لماذا أدخل أصبعه في جحر العقرب ؟!
هذا أحد العلماء ، وهو كَهْمَس بن الحسن الحنفي البصري .
قال عنه الذهبي : من كبار الثقات
وكان رحمه الله بـارًّا بأمه ، فلما ماتت حج ، وأقام بمكة حتى مات .
فماذا بلغ من بِـرِّه ؟
قيل : إنه أراد قتل عقرب فدخلت في جحر ، فأدخل أصابعه خلفها فضربته ، فقيل له . قال : خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي تلدغها !
تلقّى لسعة العقرب بدلاً من أمـه !
إن بر الوالدين من الأعمال الصالحة التي يُتقرّب بها إلى الله كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار ، والقصة في الصحيحين ، وفيها :
فقال واحد منهم : اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبنِ غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنَّا لشربتهما – أي يضعفا – فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء .
واسْتَسْقَتْ أمُّ مِسْعر بن كِدَام ماء منه في بعض الليل ، فذهب فجاء بِقِربة ماء ، فوجدها قد غلبها النوم ، فَثَبَتَ بالشَّربة على يديه حتى أصبح . رواه أبو نُعيم في ” الحلية “
وإن بِرّ الوالدين مما يبلغ معه العبد المنزلة العالية عند الله
بل يبلغ منزلة عند الله بحيث لو أقسَم على الله لأبَرّ الله قَسَمَه
كما في قصة أويس القرني ، حيث قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم :
يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبَرَأ منه إلا موضعَ درهم له والدةٌ هو بـها بـرٌّ ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل . رواه مسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعمر رضي الله عنه .
وفي رواية لمسلم : إن خير التابعين رجل يقال لـه أويس ، وله والِدة ، وكان به بياض ؛ فمُرُوه فليستغفر لكم .
وإن بـرّ الأمهات يبلغ بصاحبه الدرجات العُلى
روى البخاري من حديث أنس بن مالك أن أمّ حارِثة بن سُراَقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ألاَ تُحدثني عن حارثة ؟ – وكان قُتِل يوم بدر أصابه سَهم – فإن كان في الجنة صبرتُ ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء ، قال : يا أم حارثة إنـها جِنَان في الجنة ، وإن ابنك أصاب الفـردوس الأعلى .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا أدور في الجنة سمعت صوت قارئ فقلت من هذا ؟ فقالوا : حارثة بن النعمان . قال : كذلكم البِرّ . كَذَلكم البِرّ . قال : وكان أبـرَّ الناس بأمِّـه . رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين . وهو كما قال .
فما هو البِر ؟
سُئل الحسن ما برّ الوالدين ؟
قال : أن تبذل لهما ما ملكت ، وأن تطيعهما في ما أمراك به إلا أن تكون معصية . رواه عبد الرزاق في المصنف .
البِرّ : أن تأنَس بِوَالديك ، وتبشّ لهما ، وتُدخِل السرور عليهما ، وتدعو لهما .
قال شيخنا العثيمين رحمه الله : البِرّ : إيصال الخير بقدر ما تستطيع ، وكفّ الشر .
إيصال الخير بالمال ، إيصال الخير بالخدمة ، إيصال الخير بإدخال السرور عليهما ؛ مِن طلاقة الوجه ، وحُسن المقال والفعال ، وبكل ما فيه راحتهما …
وإذا تأملنا في أحوال الناس اليوم، وجنا كثيرا منهم لا يبر بوالديه ، بل هو عاق ، تجده يُحسن إلي أصحابه ، ولا يَملّ الجلوس معهم ، لكن لو يجلس إلى أبيه أو أمه ساعة من نهار ، لوجدته متململاً ، كأنما هو على الجمر ، فهذا ليس ببارّ ، بل البارّ مَن ينشرح صدره لأمه وأبيه ، ويخدمهما على أهداب عينيه ، ويحرص غاية الحرص على رضاهما بكل ما يستطيع .
وكما قالت العامة : ” البِرّ أسلاف ” ؛ فإن البر مع كونه يحصل به البار على ثواب عظيم في الآخرة ، فإنه يجازى به في الدنيا .
فالبر والعقوق كما يقول العوام: ” أسلاف “، أقْرِِض ، تَسْتَوفِ ، إن قَدَّمْتَ البِرّ ، بَرّك أولادك ، وإن قَدَّمْتَ العقوق ، عَقّك أولادك . اهـ .
مِن أجل هذه الفضائل المجتمعة في بِرّ الوالدين حَرِص السلف على البِرّ بآبائهم
فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يبـرّ ابن صاحب أبيه بعد موت أبيه .
فعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروّح عليه إذا مـلّ ركوب الراحلة وعمامةٌ يشد بـها رأسه ، فبينا هو يوما على ذلك الحمار إذ مرّ به أعرابي ، فقال : ألست ابن فلان بن فلان قال : بلى فأعطاه الحمار وقال : اركب هذا ،والعمامة أُشدد بـها رأسك ، فقال له بعض أصحابه : غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروّح عليه ، وعمامةً كنت تشدُّ بـها رأسك ، فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولِّي ، وإن أباه كان صديقا لعمر رضي الله عنه . رواه مسلم .
وكان أبو هريرة رضي الله عنه من أبـرّ الناس بأمّه .
وقد حرّم الله أقل ما يكون من العقوق ، وهو كلمة ” أف ” الموحية بالتّضجّر ، المشعرة بالتذمّر
قال سبحانه وتعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا )
ثم أمر ببرهما والإحسان إليهما فقال : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )
قال مجاهد في قوله تعالى : ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ ) قال : إذا بلغا من الكبر ما كان يليان منك في الصغر فلا تقل لهما أف . رواه ابن أبي شيبة .
وقال : حين ترى الأذى وتميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا ولا تؤذهما .
وقال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق . اهـ .
وأمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا مشركين
قال تبارك وتعالى : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا )
قال القرطبي في التفسير : نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال : أنزلت فيّ أربعُ آيات فذكر قصة ، فقالت أم سعد : أليس قد أمر الله بالبر ؟ والله لا أطعم طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر . قال فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها .
وروي عن سعد أنه قال : كنت بارّاً بأمي فأسْلَمْتُ ، فقالت : لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ، ويقال يا قاتل أمه ! وبَقِيَتْ يوما ويوما ، فقلت : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفساً ما تركت ديني هذا فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي ، فلما رأت ذلك أكلت . اهـ .
وقصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في صحيح مسلم .
قال رضي الله عنه : حَلَفَتْ أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يَكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زَعَمْت أن الله وصاك بوالديك ، وأنا أمك ، وأنا آمرك بهذا. قال : مكثت ثلاثا حتى غُشي عليها من الجهد ، فقام ابن لها يقال له عمارة ، فسقاها ، فَجَعَلَتْ تدعو على سعد ، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) ، (وإن جاهداك على أن تشرك بي) وفيها : (وصاحبهما في الدنيا معروفا) .
فلا طاعة للوالدين في معصية الله .
قال الحسن : إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها . علّقه البخاري .
وقال سبحانه وبحمده : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا )
فتأمل الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وإن كانا على الشرك بل وإن كانا يدعوان ابنهما إلى الشّرك
فالإحسان مطلوب وإن كانا على الشرك .
قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصِل أمي ؟ قال : نعم ، صِلي أمك . رواه البخاري ومسلم .
ومن هنا ينبغي التنبّه إلى أمر يقع فيه بعض الصالحين أو الصالحات
وهو الغلظة والجفاء في حق الوالدين أو أحدهما إذا كان لديه منكرات أو مُخالفات .
وحُجّتهم في ذلك أنه يُنكر المنكر ، وأنه يُغلظ عليه لأجل ما وقع في من مُنكر
فأقول :
إيهما أعظم المنكرات والمخالفات والمعاصي أو الشرك بالله عز وجل ؟
ونحن أُمِرنا أن نُحسن إلى والدينا وإن كان منهما ما كان
ماذا لو تالفت قلب والدك ببرِّه والإحسان إليه ؟
ماذا لو تالّفت قلبه بهدية ؟
ماذا لو تألفت قلب والدتك بعمرة ؟
أو بهدية
أو بزيارة
أليس أولى ؟
أليس أسرع الطرق إلى القلوب هو الإحسان ؟
هل أنت تُريد أن تنتصر لنفسك ؟
أم أنك تُريد الهداية لهما وزوال المنكر ؟
إن أولى الناس بحسن الصحبة وطيب المعاشرة هي الأم لما لها من حق عظيم ، ثم الأب
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
قال : أمك .
قال : ثم من ؟
قال : ثم أمك .
قال : ثم من ؟
قال : ثم أمك ؟
قال : ثم من ؟
قال : ثم أبوك .
كما في الصحيحين .
ومن أجل ذلك بكى الشعراء أمهاتهم
بكى الشعراء آبائهم لِمَا كانوا يرجون من بِرِّهم والإحسانِ إليهم ، ومن أجمل من رثى وبكى والديه الشاعر عمر بـهاء الدين الأميري ، وما قالَه في والدَيْه :
أبتي وأمي موئلي ومَنـاري= بكما اعتزازي في الورى وفَخَاري
يا شعلتين منيرتين أضـاءتا = قلبي الفَتِيَّ بأبـهجِ الأنــوارِ
يا مقلتينِ من الكرى قد فَرّتا = سهراً عليّ مخافـةَ الأكــدار
ما كنت أحسَبُ قبل تـركِ = حِماكُما أني أحبُّكما بذا المقـدار
وقال في شأن أمِّه :
أنتِ التي داريتِني فَنَمَوتُ في = أحضان عطفِكِ خاليَ الأكدار
أنتِ التي أنشدتِني لحنَ الوفا = وسهرتِ من أجلي إلى الأسحار
أنتِ التي قبّلتِني وبَسَمتِ لي = وضممتِني وأنا الصغير العاري
أنت التي لقَّنتِني آي الهدى = والحبَّ والإحسانِ واسمَ الباري
أرشدتِنِي ونصحتِني ومنعتِني = وعدلتِ بي عن منهج الأشرار
ولما ماتتْ أمُّه بكاها ورثاها ، فلامُه بعضُ أصحابه ، فقال :
يا صحبُ لا تعذلوني في البكاء وقدْ = فقدتُ أمي ، فقلبي ليس من حجرِ
قلبي قـد انتزعت منه حشاشتُـه = في فجأة ، والردى لونٌ من القدرِ
ودّعتُها قبل شهـر في ارتقابِ غدِ = اللقيا وعِشنا معاً بالروحِ في سفري
وعدتُ في لهفة حرّى لأصحبَهـا = فما لها لا تُناديني : هلا عُمـري
ولا تمـدُّ يـداً نحـوي تُعانِقني = ولا تُساءل عما جـدَّ من خَبري
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم