مداهنة أم مُداراة ؟
هناك بعض المصطلحات لا يُفرّق بينها في بعض الأحيان .
كما أن هناك بعض المفاهيم التي قد تختلط على بعض الناس ، أو تلتبس بغيرها عند آخرين .
وربما كان السبب في ذلك عدم وجود فرق كبير بينها
ومن هنا اعتنى بعض العلماء بالفروق
فألف الكرابيسي كتاب الفروق
وألّف القرافي كتاباً في الفروق
وعقد ابن القيم رحمه فصولاً في الفروق بين بعض المتشابهات
عقدها في آخر كتاب الروح
فأقتطِف لك من عناوينها :
قال رحمه الله :
الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق
الفرق بين الحمية والجفاء
الفرق بين التواضع والمهانة
الفرق بين الجود والسّرف
الفرق بين المهابة والكبر
الفرق بين الصيانة والتكبر
الفرق بين الشجاعة والجرأة
الفرق بين الحزم والجبن
الفرق بين الاقتصاد والشحّ
الفرق بين الاحتراز وسوء الظن
الفرق بين الفراسة والظن
الفرق بين النصيحة والغِيبة
الفرق بين الهدية والرشوة
الفرق بين الصبر والقسوة
الفرق بين العفو والذلّ
الفرق بين سلامة القلب والبَـلَـه والتّغفّل
الفرق بين الثقة والغَرّة
الفرق بين الرجاء والتمني
الفرق بين التحدّث بنعم الله والفخر
الفرق بين فرح القلب وفرح النفس
الفرق بين رقة القلب والجزع
الفرق بين المَوجِدة والحقد
الفرق بين المنافسة والحسد
الفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله
الفرق بين الحب في الله والحب مع الله
الفرق بين التوكل والعجز
الفرق بين الاحتياط والوسوسة
الفرق بين الاقتصاد والتقصير
الفرق بين النصيحة والتأنيب
الفرق بين المبادرة والعَجَلة
الفرق بين الإخبار بالحال والشكوى
وأشرت إلى هذه الفروق لأن الفروق بينها يسيرة ، ومن هنا فإنها قد تلتبس بغيرها ، ومن أراد معرفة ما بينها من فروق فليُراجع كتاب ” الروح ” لابن القيم رحمه الله .
أعود لما بدأت به
فالفرق بين المداهنة والمدارة
أن المُداهنة والإدْهان : المصانعة واللين ، وقيل : المداهنة إظهار خلاف ما يضمر ، والإدهان الغش ، ودهن الرجل إذا نافق . كما يقول ابن منظور في لسان العرب .
وفي التوقيف على مهمات التعاريف : المداهنة أن ترى منكراً تقدر على دفعه فلم تدفعه ، حفظا لجانب مرتكبه ، أو لقلة مبالاة بالدين .
وأما المداراة : فهي المداجاة والملاينة ، كما في مختار الصحاح .
وقال ابن الأثير في غريب الحديث : المداراة ملاينة الناس وحسن صحبتهم ، واحتمالهم لئلا ينفروا عنك .
وفي المصباح المنير للفيومي : داريته مداراة : لاطفته ولايَـنْـتُـه .
فالأول – وهو المداهنة – تكون مع عدم طيب النفس ، ويكون مع عدم المحبة
وقد تكون المداهنة في أمر مُحرّم ، بل قد يكون في الكفر – عياذاً بالله –
ولذا قال عز وجل : ( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )
قال ابن عباس فيها : ودوا لو تكفر فيكفرون .
قال ابن العربي في أحكام القرآن : وحقيقة الإدهان ؛ إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة ، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة ، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة ، أي مدافعة .
قال ابن زيد في قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) قال : الركون الإدهان .
وقال عليه الصلاة والسلام : مثل الْمُدهِنِ في حدود الله والواقع فيها ، مثل قوم استهموا سفينة ، فصار بعضهم في أسفلها ، وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمرّون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذّوا به ، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا ما لك قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم . رواه البخاري .
والرواية الأخرى عند البخاري : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها .
فالمحب يُجامل ويُداري محبوبه
والمُبغِض يُنافق مبغوضه !
وقد يمـرّ الشخص الواحد بموقفين مُتماثِلين ، فيُداهن ويُنافق في أحدهما ، ويُداري ويُجامل في الآخر
فعلى سبيل المثال :
يقول لك أبوك شيئا ، أو يقترح أمراً ، وتكون لا توافقه فيه ، فتسكت مُجاملة له ، ومُداراة لنفسه
ويقول لك رئيسك في العمل نفس المقترح ، أو نفس الكلام ، فتُوافقه مُداهنة ، ورغبة أو رهبة !
وقد يطلب منك أخوك سُلفة فتعطيه مجاملة ، وقد يطلبها رئيسك في العمل فتُعطيه نفاقاً !
والكريم يُجامل ويُداري ويُصانِع
واللئيم يُداهن ويُنافق !
ومِن هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه رجل قال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام . قالت عائة رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله قلتَ الذي قلت ، ثم ألنت له الكلام . قال : أي عائشة إن شرّ الناس من تركه الناس – أو ودعه الناس – اتقاء فحشه . رواه البخاري ومسلم .
وكان مِن مُداراة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يواجه الناس بما يكرهون .
وإذا غضب عُرِف ذلك في وجهه .
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً قط ؛ إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه . رواه البخاري ومسلم .
والرجل قد تأتيه زوجتك بطعام ، ولا يُعجبه فيُجاملها ، ويُداري خاطرها ، فهذه مجاملة ومُداراة ، وهي مطلوبة .
وهكذا …
فالمجاملة والمدارة والمصانعة مطلوبة
ومن لا يصانع في أمور كثيرة = يُضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم !
والمداهنة والنفاق ممنوعة .
والله ولي التوفيق .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم