لضررُ في البِدَعِ عُمومًا: أنها مُنازَعةٌ ومُشاقّةٌ ومُعانَدةٌ للشَّرْيعةِ ولِمَن جاءَ بها، وهو رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم.
وقد يَخرجُ الإنسانُ مِن دِينِه وهو لا يشعرُ، بل ويحسِبُ أنه على شيءٍ، ويحسِبَ أنه يتقرّبُ إلى اللهِ، وهو مُوغِلٌ في البِدَعِ. كما سيأتي.
والبِدَعُ تُبعِدُ صاحبَها عنِ اللهِ، في حينِ يَظنُّ أنها تُقرِّبُه إلى اللهِ.
هذا إجمالًا.
وأما التفصيلُ؛ فأقولُ:
أولا: البِدَعُ مَرْدُودةٌ غيرُ مَقبولةٍ، إذ يُشتَرَطُ لِقَبولِ العملِ الصالحِ شَرْطان: أن يكونَ خالِصا للهِ، وأنْ يَكونَ على سُنّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألةُ سبَقَ التفصيلُ فيها.
فَمَهْما حَسُنَتِ النيّةُ، فإنَّ العَمَلَ مَرْدُودٌ ما لم يَتحققْ فيه: الإخلاصُ للهِ تعالى والمتابَعةُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: مَن أحْدثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ. رواه البخاري ومسلم، وقال: مَن عَمِلَ عملًا ليس عليه أمْرُنا فهو رَدٌّ. رواه مسلم.
ومعنى ” رَدٌّ ” أي: مَرْدُودٌ غيرُ مَقبولٍ.
قال يحيى بنُ يحيى الليثيُّ: ليس في خِلافِ السُّنةِ رَجاءُ ثوابٍ.
ثانيا: البِدَعُ في الحقيقةِ سُوءُ أدبٍ مع مَقامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَلّغَ البلاغَ الْمُبِينَ، ولَم يَمُتْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى تمَّ الدِّينُ وكمُلَ.
قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وهذه الآيةُ نَزَلَتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حِجّةِ الوَداعِ في يوم عَرفَةَ.
رَوى البخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: جاء رجلٌ مِن اليهودِ إلى عمرَ، فقال: يا أميرَ المؤمنين آيةٌ في كتابِكم تقرؤونها، لو علينا نَزَلَتْ معشرَ اليهودِ، لاتّخَذْنا ذلك اليومَ عِيدًا، قال: وأيُّ آيةٍ؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾، فقال عمرُ: إني لأعلَمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فيه، والمكانَ الذي نَزَلَت فيه، نَزَلَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ في يومِ جمعة.
قال الإمامُ مالكٌ رحمه الله: مَن ابتدعَ في الدِّينِ بِدْعةً فَرَآها حَسَنَةً، فقد اتَّهَمَ أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلم، فإن اللهُ يقولُ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾، فما لم يكُنْ يومئِذٍ دِينًا فلا يكونُ اليومَ دِينًا.
قال ابنُ الماجِشونِ: سَمِعتُ مَالِكًا يقول: مَن ابْتَدَعَ في الإسلامِ بدعةً يَرَاها حَسَنةً، فقد زَعم أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم خَان الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾، فما لم يكُنْ يومئذٍ دِينا، فلا يكونُ اليومَ دِينا.
ومَن يأتي بِبِدعةٍ يَسْتَحْسِنُها فإنَّه يسْتَدْرِكُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفيها اتِّهَامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالتقصيرِ في البلاغِ.
واتِّهَامُ الرَّسُولِ راجِعٌ على الْمُرْسِلِ، وهو اللهُ تبارك وتعالى، فكيف يُقصِّرُ الرَّسُولُ في تبليغِ رسالتِه، واللهُ يُؤيِّدُه ويُسُدّدُه ويَنصُرُه؟!
بل وفي البِدَعِ: رَدٌّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: شَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ. رواه مسلم.
وحَذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الابتِداعِ والإحداثِ في الدِّينِ، فقال: إياكم ومُحْدَثَاتِ الأمورِ، فإن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعةٌ، وإن كُلَّ بِدْعةٍ ضلالةٌ. رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الألباني والأرنؤوط.
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ” كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ “، وأهلُ البِدَعِ يقولون: ليست كلُّ بِدعة ضلالةً!
فأيُّ مُشاقّةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومُخالَفةٍ له، ورَدٍّ عليه أوضَحُ مِن ذلك؟!
وقد قال اللهُ عزَّ وجَلّ: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
ثالثا: البِدَعُ ضلالاتٌ، كما أخبرَ مَنْ لا يَنطِقُ عنِ الهوى صلى الله عليه وسلم.
وهي سَببُ الشتاتِ والفُرقةِ.
قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
قال ابنُ عطيةَ: وهذه الآيةُ تَعُمُّ أهلَ الأهواءِ والبِدَعِ والشذوذِ في الفُروعِ وغيرِ ذلك مِن أهلِ التعمّقِ في الْجَدلِ والْخَوضِ في الكلامِ، هذه كُلُّها عُرْضةٌ للزَّللِ، ومَظنةٌ لِسوءِ المعتقدِ. اهـ.
يُضافُ إلى ذلك: ما جاء في الشرعِ مِن ذمِّ البِدَعِ، وما قرّرَه العلماءُ مِن خُطورةِ البِدَعِ، بل قد تُخرِجُ صاحبَها مِن الإسلامِ، وهو يَظنُّ أنه يتقرّبُ إلى الله!
ومِن ذلك:
أنه لا خَيرَ في البِدَعِ، إذْ لو كان فيها خيرٌ لَسَبَقَنا إليها خيرُ الناسِ بعدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأكثرُ الناسِ حرصا على سُنّتِهِ، واقتداءً به عليه الصلاة والسلام، وهم الصحابةُ.
قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ الدمشقيُّ في تفسيرِ هذه الآية: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 11]:
وأما أهلُ السُّنةِ والجماعةِ فيقولون في كلِّ فِعلٍ وقَولٍ لم يثبتْ عن الصحابةِ رضي الله عنهم: هو بِدْعةٌ؛ لأنه لو كان خيرًا لَسَبَقُونا إليه، لأنهم لم يَتْرُكُوا خَصْلةً مِن خِصالِ الخيرِ إلاَّ وقد بَادَرُوا إليها. اهـ.
وقد عَقَدَ الإمامُ الشاطبيُّ في كتابِ ” الاعتصام ” فَصْلًا في ذِكْرِ ما في البِدَعِ مِن الأوصافِ المحذورةِ، والمعاني المذمومةِ، وأنواعِ الشؤمِ.
وسأذكرُ بعضَ ما ذَكَرَه باختصارٍ، ومَن أرادَ الاستزادةَ فليُراجِعْ كتابَ ” الاعتصام “.
قال الإمامُ الشاطبيُّ: فاعْلَمُوا أنَّ البدعةَ لا يُقْبَلُ معها عِبادةٌ مِن صلاةٍ ولا صيامٍ ولا صدقةٍ ولا غيرِها مِن القُرُباتِ.
ومُجَالِسُ صاحِبَها تُنْزَعُ منه العِصْمةُ، ويُوكَلُ إلى نفسِه، والْمَاشِي إليه ومُوَقِّرُه مُعِينٌ على هَدمِ الإسلام، فما الظَّنُّ بِصَاحِبِها؟
وهو مَلْعُونٌ على لِسانِ الشريعةِ، ويَزدادُ مِنَ اللهِ بِعِبَادتِه بُعْدًا.
وهي مَظِنّةُ إلْقَاءِ العداوةِ والبغضاءِ.
ومَانِعَةٌ مِن الشفاعةِ المحمّديةِ.
ورَافعةٌ للسُّننِ التي تُقَابِلُها.
وعلى مُبْتَدِعِها إثمُ مَنْ عَمِل بها.
وليس له مِن توبَةٍ، وتُلْقَى عليه الذّلةُ في الدنيا والغضبُ من الله.
ويُبْعَدُ عن حَوضِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
ويُخَافُ عليه أن يكونَ مَعْدُودا في الكفارِ الْخَارِجِين عن الْمِلّة.
وسُوءُ الخاتمةِ عند الخروجِ مِنَ الدنيا، ويَسودُّ وَجْهُه في الآخرةِ، ويُعذّبُ بِنارِ جهنمَ.
وقد تَبَرّأَ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وتَبَرّأَ منه الْمُسْلِمُون.
ويُخَافُ عليه الفتنةُ في الدنيا، زيادةً إلى عذابِ الآخرة.
ثم أطال الإمامُ الشاطبيُّ في تفصيلِ ذلك، وذِكْرِ الأدلةِ عليه، وأقوالِ السَّلَفِ ومَن بَعدَهم مِن أهلِ العِلْمِ في ذلك.
ومما قاله رحمه الله:
وأما أنَّ صاحِبَها مَلْعونٌ على لسانِ الشريعةِ، فَلِقَولِه عليه الصلاة والسلام: مَن أحْدَثَ حَدَثا أو آوَى مُحْدِثا؛ فعليه لَعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين. [رواه البخاري ومسلم].
وأما أنَّ صاحِبَها ليس له مِن تَوبةٍ، فَلِما جاءَ مِن قولِه عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللهَ حجزَ التوبةَ على كلِّ صاحبِ بدعةٍ. [رواه ابنُ أبي عاصمٍ في السُّنةِ وابنُ وَضّاحٍ في البِدعِ والنهيِ عنها. وقال عنه الهيثميُّ: رواه الطبرانيُّ في الأوسطِ، ورجالُه رجالُ الصحيحِ غيرَ هارونَ بنِ موسى الفَرْويِّ، وهو ثقةٌ. وصححَه الألباني].
[ولعلَّ قولَه: ليس له مِن تَوبةٍ، أي: غالبا، وهذا مُشاهَدٌ، أنَّ أغلبَ أهلِ البِدَعِ يَحيون عليها ويَموتون عليها، ويتعصّبون لها].
قال الشاطبيُّ رحمه الله:
وأما اسْوِدَادُ وَجْهِه في الآخرةِ؛ فقد تقدمَ في ذلك معنى قولِه: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، وفيها أيضا الوعيدُ بالعذابِ لِقولِه: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آل عمران: 106]، وقولُه قبل ذلك: ﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قولِه: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، قال: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أهلِ السُّنّةِ، وتَسْوَدُّ وُجُوهُ أهلِ البِدعَةِ.
حَكَى عِياضٌ عن مَالِكٍ – مِن روايةِ ابنِ نافعٍ عنه – قال: لو أن العَبْدَ ارْتَكبَ الكبائرَ كلَّها دُون الإشراكِ بِاللهِ شيئا ثم نَجا مِن هذه الأهواءِ لَرَجَوتُ أن يَكونَ في أعلى جناتِ الفردوسِ؛ لأنَّ كُلَّ كَبيرةٍ بين العبدِ ورَبِّه هو مِنها على رَجاءٍ، وكُلَّ هَوىً لَيس هو منه على رَجَاءٍ، إنما يَهوي بِصاحِبِه في نارِ جهنمَ. اهـ.
وقد تقرّرَ عند أهلِ العِلْمِ: أنَّ صاحِبَ البِدعةِ شرٌّ مِن صاحِبِ الكبيرةِ؛ وذلك: أنَّ صاحِبَ البِدعةِ يَزعمُ أنه يتقرّبُ إلى اللهِ بِما ليس بِقُربةٍ، بل بِما يُباعِدُه عن اللهِ تبارك وتعالى، ولذلك فإنَّه لا يُحدِّثُ نفسَه بالتوبةِ مِن هذا الْحَدَثِ، وإن كان صاحِبُه ملعونا، كما تقدَّم.
وصاحِبُ الكبيرةِ يُحدِّثُ نفسَه بالتوبةِ، ولا يَزعَمُ أنه يتقرّبُ إلى اللهِ بِكبيرتِه، بل يَعلَمُ أنها تُبعِدُه عن اللهِ تبارك وتعالى.
وقد ذَكَرَ ابنُ القيمِ أنَّ الشيطانَ يُريدُ أنْ يَظْفَرَ بالإنسانِ في عَقَبةٍ مِنْ سَبْعِ عَقَباتِ، بعضها أصعبُ مِن بَعضٍ، لا يَنْزِلُ مِنه مِن العقبةِ الشّاقّةِ إلى ما دُونِها إلاّ إذا عَجَزَ عن الظَّفَرِ به فيها.
العَقَبةُ الأولى: عَقَبةُ الكُفرِ باللهِ وبِدِينِه ولِقائه، وبِصِفاتِ كَمَالِه، وبما أَخْبَرَتْ به رُسُلُه عنه، فإنَّه إنْ ظَفِرَ به في هذه العَقبةِ بَردَتْ نارُ عَداوتِه واستراحَ، فإنْ اقتحمَ هذه العقبةَ ونَجَا منها بِبَصِيرةِ الْهِدايةِ، وسَلِمَ معه نورُ الإيمانِ طَلَبَه على:
العَقَبةُ الثانيةُ: وهي عَقبةُ البِدعةِ، إمّا باعتقادٍ خلافَ الحقِ الذي أَرْسَلَ اللهُ به رَسَولَه، وأنْزَلَ به كِتابَه، وإمّا بالتعبّدِ بما لم يَأذنْ به اللهُ مِن الأوضاعِ والرّسومِ الْمَحْدَثةِ في الدِّينِ، التي لا يَقبلُ اللهُ منها شيئا، والبِدْعتانِ في الغالبِ مُتَلازِمَتان، قَلَّ أن تَنْفَكَّ إحداهما عنِ الأخرى، كما قال بعضُهم: تَزَوّجتْ بِدْعةُ الأقوالِ بِبِدْعةِ الأعمالِ، فاشتغلَ الزَّوْجَان بالعُرسِ، فَلم يَفْجأْهم إلاّ وأولادُ الزِّنا يَعِيثون في بلادِ الإسلامِ، تَضِجُّ منهم العبادُ والبلادُ إلى اللهِ تعالى.
وقال شيخُنا: تَزَوّجتْ الحقيقةُ الكافِرةُ، بالبِدعةِ الفاجِرةِ، فَتَولّدَ بينهما خُسرانُ الدنيا والآخرةِ.
فإنْ قَطَعَ هذه العَقَبةَ، وخَلَصَ منها بِنورِ السُّنةِ، واعتصَمَ منها بِحَقيقةِ الْمُتَابَعةِ، وما مَضَى عليه السلفُ الأخيارُ مِن الصحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ…
العقبةُ الثالثةُ: وهي عقبةُ الكبائرِ، فإنْ ظَفِرَ به فيها زَيَّنَها له، وحَسَّنَها في عِينِه، وسَوّفَ به، وفتحَ له بابَ الإرجاءِ…
والظَّفَرُ به في عَقبةِ البِدعةِ أحبُّ إليه، لِمُنَاقَضَتِها الدِّينَ، ودَفْعِها لِمَا بَعَثَ اللهُ به رسولَه، وصاحِبُها لا يَتُوبُ منها، ولا يَرْجِعُ عنها، بَل يَدعو الْخَلْقَ إليها، ولِتَضَمّنِها القَوْلَ على الله بِلا عِلْمٍ، ومُعَاداةَ صَريحِ السُّنةِ، ومُعاداةَ أهلِها، والاجتهادَ على إطفاءِ نُورِ السُّنةِ، وتَوْلِيةِ مَنْ عَزَلَه اللهُ ورسولُه، وعَزْلِ مَن وَلاّه اللهُ ورسولُه، واعتبارِ ما رَدّه اللهُ ورَسولُه، ورَدِّ ما اعْتَبَره، ومُوَالاةِ مَن عادَاه، ومُعَادَاةِ مَن وَالاه، وإثباتِ ما نَفَاه، ونَفْيِ ما أثبتَه، وَتكذيبِ الصادقِ، وتصديقِ الكاذِبِ، ومُعَارَضَةِ الْحَقِّ بالباطلِ، وقَلْبِ الحقائقِ بِجَعْلِ الْحَقِّ بَاطِلا، والباطلِ حَقا، والإلحادِ في دِينِ الله، وتَعْمِيَةِ الْحَقِّ على القلوبِ، وطَلَبِ العِوَجِ لِصراطِ اللهِ المستقيمِ، وفَتحِ بابِ تبديلِ الدِّينِ جُمْلةً.
فإنَّ البِدَعَ تَسْتَدْرِجُ بِصَغِيرِها إلى كبيرِها، حتى يَنْسَلِخَ صاحِبُها مِن الدِّينِ، كما تَنْسلُّ الشَّعْرةُ مِن العَجينِ، فَمَفَاسِدُ البِدَعِ لا يَقِفُ عليها إلاّ أربابُ البصائرِ، والعُمْيَانُ ضَالّون في ظُلْمِةِ العَمَى (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ). اهـ. ويُنظَرُ تتمةُ كلامِه في ” مدارجِ السالكين “.
وثَمّةَ شُبهاتٍ واهِيةٍ تُعارَضُ بها السُّنّةُ، ويُشدُّ بها مِن أزْرِ البِدعَةِ، كقولِ بعضِهم:
بماذا يُجابُ عن صيامِ يومِ عاشوراءَ، وهو زيادةٌ في الشُّكرِ…؟
والجوابُ عنه: أن صيامَ يومِ عاشوراءَ جاءتْ به السُّنّةُ، فهو حُجّةٌ على أهلِ البِدعِ بِما فيها الْمُوالِدُ؛ لأننا نَقِفُ مع النصوصِ حيث وَقَفَ السَّلَفُ.
وصيامُ يومِ عاشوراءَ عِبادةٌ، والعباداتُ تَوقِيفيةٌ، ولو لَم تأتِ به السُّنَةُ، لَكَان تخصيصُ صومِه بِدعةً.
وهو مثلُ صيامِ يومِ الاثنين، فإنه جاء فيه أنه يومٌ وُلِد فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بل جاء النصُّ عليهما في حديثٍ واحِدٍ.
فقد سُئلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن صومِ يومِ الاثنينِ؟ قال: ذاك يَومَ وُلِدْتُ فيه، ويَومَ بُعِثت، أو أُنْزِلَ عليَّ فيه.
وسئل عن صومِ يومِ عرفةَ؟ فقال: يُكفِّرُ السَنَةَ الماضيةَ والباقيةَ.
وسئل عن صومِ يومِ عاشوراءَ؟ فقال: يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ. رواه مسلم.
وصومُ يومِ الاثنينِ عِبادةٌ، وهو يومٌ تُعرَض فيه الأعمالُ على اللهِ، مع كَونِه اليومَ الذي وُلِد فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَكُنْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ مِن أصحابِه رضي الله عنهم يُحدِثون في ذلك اليومِ مَزيدَ عَمَلٍ أو احتفالٍ؛ لكونه اليومَ الذي وُلِد فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يَصومُونه، وصِيامُهم له في كلِّ أسبوعٍ، وليس يَومًا في السَّنَةِ.
ويُقَالُ لأهْلِ البِدَعِ: ﴿ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، على أنَّ الاحتفالَ بِالْمَوَالِدِ مِن الدِّينِ. فإذْ لم تأتوا ببيّنَةٍ، فهو بِدْعَةٌ مُحْدَثَة.
ونقول لأهلِ البِدَعِ: هاتُوا لنا أثَرا واحِدا عن السَّلَفِ أصحابِ القرونِ الفاضلةِ: الصحابةِ والتابعين وأتباعِ التابعين، على أنَّ الاحتفالَ بالموالدِ سُنّةٌ، أوْ أنَّ واحدا منهم احتفلَ بيومِ المولِدِ!
أما الاستدلالُ بالعُمُومَاتِ، فلا يصِحُّ الاستدلالُ بها في مَحلِّ النِّزَاع.
ويَكفي في ذمِّ الاحتفالِ بالمولِدِ وإحياءِ ذِكْرِه وبُطلانِه: أنَّ منشأَ هذا الاحتفالِ إنما هو مِن الباطِنيّةِ، ولم يُعرَفْ عند أهلِ السُّنةِ!
قال تاجُ الدّينِ الفاكهانيُّ (المتوفى: 734هـ)
لا أعلمُ لهذا الْمَوْلِدِ أصلا في كِتَابٍ ولا سُنّةٍ، ولا يُنْقَلُ عَمَلُه عن أحدٍ مِن علماءِ الأُمّةِ الذين هم القُدوةُ في الدّينِ، الْمُتَمَسّكون بِآثارِ الْمُتَقَدِّمِين؛ بل هو بِدْعةٌ أحْدَثَها البَطّالُون، وشَهْوَةُ نَفْسٍ اغْتَنى بها الأكّالُون!
بدليلِ أنَّا إذا أدَرْنا عليه الأحكامَ الخمسةَ قلنا: إما أنْ يكونَ واجبا، أو مندوبا، أو مُباحا، أو مكروها، أو مُحرّما.
وهو ليس بِواجِبٍ إجماعا، ولا مندوبا؛ لأنَّ حقيقةَ الْمَنْدُوبِ ما طَلَبَه الشرعُ مِن غيرِ ذَمٍّ على تَرْكِه، وهذا لم يأذنْ فيه الشّرْعُ، ولا فَعَلَه الصحابةُ ولا التابعون ولا العلماءُ الْمُتَدَيّنون فيما علمتُ. وهذا جوابي عنه بين يديِ اللهِ تعالى إن عنه سُئلتُ.
ولا جائزٌ أن يكونَ مُبَاحا؛ لأنَّ الابْتِدَاعَ في الدِّينِ ليس مُبَاحا بإجماعِ المسلمين.
(الموردُ في عمل المولد)
وقال ابنُ الحاجِّ المالِكيُّ (المتوفى: 737هـ) في ” الْمَدْخَل “: فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ النَّبِيِّ والبدعِ المحدثةِ فِيهِ:
انْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا أَقْبَحَهَا، وَكَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ. أَلا تَرَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ.
فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ – رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ – لأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا، إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ، وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ.
وقال: الْعَجَبُ الْعَجِيبُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ بِالْمَغَانِي وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ لأَجْلِ مَوْلِدِهِ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَهُوَ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – فِيهِ انْتَقَلَ إلَى كَرَامَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفُجِعَتْ الأُمَّةُ فِيهِ وَأُصِيبَتْ بِمُصَابٍ عَظِيمٍ لا يَعْدِلُ ذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْمَصَائِبِ أَبَدًا. فَعَلَى هَذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ الْكَثِيرُ، وَانْفِرَادُ كُلِّ إنْسَانٍ بِنَفْسِهِ لِمَا أُصِيبَ بِهِ لِقَوْلِهِ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمْ الْمُصِيبَةُ بِي. اهـ.
ولِمّا كانتِ العِبادةُ المستَمِرةُ ثَقِيلةً على النفسِّ، واللهوُ والعَبثُ في يَومِ في السَّنةِ خفيفًا على النفسِ، مع ما فيه مِن حظِّ الشيطانِ – زيّنَ الشيطانُ الاحتفالَ بالموالِدِ!
والأمْرُ كما قال ابنُ القيمِ:
ثَقُل الكتابُ عليهم لَمَّا رَأوا
تقييدَه بِشَرَائعِ الإيمانِ
واللهوُ خفَّ عليهم لَمّا رَأوا
ما فيه مِن طَربٍ ومِن ألْحَانِ
|
وقد ذَكَر الإمامُ الشاطبيُّ أنَّ سببَ بُعْدِ صاحبِ البِدعةِ عن التوبةِ: أنَّ الدخولَ تحت تكاليفِ الشريعةِ صَعبٌ على النفسِ؛ لأنَّه أمْرٌ مُخَالِفٌ للهَوى وصَادٌّ عن سبيلِ الشهواتِ، فيَثْقلَ عليها جِدا؛ لأنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، والنَّفسُ إنّما تَنْشَطُ بِمَا يُوافِقُ هَوَاها لا بِمَا يُخَالِفُه، وكُلُّ بِدعةٍ فلِلهَوى فيها مَدْخلٌ، لأنها رَاجِعةٌ إلى نَظرِ مُخْتَرِعِها لا إلى نَظَرِ الشَّارِع، فإنْ تَعَلّقَتْ بِحُكمِ الشَّارِعِ فَعَلى حُكْمِ التَّبَعِ لا بِحُكْمِ الأصْلِ، مع ضَمِيمَةٍ أُخرى، وهي أنَّ الْمُبْتَدِعَ لابُدَّ له مِن تَعَلّقٍ بِشُبْهَةِ دَلِيلٍ يَنْسِبُها إلى الشَّارِعِ ويَدّعي أنَّ مَا ذَكَرَه هو مَقصودُ الشَّارِعِ؛ فَصَار هَوَاه مَقْصُودا بِدَليلٍ شَرْعيٍّ في زَعْمِه! فَكيف يُمْكِنُه الْخُرُوجُ عن ذلك، ودَاعِي الْهَوى مُسْتَمْسِكٌ بِحُسْنِ ما يَتَمَسّك به، وهو الدليلُ الشرعيُّ في الجملةِ. اهـ.
والاستدلالُ على جَوازِ المولِدِ بِفعلِ الصحابةِ في جَمْعِ القرآنِ، يدلُّ على جَهْلِ الْمُسْتَدِلِّ بذلك!
لأنَّ جَمْعَ القرآنِ مِن باب المصالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وليس مِن قَبِيلِ البِدَعِ الْمُحْدَثَةِ!
ثم أين فائدةُ إقامةِ الموالِدِ – لو افترضنا فيه فائدةً – مع فائدةِ جَمْعِ القرآنِ الذي هو عِصْمَةُ الأمّة؟!
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: المصالِحُ الْمُرْسَلَةُ: أنْ يَرى الْمُجْتَهِدُ أنَّ هذا الفِعلَ يَجْلِبُ منفعةً راجحةً، وليس في الشَّرعِ ما يَنْفِيه… وجَلْبُ المنفَعةِ يكونُ في الدنيا وفي الدِّين. اهـ.
ومع ذلك فليس بابُ المصالِحِ الْمُرْسَلَةِ مفتوحًا على مِصْرَاعيه!
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عن المصالِحِ الْمُرْسَلَةِ: وهذا فَصْلٌ عظيمٌ ينبغي الاهتمامُ به، فإنَّ مِنْ جِهتِهِ حَصلَ في الدِّينِ اضطرابٌ عظيمٌ، وكثيرٌ مِن الأمراءِ والعلماءِ والعُبّادِ رأوا مَصالِحَ فاستعملوها بناءً على هذا الأصلِ، وقد يكونُ منها ما هو مَحظورٌ في الشَّرعِ ولم يَعلَموه. اهـ.
وهنا قيدٌ مُهمٌّ، وهو أنَّ “المصالِحَ الْمُرْسَلَةَ: أن يَرى الْمُجْتَهِدُ أنَّ هذا الفِعلَ يَجْلِبُ منفعةً راجحةً، وليس في الشَّرعِ ما يَنْفِيه”، وهذا بِخلافِ البِدَعِ، فإنَّ في الشَّرْعِ ما يَنْفِيها؛ إما بِخُصوصِها، وإما على العُمومِ في ذمِّ الابتدَاعِ والإحداثِ في الدِّين، مما تقدَّمَتِ الإشارةُ إليه مِن الأدلةِ.
وأما الاستدلالُ بأفعالِ العلماءِ وأقوالِهم؛ فهو خَلَلٌ في الاستدلالِ!
ومما تَقرَّر عند أهلِ العِلْمِ: أنَّ قولَ العالِمِ يُحْتَجُّ له، ولا يُحْتَجُّ به.
قال الْحَسنُ البصريُّ: لن يَزَالَ للهِ نُصَحَاءُ في الأرضِ مِن عِبادِه يَعْرِضُون أعمالَ العبادِ على كِتابِ اللهِ، فإذا وَافَقُوه حَمِدُوا اللهَ، وإذا خَالَفُوه عَرَفُوا بِكِتابِ اللهِ ضَلالةَ مَن ضَلَّ، وهُدَى مَن اهتدى.
وقال الغزاليُّ: مَن عَرفَ الحقَّ بِالرِّجالِ حَارَ في مَتَاهَاتِ الضلالِ، فاعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أهلَه إن كنتَ سالِكا طَريقَ الْحَقِّ.
وقال ابنُ الجوزيِّ: اعلمْ أنَّ الْمُقَلِّدَ عَلَى غيرِ ثقةٍ فيما قَلَّدَ فيه، وفي التقليدِ إبطالُ مَنفعةِ العَقلِ؛ لأنه إنما خُلِقَ للتأملِ والتدبّرِ، وقبيحٌ بِمَن أُعْطِيَ شمعةً يَستضيءُ بِهَا أنْ يُطفئَها ويَمشيَ فِي الظُّلْمةِ.
واعلمْ أنَّ عمومَ أصحابِ المذاهبِ يَعظُمُ فِي قلوبِهم الشخصُ، فيتّبعون قولَه مِن غيرِ تدبّرٍ لِمَا قَالَ، وهذا عينُ الضلالِ؛ لأنَّ النظرَ يَنبغي أنْ يكونَ إِلَى القولِ لا إِلَى القائلِ، كَمَا قَالَ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه للحارثِ بنِ حوطٍ: يا حارِثُ إِنَّهُ ملبوسٌ عليك! إنَّ الحقَ لا يُعرَف بالرجالِ، اِعرفِ الحقَ تعرِفْ أهلَه.
وكان أَحْمَدُ بنُ حنبلٍ يَقُولُ: مِنْ ضِيقِ عِلمِ الرَّجُلِ أنْ يُقَلِّدَ فِي اعتقادِه رَجُلًا. اهـ.
(تلبيس إبليس)
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: وليس لأحَدٍ أنْ يَحْتَجَّ بِقَولِ أحدٍ في مسائلِ النِّزَاعِ، وإنما الْحُجّةُ: النصُّ والإجماعُ، ودليلٌ مُسْتَنْبَطٌ مِن ذلك تُقَرَّرُ مُقَدّمَاتُه بالأدلةِ الشرعيةِ لا بأقْوَالِ بعضِ العُلماءِ؛ فإنَّ أقوالَ العُلماءِ يُحْتَجُّ لها بالأدلةِ الشرعيةِ لا يُحْتَجُّ بها على الأدلةِ الشرعيةِ.
وقال: وقد يُرادُ بالشَّرْعِ قولُ أئمةِ الفقهِ: كأبي حنيفةَ والثوريِّ ومالكِ بنِ أنسٍ والأوزاعيِّ والليثِ بنِ سعدٍ والشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقٍ وداودَ وغيرِهم، فهؤلاء أقْوَالِهم يُحْتَجُّ لها بِالكتابِ والسُّنةِ.
وقال: والواجبُ على الناسِ اتِّبَاعُ ما بَعَثَ اللهُ به رسولَه، وأمَّا إذا خالَفَ قَولَ بعضِ الفقهاءِ ووافَقَ قَولَ آخرين لم يكُنْ لأحدٍ أنْ يُلْزِمَه بِقَولِ الْمُخَالِف، ويقولَ: هذا خالَفَ الشَّرعِ.
والناسُ إنما يُسألون يومَ القيامةِ: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؟
قال ابنُ القيمِ: وإنما يُسألُ الناسُ في قبورِهم ويومِ مَعَادِهم عنِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ فيُقالُ له في قَبْرِه: ما كنتَ تَقولُ في هذا الرَّجُلِ الذي بُعِثَ فيكم؟ ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، ولا يُسألُ أحدٌ قَطّ عن إمامٍ ولا شيخٍ ولا مَتْبُوعٍ غيرِه، بل يُسألُ عمّن اتّبَعَه وائتَمَّ به غيرُه، فلينظرْ بِمَاذا يُجِيبُ؟ ولْيُعِدَّ للجوابِ صوابا.
وقال أيضا: قال أبو العاليةِ: كَلِمتانِ يُسألُ عنهما الأوّلون والآخِرون: ماذا كُنتم تَعبدون؟ وماذا أجَبْتُم المرسلين؟ فالسؤال عمّاذا كانوا يَعبدون، هو السؤال عنها نَفْسها [كلمة التوحيدِ]، والسؤالُ عمَّاذا أجابوا الْمُرْسَلِين، سؤالٌ عن الوسيلةِ والطريقِ المؤدِّيةِ إليها: هل سَلَكوها وأجابوا الرُّسُلَ لَمّا دعوهم إليها، فعادَ الأمرُ كلُّه إليها.
وأمْرٌ هذا شأْنُه حَقِيقٌ بأنْ تَنْعَقِدَ عليه الْخَنَاصِرُ، ويُعَضُّ عليه بِالنَّواجِذِ، ويُقْبَضُ فيه على الْجَمْرِ، ولا يُؤخذُ بأطْرَافِ الأنَامِلِ، ولا يُطْلَبُ على فَضْلةٍ، بل يُجْعَلُ هو الْمَطْلَبُ الأعظمُ، وما سواه إنما يُطْلَبُ على الفَضْلةِ. واللهُ الموفِّقُ لا إلهَ غيرُه ولا ربَّ سواه. اهـ. (طريق الهجرتين).
ومع ذلك نقولُ لهم تَنَزّلًا معهم: هل احتفلَ أحدٌ مِن الأئمةِ الأربعةِ – أصحابِ المذاهبِ الْمَتْبُوعةِ – بِيومِ الْمَولِد؟!
يُضافُ إلى ذلك: ما في البِدَعِ الْمُحْدَثَةِ والتي تَعُودُ وتُحْدَثُ بِمناسباتٍ، مثل: الموالِدِ – ما فيه مِن مُضاهاةِ الأعيادِ الشرعيةِ؛ لأنَّ العِيدَ يُطلَقُ في اللغةِ وفي لسانِ الشَّرعِ على ما يَعودُ ويتكررُ.
وليس لأهلِ الإسلامِ أعيادٌ إلاّ ما جاءت به السُّنّةُ، وهي ثلاثةُ أعيادٍ: عيدُ الفِطر مِن رمضان، وعيدُ الأضحى، وعيدُ الأسبوع، وهو يومُ الجمعة؛ لِمَا يحصلُ فيه مِن اجتماع.
قال ابنُ رجبٍ: الأعيادُ تتعلقُ بإكمالِ أركانِ الإسلامِ؛ فالأعيادُ الثلاثةُ الْمُجْتَمَعُ عليها تتعلقُ بإكمالِ الصلاةِ والصيامِ والحجِ. فأمَّا الزكاةُ، فليس لها زَمانٌ مُعَيَّنٌ تُكمَلُ فيه، وأما الشهادتان، فإكْمَالُهما هو الاجتهادُ في الصِّدقِ فيهما، وتحقيقِهما والقيامِ بحقوقِهما. وخواصُ المؤمنين يجتهدون على ذلك كلَّ يومٍ وَوَقتٍ؛ فَلِهذا كانت أيامُهم كلُّها أعيادًا، ولذلك كانت أعيادُهم في الجنةِ مُسْتَمِرّة. اهـ.
ألاَ فلْيَتّقِ اللهَ مَن يُروّجُ للبِدَعِ، ويُسوِّغُ عَمَلَ أهلِ البِدَعِ، وليُوقِّرِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كما أمَرَ اللهُ تبارك وتعالى بِقولِه: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 9].
فإنَّ توقيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سببُ الفلاحِ، كما قال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
فإنَّ مِن توقيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإجلالِه أنْ لا يُعارَضَ قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِقولِ أحدٍ كائنا مَن كان مِن الناس.
كان ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما يقول: أُرَاهم سَيِهْلِكُون أقولُ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويقولُ: نَهَى أبو بكر وعمر. رواه الإمامُ أحمدُ.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: كان عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ إذا بَيَّنَ لهم معنى كلامِ عُمرَ، يُنَازِعونه في ذلك، فيقولُ لهم: فَقَدِّرُوا أنَّ عُمرَ نَهَى عن ذلك. أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحَقُّ أن تَتَّبِعُوه أم عُمرَ؟!
قال الْحَلِيميُّ: فَمَعْلومٌ أنَّ حُقوقَ رَسولِ الله صلى الله عليه أجَلُّ وأعظمُ وأكْرَمُ وألْزَمُ لَنا وأوْجَبُ علينا مِن حُقوقِ السَّاداتِ على مَمَالِيكِهم، والآباءِ على أولادِهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى أنْقَذَنا به مِن النارِ في الآخرةِ، وعَصَم به لَنا أرواحَنا وأبدانَنا وأعراضَنا وأموالَنا وأهلينا وأولادَنا في العاجِلةِ، وهَدَانا به، كما إذا أطَعناه أدّانا إلى جناتِ النعيم، فأيَّةُ نِعمةٍ تُوازِي هذه النِّعمَ؟ وأيَّةُ مِنّةٍ تُدانِي هذه الْمِنَنَ؟
ثم إنه جَلّ ثناؤه ألْزَمَنا طاعَتَه، وتَوَعّدَنا على مَعصيتِه بِالنار، ووَعَدَنا باتِّبَاعِه الجنةَ، فأيُّ رُتبةٍ تُضاهي هذه الرّتبةَ، وأيَّ درجةٍ تُساوي في العملِ هذه الدرجةَ؟
فَحَقٌّ علينا إذًا أن نُحِبَّه ونُجِلَّه ونُعَظِّمَه ونَهِيبَه أكثر مِن إجلال كُلِّ عبدٍ سَيّدَه، وكُلِّ وَلَدٍ وَالِدَه، وبِمِثلِ هذا نَطَقَ الكتابُ، ووَرَدَتْ أوَامِرُ اللهِ جل ثناؤه، قال اللهُ عز وجل: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، فأخْبَرَ أنَّ الفَلاحَ إنما يَكونُ لِمَن جَمَعَ إلى الإيمانِ به تَعْزِيرَه، ولا خلافَ في أنَّ التَّعْزيرَ هاهنا: التعظيمُ، وقال: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 8، 9]، فأبَانَ أنَّ حَقَّ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم في أُمّتِه أن يَكونَ مُعَزَّزًا مُوَقّرا مَهِيبا، ولا يُعامَلُ بالاسْتِرْسَالِ والْمُبَاسَطةِ، كما يُعامِلُ الأكفاءُ بعضَهم بعضا. اهـ.
وقَالَ ابنُ القيِّمِ: كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ لَهُ الأَمْثَالَ، وَلا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الانْقِيَادِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ التَّوَقُّفُ فِي قَبُولِهِ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ عَمَلٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ يُوَافِقَ قَوْلَ فُلانٍ وَفُلانٍ، بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]. اهـ.
وعلى الناسِ عامّةً، وأهلِ العِلْمِ خاصةً: أن يُعظِّموا ما عَظّمَه اللهُ.
ومما يَجب تعظيمُه: نُصوصُ الوحيين، والذَّبُّ عنها.
وتعظيمُ نُصوصِ الوحيين دليلٌ وعلامةٌ على صِدْقِ مَحَبةِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم:
قال القسطلانيُّ: ومِن علاماتِ هذه الْمَحَبّةِ: نَصْرُ دِينِ الإسلامِ بالقولِ والفعلِ، والذَّبُّ عن الشريعةِ المقدّسَةِ، والتَّخَلُّقُ بأخْلاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، في الْجُودِ والإيثارِ، والْحِلْمِ والصبرِ والتواضعِ. اهـ.
ولِكُلِّ دعوى حقيقةٌ:
فصِدقُ مَحَبَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بُرْهانٌ.
قال القاضي عياضٌ رحمه الله: علامةُ مَحبتِه صلى الله عليه وسلم:
اعلم أنَّ مَنْ أحَبَّ شيئا آثَرَه وآثرَ مُوَافقتَه وإلاّ لم يكُنْ صادقا في حُبِّه، وكان مُدّعِيًا. فالصادقُ في حُبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن تَظهرُ علامةُ ذلك عليه.
وأوّلُها: الاقتداءُ به، واستعمالُ سُنّتِه واتّباعُ أقوالِه وأفعالِه، وامتثالُ أوامِرِه، واجتنابُ نواهيه، والتأدّبُ بآدابِه في عُسرِه ويُسرِه، ومَنْشَطِه ومَكْرَهه..
2- وإيثارُ ما شَرعه وحضَّ عليه على هَوى نفسِه ومُوافقةِ شهوتِه.
3- ومِن علاماتِ محبةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: كَثْرةُ ذِكْرِه له، فمن أحَبَّ شيئا أكثرَ مِن ذِكْرِه.
4- ومنها: كثرةُ شوقِه إلى لِقائه. فكُلُّ حَبيبٍ يُحبُّ لِقاءَ حَبيبِه…
5- ومِن علاماتِه مع كثرةِ ذِكرِه: تعظيمُه له وتوقيرُه عند ذِكرِه، وإظهارُ الخشوعِ والانكسارِ مع سماعِ اسمه.
6- ومنها: مَحبتُه لِمَن أحَبَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومَن هو بِسببِهِ مِن آلِ بيتِه وصحابتِه مِن المهاجرينَ والأنصارِ.وعداوةُ مَن عاداهم، وبُغْضُ مَن أبغضَهم وسَبَّهم. فمَنْ أحبَّ شيئا أحبَّ مَن يُحِبُّ.
7- ومنها: بُغضُ مَن أبغضَ اللهَ ورسولَه، ومعاداةُ مَن عاداه، ومُجانبَةُ مَن خالَفَ سنتَه، وابتدعَ في دينِه، واستثقالُه كلَّ أمرٍ يُخالفُ شريعتَه. (باختصار مِن كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”).