمَالِكُ : الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ . فَإِذَا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ مِنْ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْمُلْكَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى ، كما قَالَ تَعَالَى : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فَلا يَرَى نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَلا حَرَكَةً وَلا سُكُونًا وَلا قَبْضًا وَلا بَسْطًا وَلا خَفْضًا وَلا رَفْعًا إلاّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ وَقَابِضُهُ وَبَاسِطُهُ وَرَافِعُهُ وَخَافِضُهُ ؛ فَهَذَا الشُّهُودُ هُوَ سِرُّ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّاتِ، وَهُوَ عِلْمُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ . اهـ .
مسألة :
القَدَرُ سِرُّ اللهِ في خَلْقِه ، كما قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما .
ولو شاءَ اللهُ لَهَدى الناسَ جميعا .
قال تعالى : (أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) ؟
وقد أوْصَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً بِوَصيّةٍ جامِعةٍ ، فقال : لا تَتَّهِمِ اللهَ على نَفْسِك . رواه الإمام أحمد .
وفي روايةٍ له : لا تَتَّهمِ اللهَ في شيءٍ قَضَى لك به .
ومِنَ الأدبِ مع اللهِ : أنْ لا يُسألَ عمّا يَفعلُ أنه : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) .
قال الإمامُ الطحاويُّ : وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلانِ ، وسُلَّمُ الْحِرْمَانِ ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فَمَنْ سَأَلَ : لِمَ فَعَلَ ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . اهـ .
وقال ابن كثير : وقوله : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) أي : هو الْحَاكِم الذي لا مُعَقِّب لِحُكْمِه ، ولا يَعتَرِض عليه أحَد ؛ لِعَظَمَته وجَلالِه وكِبْرِيائه ، وعُلّوه وحِكْمَته وعَدْله ولُطْفه . اهـ .
ولأنَّ اللهَ يَتصرّفُ في مُلكِه كما شاءَ ، ولا يَظلِم ربّك أحدا ، كما قال ربّ العِزّة سبحانه : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) .
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : الظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلُ : أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِ ؛ فَلا يَجْزِيهِ بِهَا، وَيُعَاقِبَ الْبَرِيءَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الأَفْعَالِ الَّتِي يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهَا لِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ ؛ لأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنْ أَفْعَالِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ . اهـ .
وَمِمَّا يُحْكَى : أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ الْهَمَذَانِيَّ الْمُعْتَزِلِيَّ دَخَلَ عَلى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ – وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا أَيْضًا – وَكَانَ عِنْدَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفِرَايِينِيُّ … فَقَال عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى الْفَوْرِ : سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ . فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَوْرًا: سُبْحَانَ مَنْ لا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلاَّ مَا يَشَاءُ. فَقَال لهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ – وَفَهِمَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مُرَادَهُ – : أَيُرِيدُ رَبُّنَا يُعْصَى ؟ فَقَال أَبُو إِسْحَاقَ : أَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ : أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى ، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى ، أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ ؟ فَقَال لَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ : إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ . فَانْصَرَفَ الْحَاضِرُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ : وَاللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ !
(طبقات الشافعية الكُبرى للسّبْكي ، ولَوامِع الأنوار البَهِيّة ، للسّفاريني)
وقَال رَجُلٌ لأَبِي عِصَامٍ الْقَسْطَلانِيِّ : أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَأَوْرَدَنِي الضَّلالَ ، ثُمَّ عَذَّبَنِي ، أَيَكُونُ مُنْصِفًا ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عِصَامٍ : إِنْ يَكُنِ الْهُدَى شَيْئًا هُوَ لَهُ ؛ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يَشَاءُ ، وَيَمْنَعَهُ مَنْ يَشَاءُ.
(شرح العقيدة الطحاوية ، لابن أبي العِزّ)
والرضا بِاللهِ رَبّا مُستلزِمٌ للرِّضا عنِ اللهِ وعنْ أقدَارِه
قال أبو الدرداءِ رضي اللهُ عنه : إنَّ اللهَ إذا قَضى قَضاءً أَحَبَّ أنْ يُرْضَى به . (زاد المعاد ، لابن القيم)
وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : لأَنْ يَعَضَّ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تُطْفَأَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ لأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ : لَيْتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ . رواه ابنُ أبي شيبةَ ، ومِنْ طريقِه: رواه أبو نُعيمٍ في ” حليةِ الأولياءِ “، ورواه البيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضا : يَسٍتَخِيرُ أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ : اللهُمَّ خِرْ لِي ، فَيُخَيَّرُ اللهُ لَهُ فَلا يَرْضَى، وَلَكِنْ لِيَقُلِ اللهُمَّ خِرْ لِي بِرَحْمَتِكَ وَعَافِيَتِكَ، وَيَقُولُ : اللهُمَّ اقْضِ لِي بِالْحُسْنَى ، وَمِنَ الْقَضَاءِ بِالْحُسْنَى قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَذَهَابُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ : اللهُمَّ اقْضِ لِي بِالْحُسْنَى فِي يُسْرٍ مِنْكَ وَعَافِيَةٍ . رواه البيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وقال أبو الدَّرْدَاء رضي الله عنه : ذِرْوَةُ الإِيمَانِ أَرْبَعٌ : الصَّبْرُ لِلْحَكَمِ ، وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ ، وَالإِخْلاصُ لِلتَّوَكُّلِ ، وَالاسْتِسْلامُ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ . رواه ابن المبارك في ” الزهد ” ، والبيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وقال أبو الْعَبَّاسِ بنُ عَطَاء : الرِّضَا تَرْكُ الْخِلافِ عَلَى اللهِ فِيمَا يُجْرِيهِ عَلَى الْعَبْدِ . رواه البيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وقال الربيعُ بنُ أنسٍ : علامةُ الشُّكرِ : الرّضا بِقَدرِ اللهِ والتسليمُ لِقَضائه . (مَدارِج السّالِكين ، لابن القيم) .
قال ابنُ القيمِ : الرِّضَا جنَّةُ الدُّنْيَا ، ومُسْتَرَاحُ العارِفِين ؛ فَإِنَّهُ طَيِّبُ النَّفسِ بِمَا يجْرِي عَلَيْهِ من الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ عينُ اخْتِيَار اللهِ لَهُ ، وطمأنينتها إلى أَحْكَامه الدِّينِيَّة .
هَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّه رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا ، وَمَا ذاق طعمَ الإِيمَانِ من لم يحصُلْ لَهُ ذَلِك .
وَهَذَا الرِّضَا هُوَ بِحَسَبِ مَعْرفَتِه بِعدْلِ اللهِ وحِكْمتِه وَرَحمتِه وَحُسْنِ اخْتِيَاره ؛ فَكلما كَانَ بذلك أعرَفَ كَانَ بِهِ أرْضى ؛ فَقَضَاءُ الرّبِّ سُبْحانه فِي عَبدِه دَائرٌ بَيْنَ الْعَدْلِ والْمَصْلَحةِ وَالْحِكمَةِ وَالرَّحْمَةِ ، لا يَخْرُجُ عَن ذَلِك الْبَتَّةَ .اهـ . (الفوائد)
وقال :
الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الأَعْظَمُ ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا ، وَمُسْتَرَاحُ الْعَارِفِينَ ، وَحَيَاةُ الْمُحِبِّينَ ، وَنَعِيمُ الْعَابِدِينَ ، وَقُرَّةُ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ .
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا : أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلا بُدَّ .
قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ : مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا ؟
فَقَال : إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ ، فَيَقُولُ : إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ ، وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ ، وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ . (مَدارِج السّالِكين)
ومَن رَضِي بالله رَبًّا : حَمِدَ اللهَ في السّرّاءِ والضرّاءِ ، ومَن كان كذلك : بَنَى الله له بَيْتَ الْحَمْد ، كما في الحديث عند أحمد والترمذي .
وإذا أرَدْت راحةَ نفسِك ، وسَلامَةَ قَلْبِك فانظر إلى جَمَال الْمَقادِير ، وحلاوة الرّضا .
قال مَن لا يَنطِق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : عَجَبًا لأمْرِ المؤمِن ، إن أمْرَه كُلّه خَير – وليس ذاك لأحدٍ إلاّ للمؤمِن – إن أصَابَته سَرّاء شَكَر ، فكان خَيْرًا له ، وإن أصَابَته ضَرّاء ، صَبَر فَكَان خَيْرًا له . رواه مسلم .
كثيرٌ مِن الناسِ يَعرِفُ أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ خيْرِه وَشَرِّه رُكْنٌ مِن أركانِ الإيمانِ
وحقيقةُ هذا الإيمانِ إنما تَظْهَرُ إذا وَقَعَ القضاءُ .
وفي دُعائه عليه الصلاة والسلام : وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ . رواه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ ، وَصحّحه الألباني والأرنؤوط .
قال أبو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ : الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ تَفْوِيضٌ ، وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَسْلِيمٌ . رواه البيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وفي دُعاء الاستخارة : وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ . رواه البخاري .
وَكَانَ عمرُ بنُ عبد العزيز كَثِيرًا مَا يَدْعُو بهذه الدّعوات : اللهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ ، وَبَارِكْ لِي فِي قَدْرَكَ حَتَّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ ، وَلا تَأْخِيرَ شَيْءٍ عَجَّلْتَهُ . رواه البيهقي في ” شُعب الإيمان ” .
وإذا رَأيتَ مَن يَسبُّ الزّمانَ ، أو يذمُّ أهلَ الزمانِ ، أو يَتضجّرُ مِن الأهلِ والإخوانِ ، أو يُكثِرُ الشكايةَ ، أو يتسخّطُ ما هو فيه ؛ فاعلَمْ أنه لم يَرْضَ عنِ اللهِ ، ولا رضِيَ بالله ، وإنما يَتسَخّطُ أقدارَ الرحيمِ الرحمنِ .
وصَدَقَ مَن لا يَنطِقُ عنِ الْهَوى صلى الله عليه وسلم : إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابْتَلاهُم ، فمَن رَضِيَ فَلَه الرّضا ، ومَنْ سَخِط فله السّخَطُ. رواه الترمذي وابن ماجه ، وحسّنه الألباني والأرنؤوط .
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم طلّقَ حفصةَ رضي الله عنها ثم رَاجَعَها ، ولم يُؤثَرْ عنها أنها ذَكَرتْ ذلك ، ولا لاَكَتْه بِلِسَانِها !
وخيّرَ عائشةَ رضي الله عنها ، فاختارَتْه ، ولم تذكُرْ ذلك الموقفَ أبدا !
وَفِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لابْنِهِ : أُوصِيكَ بِخِصَالٍ تُقَرِّبُكَ مِن اللَّه ، وَتُبَاعِدُك مِن سَخَطِه : أن تَعْبُدَ اللَّهَ لا تُشْرِكَ بِه شَيْئًا ، وَأَن تَرْضَى بِقَدَر اللَّه فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ . (مَدَارج السّالكين ، لابن القيم)
والعامةُ تقولُ : ما فَاتَ مَاتَ ، ومِن أجْمَلِ كلامِهم : الكلامُ فيما فاتَ نَقْصٌ في العَقْلِ !
يعني : الكلامُ فيما وَقَعَ وجَرَى مما لا فائدةَ فيه ولا عِبْرَة .
وعلى الإنسانِ أن يَرْضَى بِاختيارِ اللهِ له ؛ فهو عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ ، والْخِيرَةُ فيما اختارَه الله .
قال ابنُ القيمِ في هذه الآيةِ : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) :
في هذه الآيةِ عِدّةُ حِكَمٍ وأسْرَارٍ ومَصَالِحَ للعبدِ ؛ فإنَّ العبدَ إذا عَلِمَ أنَّ المكروهَ قد يأتي بالمحبوبِ ، والمحبوبُ قد يأتي بِالمكروهِ – لم يأمَنْ أنْ تُوافِيَه المضَرّةُ مِن جانِبِ المسَرّةِ ، ولم ييأسْ أنْ تأتيَه المسَرّةُ مِن جانبِ المضَرّةِ لَعدَمِ عِلْمِه بِالعَواقِبِ …
ومِن أسْرَارِ هذه الآيةِ :
أنها تَقْتَضِي مِنَ العَبْدِ التفويضُ إلى مَن يَعلَمُ عَوَاقِبَ الأمورِ ، والرّضَا بما يختَارُه له ويَقْضِيه له لِمَا يَرجو فيه مِن حُسْنِ العاقبةِ .
ومنها : أنه لا يَقْتَرِحُ على رَبِّه ، ولا يختارُ عليه ، ولا يسألُه ما ليس له به عِلمٌ ، فلعلَّ مَضَرّتَه وهَلاكَه فيه وهو لا يَعلَمُ ، فلا يختارْ على ربِّه شيئا ، بل يسألُه حُسْنَ الاختيارِ له ، وأن يُرْضِيَهِ بِمَا يَخْتَارُه ؛ فلا أنْفَعُ له مِن ذلك .
ومنها : أنه إذا فَوّضَ إلى رَبِّه ورَضِي بِمَا يَخْتَارُه له أمَدَّه فيمَا يَخْتَارُه له بِالقُوّةِ عليه والعَزِيمةِ والصّبرِ وصَرَفَ عنه الآفاتِ التي هي عُرْضةُ اختيارِ العبدِ لنفسِه ، وأَرَاهُ مِن حُسْنِ عَوَاقِبِ اختيارِه له ما لم يَكُنْ لِيصِلَ إلى بعضِه بما يَختَارُه هو لنفسِه .
ومنها : أنه يُرِيحُه مِن الأفكارِ الْمُتْعِبَةِ في أنواعِ الاختياراتِ ، ويُفَرِّغُ قَلْبَه مِن التقديراتِ والتدبيراتِ .. ومع هذا فَلا خُرُوجَ لَهُ عَمَّا قُدِّرَ عَلَيه ، فَلَو رَضِيَ بِاخْتِيَارِ اللهِ أَصَابَهُ الْقَدَرُ وَهُو مَحْمُودٌ مَشْكورٌ مَلْطُوفٌ بِهِ فِيهِ ، وَإِلاّ جَرَى عَلَيْهِ الْقَدَرُ وَهُو مَذْمُومٌ غيرُ مَلْطُوفٍ بِهِ فِيهِ ؛ لأَنَّه مَع اخْتِيَارِه لنَفسِهِ .
(الفوائد) .
والسَّلَف كانوا ينظرون إلى أن ما يُصَابُون به على أنه مِن قِبَلِ أنفسِهم ، كما قال الله عزّ وجَلّ : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)
كانت أسماءُ بنتُ أبي بكر تَمْرَضُ الْمَرْضَة فتُعتِقُ كُلَّ مَمْلُوكٍ لها .
وكانت أسماءُ رضي الله عنها تُصْدَعُ ، فتَضَعُ يَدَها على رأسِها وتقولُ : بِذَنْبِي ، وما يَغفِرُه اللهُ أكثَر . (الطبقات الكُبرى ، لابن سعد)
أي أنها ما تُصابُ إلاّ بِسَبَبِ ذَنْبِها .
وهي بذلك تُشير إلى قوله تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)
وحَدّث عُبيدُ اللهِ بنُ السَّرِيّ قال : قال ابنُ سيرين : إني لأعرِف الذّنبَ الذي حُمِلَ به عليّ الدَّين ما هو . قلت لِرَجُلٍ منذُ أربعينَ سَنَة : يا مُفلس !
قال عبيدُ الله : فحَدثتُ به أبا سليمان الدّارَانِي فقال : قَلّتْ ذُنُوبُهم فَعَرَفُوا مِن أيْنَ يُؤتَون ، وكَثُرَتْ ذُنُوبي وذُنُوبُك فليس نَدْرِي مِن أين نُؤتَى ؟! (تاريخ دمشق ، لابن عساكر)
وكان السَّلَف يَتّهِمُون أنْفُسَهم رغم تَرَفُّعِهم عن الدّنَايَا والآثام :
قال الفضيل بن عياض : إني لأعصِي الله فأعِرف ذلك في خُلق حِمَاري وخادِمي . (تاريخ دمشق ، لابن عساكر)
وهذا الإمام وَكِيع بنُ الجرّاح لَمّا أغْلَظَ له رَجُلٌ القَوْل دَخَلَ بَيْتًا فَعَفّر وَجْهَه ، ثم خَرَج إلى الرّجُل . فقال : زِدْ وَكِيعا بِذَنْبِه ، فلولاه ما سُلّطْتَ عليه . (تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادي)
أي لولا ذنوبي لَمَا سُلّطتَ عليّ تُغلِظ لي القَول .
ولَمّا استطالَ رَجُلٌ على أبي معاويةَ الأسود ، فقال له رجل كان عنده: مه ! فقال أبو معاوية : دَعْهُ يَشْتَفِي ، ثم قال : اللهم اغفِرْ الذّنبَ الذي سَلّطتَ عليّ بِهِ هذا . (صفة الصفوة ، لابن الجوزي)
هذا مِن فِقْه المصيبة ، وهو فِقهٌ دَقيق لا يَتَأمّله كُلّ أحَد .
وأجْمَعُ كِتابٍ في مسائلِ القضاءِ والقَدَرِ : كتابُ شفاءِ العليلِ في مسائلِ القضاءِ والقَدَرِ والحِكمةِ والتعليلِ ، لابن القيم رحمه الله .
والله تعالى أعلم .