محاضرة قصيرة بعنوان … كيف نَخْتَلِف ونأتَلِف ؟
المحاضرة مرئية هنا :
أمَرَ اللهُ تبارك وتعالى بالاجتماعِ ، ونَهَى عن التفرّق والاختلاف ، وأخبَر أن التفرّقَ هو سَبيلُ غيرِ المؤمنين ، فقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) ثم قال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وقال جلّ ذِكرُه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) .
والاجتماعُ وعدمُ التفرّقِ هو دِينُ الأنبياءِ ، قال سبحانه وتعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْجَمَاعَةِ والائتلافِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفُرْقَةِ وَالاخْتِلافِ . وَقَالَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) ، وَقَال : (إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) ، وَقَال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) . اهـ .
واجْتِماعُ الكلمةِ وتآلُفُ القُلوبِ نِعمةٌ عَظيمةٌ ، قال اللهَ تبارك وتعالى مُمْتَنّا على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) .
وحَرِص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على جَمْعِ الكلمة ، ونَبْذِ التفرّقِ والاختلافِ حتى نَهاهُم عنِ التفرّق بالأبدان .
قَال أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه : كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ ، فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ ، إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ . فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلا إِلاّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، حَتَّى يُقَالُ : لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ . رواه الإمام أحمدُ وأبو داود ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي رواية : حَتَّى إِنَّكَ لَتَقُولُ : لَوْ بَسَطْتُ عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَعَمَّهُمْ .
وهذا دليلٌ على أن التفرّقَ إنما هو مِن الشيطان .
وحَرِص النبي صلى الله عليه وسلم على الاجتماع والتآلف ، فلمّا وَقَع الخلافُ بين بعضِ الصحابةِ ذَهَب النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِح بينهم حتى تأخّرَ عن الصلاة .
ففي حديثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه ، قال : بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ ، فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتِ الصَّلاَةُ ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فقال : يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ ؟ قال : نَعَمْ إِنْ شِئْتَ ، فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحْ بَيْنَهُمْ .
ومِن أجلِ جَمْع الكلمة : أمَر النبيُ صلى الله عليه وسلم بالصلاةِ خَلْفَ مَن يُؤخِّرون الصلاةَ ؛ جَمْعًا للكلمةِ ، فقال : إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا ، وَيَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَصَلُّوا الصَّلاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً . رواه مسلم .
فأمَرَهم بإعادةِ الصلاةِ معهم في وقتِ النّهيِّ ، خاصةً صلاةَ العصرِ ، وأمَرَهم بإعادة الصلاةِ مع أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن أن تُصلّى الصلاةُ الواحدةُ في اليوم مرّتين ؛ إلاّ أنه أمَرَهُم بِذلك دَرءًا للمَفْسَدة ، وتحقيقا للمصلحة ، وجَمْعًا للكَلِمة .
وتَرَك النبيُ صلى الله عليه وسلم بعضَ ما يُحبُّ جَمْعًا للكلمة ، وخوفا مِن تفريقِ الأمّة
قال الإمامُ البخاريُّ : بَابُ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ ، فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ .
ثم أوْرَد حديثَ عائشةَ رضي الله عنها ، وفيه : يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ ، لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ : بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ .
وفي رواية في الصحيحين : لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ .
وتَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَتْلَ المنافقين حتى لا تتنافَرَ القلوبُ .
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ : مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : لُزُومُ الْجَمَاعَةِ ، وَتَرْكُ قِتَالِ الأئِمَّةِ، وَتَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ .
ثم قال : وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : إقْرَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَئِمَّةِ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ ؛ لِمَا لَهُمْ مِنْ أَعْوَانٍ ؛ فَإِزَالَةُ مُنْكَرِهِ بِنَوْعٍ مِنْ عِقَابِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ إزَالَةُ مَعْرُوفٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِغَضَبِ قَوْمِهِ وَحَمِيَّتِهِمْ ؛ وَبِنُفُورِ النَّاسِ إذَا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ . اهـ .
ومِن هُنا : قَرّر أهلُ السنةِ : الصلاةَ والجهادَ مع كلِّ بَرٍّ وفاجر .
قال الإمام الطحاويُّ في ” عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعة ” : وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة ، وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ . اهـ .
وهذا في حقّ مَن لم يَخرُجْ عن دائرةِ الإسلامِ .
قال ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية :
اعْلَمْ ، رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَة وَلا فِسْقًا بِاتِّفَاقِ الأَئِمَّة ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إِمَامِه ، وَلا أَنْ يَمْتَحِنَه ، فَيَقُولُ : مَاذَا تَعْتَقِدُ ؟! بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَسْتُورِ الْحَالِ ، وَلَوْ صلى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ ، أَوْ فَاسِقٍ ظَاهِرِ الْفِسْقِ ، وَهُوَ الإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لا يُمْكِنُهُ الصَّلاةُ إِلاّ خَلْفَه ، كَإِمَامِ الْجُمْعَة وَالْعِيدَيْنِ ، وَالإِمَامِ فِي صَلاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ – : فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَه عِنْدَ عَامَّة السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
وَمَنْ تَرَكَ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الإِمَامِ الْفَاجِرِ ؛ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلا يُعِيدُهَا ، فَإِنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمْعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الأَئِمَّة الْفُجَّارِ وَلا يُعِيدُونَ . اهـ .
وقَرّر أهلُ العِلْم : الصلاةَ خَلْف صاحِبِ البِدْعَةِ الصُّغرَى
قال ابنُ المنذرِ : والشافعيُّ يُجيز الصلاةَ خَلْفَ مَن أقام الصلاةَ ، وإن كان غيرَ محمودِ الحالِ في دِينِهِ .
قال : كلُّ مَن أخْرجَتْه بِدعتُه إلى الكُفر لم تَجُزِ الصلاةُ خَلْفَه ، ومَن لم يكُنْ كذلك فالصلاةُ خَلْفَه جائزةٌ ، ولا نُحِبُّ تقديمَ مَن هذه صفتُهُ . (الإشراف على مذاهب العلماء)
وقال ابنُ قُدَامَةَ : وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ [يعني : الإمام] وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَمْنَعُ الائْتِمَامَ بِهِ ؛ فَصَلاةُ الْمَأْمُومِ صَحِيحَةٌ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لأَنَّ الأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ السَّلامَةُ .
وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَشُكُّ فِي إسْلامِهِ ، فَصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ ؛ لأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لا يَتَقَدَّمُ لِلإِمَامَةِ إلاّ مُسْلِمٌ . اهـ .
وقال الإمامُ البخاريُّ : بَابُ إِمَامَةِ المَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ . وَقَال الحَسَنُ : صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ .
ثم رَوى الإمامُ البخاريُّ بإسنادِهِ إلى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – وَهُوَ مَحْصُورٌ – فقال : إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ ، وَنَتَحَرَّجُ؟ فقال: الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ .
ولَمّا قِيلَ لابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْخَوَارِجِ وَالْخَشَبِيَّةِ : أَتُصَلِّي مَعَ هَؤُلاءِ وَمَعَ هَؤُلاءِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا ؟ قال : مَن قالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ أَجَبْتُهُ ، وَمَن قال : حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ أَجَبْتُهُ ، وَمَن قال : حَيَّ عَلَى قَتْلِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ وَأَخْذِ مَالِهِ قُلْتُ : لا . رواه أبو نُعيمٍ في ” حِلْيَةِ الأولياء ” والبيهقيُّ في ” السّننِ الكبرى : ومِن طريقِهِ : ابنُ عساكِرَ في ” تاريخِ دمشقَ ” .
قال جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ : سألتُ ميمونَ بنَ مِهرَانَ عَن الصلاةِ خَلْفَ مَن يُذكَرُ أنه مِن الخوارِج ؟ فقال : إنك لا تُصلّي لَهُ ، إنما تُصلِّي لله ، قَدْ كُنّا نُصلّي خَلْف الْحَجّاجِ وَهُوَ حَرُورِيٌّ أزْرَقِيّ . فنَظَرتُ إليه ، فقال : أتدري مَا الْحَرُورِيُّ الأزْرَقيُّ ؟ هُوَ الَّذِي إذا خَالَفتَ آيةً سَمّاك كَافِرا ، واسْتَحلّ دَمَك ، وكان الحجاجُ كذلك . رواه سعيدُ بنُ منصور – كما ذَكَر ابنُ رَجَب – وابنُ أبي شيبةَ مُختَصَرا .
وكذلك فَعَلَ الأئمةُ ، فإنهم يَفعلون ما تَأتلِفُ عليه القلوبُ
قال شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ : وَمِنْ الْمَأْثُورِ أَنَّ الرَّشِيدَ احْتَجَمَ فَاسْتَفْتَى مَالِكًا ، فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ لا وُضُوءَ عَلَيْهِ ، فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، فَقِيلَ لأَبِي يُوسُفَ: أَتُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَال : سُبْحَانَ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ خَلْفَ الأَئِمَّةِ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . اهـ .
وقال أيضا : اتّفقَ سَلَفُ الأمةِ مِن الصحابةِ والتابعينَ على صلاةِ بعضِهم خَلْفَ بعضٍ ، مع تَنازُعِهِم في بعضِ فروعِ الفِقه ، وفي بعضِ واجبات الصلاةِ ومُبْطِلاتِها .
ومَنْ نَهَى بعضَ الأُمةِ عن الصلاة خَلْفَ بعضٍ لأجْل ما يَتنازَعون فيه مِن مَواردِ الاجتهاد ؛ فهو مِن جِنس أهلِ البِدعِ والضّلال . (جامع المسائل)
وَذَكَر لي بعضُ الأئمة في بعض دُولِ أوربا – والْمَشْيَخةُ هناك تُلزِمُهم بِبعض البِدَعِ ، مثل : الْتِزَامِ الدعاءِ الجماعيِّ بعد الفرائضِ ، وقراءةِ الفاتحةِ بعد كلِّ صلاةٍ قراءةً جماعيةً .. ذَكَروا لي أنهم سألوا الشيخَ العلاّمةَ صالحَ الفوزان حفظه الله عن إمامةِ المسلمين في تلك المساجدِ – وهو السبيلُ إلى دعوةِ الناس والتأثيرِ عليهم – فوَجّههم الشيخُ حفظه الله بأن يَكونُوا أئمةً مُرَاعاةً للمَصلحةِ الكُبرى ، ولو ارتُكِبَتْ هذه البِدَع .
ومما يُنبّه عليه في هذا المقامِ : أنَّ البِدعَ ليست على درجةٍ واحدة ، فالعلماءُ يُقسّمون البِدعَ إلى قسمين – كما ذَكَر الإمامُ الذهبيُّ في ” ميزان الاعتدال ” – : بِدعٍ صُغرى ، وبِدعٍ كبرى …
والعلماءُ يَحتَمِلون ما يَقع مِن أصحابِ البِدعِ الصغرى ؛ تحقيقا للمصلحة
فكثيرٌ مِن الرواةِ ذُكِر فيهم بِدعٌ صُغرى ، كَمَن قيل : فيه تشيّعٌ .. فيه إرجاءٌ .. قَدَرِي ..
ولذلك قال الإمام الذهبيُّ في ترجمةِ محمدِ بنِ نَصْرٍ المرْوَزيِّ : ولو أنَّا كلّما أخطأَ إمامٌ في اجتهاده في آحادِ المسائل خَطأً مَغفورًا له ، قُمْنَا عليه وبدَّعْنَاه وهَجَرْنَاه، لَمَا سَلِمَ معنا لا ابنُ نَصر ولا ابنُ مَنْدَه، ولا مَن هو أكبرُ منهما ، والله هو هادي الْخَلْقِ إلى الْحَقّ ، وهو أرحمُ الراحمين ، فنعوذُ بالله مِن الهوى والفظاظةِ . اهـ .
وذَكَر شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ أهلَ البِدعِ الصّغْرَى ، فقال : وكذلك استُحمِدُوا بما رَدّوه على الجهميةِ والمعتزلةِ والرافضةِ والقَدَريّةِ مِن أنواعِ المقالاتِ التي يُخالِفون فيها أهلَ السنةِ والجماعةِ .
فَحَسَناتهم نَوعَان :
إمّا مُوافَقةُ أهلِ السنةِ والحديثِ .
وإمّا الردُّ على مَن خالَفَ السنةَ والحديثَ بِبَيانِ تناقُضِ حُجَجِهم . اهـ .
وسأذكر زيادةَ أمْثِلةٍ لاحِقًا ..
ومما يُغفِلُه العلماءُ فيَطوُونه ولا يَرْوُونه : زلاّتِ أهلِ الفضلِ والعِلم
قال ابنُ أبي حاتمٍ : سمعت أَبي يقول : ذَكَرتُ لأحمدَ بنِ حنبلٍ مَن شَرِب النّبِيذَ مِن مُحَدِّثي الكوفةِ ، وسَمّيتُ له عَددًا منهم ، فقال : هذه زَلاّتٌ لهم ، ولا تَسْقُطُ بِزَلاّتِهم عَدَالَتُهم .
وقد سُئلَ إمامُ أهلِ السنةِ الإمامُ أحمدُ رحمه الله عن إمامين مِن أئمة زمانه ، وهُمَا مِن مشايخِه ، فقيل له: إِذَا اخْتَلَفَ وَكِيْعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ [يعني : ابنَ مهدي] ، بِقَوْلِ مَنْ نَأْخُذ ؟
فَقَالَ: نُوَافِقُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَكْثَرَ … وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَسْلَمُ مِنْهُ السَّلَفُ ، وَيَجتَنِبُ شُرْبَ الْمُسْكِرِ ، وَكَانَ لاَ يَرَى أَنْ يُزْرَعَ فِي أَرْضِ الفُرَاتِ . (المعرفة والتاريخ ، للفَسَوي، وتهذيب الكمال ، للمِزّي ، وسير أعلام النبلاء ، للذهبي)
قال الذهبي : الظَّاهِرُ أَنَّ وَكِيْعا فِيْهِ تَشَيُّعٌ يَسِيْرٌ لاَ يَضُرُّ – إِنْ شَاءَ اللهُ – فَإِنَّهُ كُوْفِيٌّ فِي الجُمْلَةِ ، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ ” فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ ” ، سَمِعْنَاهُ قَدَّمَ فِيْهِ بَابَ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ عَلَى مَنَاقِبِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – . (سير أعلام النبلاء ، للذهبي)
وَلَمَّا ذُكِرَ خَلَفُ البزارُّ عِنْدَ الإمامِ أحْمَدَ ، فقيلَ : يا أبا عبدِ اللهِ إنَّهُ يَشرَبُ [يعني يشرب النّبيذَ] فقَالَ : قَدِ انتهى إليْنا عِلْمُ هَذَا عَنْهُ ، وَلَكِنَّ هُوَ واللهِ عِنْدَنا الثقةُ الأمينُ ، شَرِبَ أوْ لَمْ يَشرَبْ .
(تاريخُ بغدادَ ، وطبقاتُ الحنابلةِ ، وتهذيبُ الكمالِ)
وكم نحن بِحاجةٍ إلى هذا الأدبِ الرفيع ، وسَعَةِ الأفُقِ في مسائل الخلاف
قَالَ يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ : مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ ، نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا ، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا مُوْسَى ، أَلاَ يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَاناً وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ ؟!
(تاريخ دمشق ، لابن عساكر ، وسير أعلام النبلاء ، للذهبي)
وجاء رَجلٌ إلى الإمام أحمدَ بنِ حنبلٍ فقال له : نَكتُب عن محمدِ بنِ منصورٍ الطوسيِّ ؟ فقال : إذا لم تكتب عن محمدِ بنِ منصورٍ ، فَعَمّن يَكون ذلك ؟ مِرَارًا ، فقال له الرّجُلُ : إنه يَتَكَلّم فيك ! فقال أحمد : رَجُلٌ صالِح ابْتُلِي فِينا ، فمَا نَعمَل ؟ (طبقات الحنابلة)
وكم نحن بِحاجةٍ إلى أدَبِ الإنصافِ ، وذِكْرِ الحسناتِ
قال الإمامُ مالكٌ في ” الموطّأِ ” : قال ابنُ القاسِمِ : مِن الرّجالِ رِجَالٌ لا تُذكَر عيوبُهم .
وقال أبو جعفرٍ النّفَيْليُّ : خَلَفُ بنِ هشامٍ [يعني : البَزّارَ] كان مِن أصحاب السّنة لَولا بَلِيةٌ فيه : شُرْبُ النّبيذ . (طبقات الحنابلة)
قال ابن القيم : وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الإِسْلامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ مِنْ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ لاجْتِهَادِهِ ؛ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا ، وَلا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ . (إعلام الموقّعين)
وقال الذهبي : الكبيرُ مِن أئمة العِلم إذا كَثُرَ صَوابُه وعُلِمَ تَحَرِّيهِ للحقِّ ، واتَّسَعَ عِلْمُه ، وظَهرَ ذكاؤه ، وعُرِف صلاحُه ووَرَعُه واتِّباعُه ؛ يُغفرْ له زَلَلُه ، ولا نُضَلِّلُه ونَطْرحُه ونَنْسَى مَحَاسِنَه . نعم ، ولا نَقْتَدِي به في بِدعَتِه وخَطئه ، ونَرْجُو له التوبةَ مِن ذلك . (سير أعلام النبلاء)
وقد يُشدِّدُ بعضُ الناس على مَن وَقَع في البِدَعِ الصغرى التي لا تُخرِجُ مِن الْمِلّة ، استنادا على ما جاء عن السلف وما جاء عن بعضِ العلماء .
فأقول : سَبَق ذِكْرُ قولِ شيخِ الإسلام ابنِ تيميةَ في ذِكْرِ حسناتِ بعضِ أهلِ البِدع الصغرى .
والأئمة احتَمَلُوا ممن له قَدَمُ سَبْقٍ وصِدْقٍ في الإسلام
قال سعيدُ بنُ المسيبِ : ليس مِن شريفٍ ولا عالِمٍ ولا ذي فضلٍ إلاَّ وفيه عَيْبٌ ، ولكنَّ مِن الناسِ مَن لا ينبغي أن تُذكَرَ عيوبُه ؛ مَن كان فَضْلُه أكثرَ مِن نَقصِه وُهِبَ نَقْصُه لِفَضْلِه .
وقال الشعبيُّ : كانت العربُ تقول : إذا كانت مَحاسِنُ الرّجُلِ تَغلبُ مَساويه ؛ فذلكم الرجلُ الكاملُ ، وإذا كانا مُتقارِبَين ؛ فذلكم المتماسِك ، وإذا كانت المساوئُ أكثرَ مِن المحاسِن ؛ فذلكم الْمُتَهَتّك .
وقال ابنُ المبارك : إِذَا غَلَبَتْ مَحَاسِنُ الرَّجُلِ عَلَى مَسَاوِئِهِ ، لَمْ تُذْكَرِ المَسَاوِئُ ، وَإِذَا غَلَبَتِ المَسَاوِئُ على الْمَحَاسِنِ ، لَمْ تُذْكَرِ الْمَحَاسِنُ . (سيرُ أعلام النبلاء، للذهبي)
وقد رَحل الإمامان : أحمدُ ابنُ حنبلٍ ويحيى بنُ مَعينٍ إلى صنعاءَ ؛ لأخْذِ أحاديثَ عن عبدِ الرزاق الصنعانيَّ ، وعبدُ الرزاق فيه تشيّعٌ !
ولذلك لَمّا بَلَغ يحيى بنَ معينٍ أنَّ الإمام أحمدَ بنَ حنبلٍ يتكلّمُ في عُبيدِ الله بنِ موسى بسببِ التشيعِ ، قال يحيى : واللهِ الذي لا إله إلاّ هو عالِمِ الغيبِ والشهادةِ ، لقد سَمعتُ مِن عبدِ الرزاق في هذا المعنى أكثرَ مما يقولُ عُبيدُ الله بنُ موسى ! (تاريخُ دمشق)
والإمامُ قتادةُ بنُ دِعامةَ السّدوسِيُّ قال عنه الإمامُ الذهبيُّ : حافِظُ العَصرِ قدوةُ المفسِّرين والمحدِّثين .
قال ابنُ شَوذبٍ : ما كان قَتادةُ يَرضى حتى يَصيحَ به صِياحا – يعني القَدَرَ – قال ابنُ أبي عروبةَ والدَّستوائيُّ قال قتادةُ : كُلُّ شيءٍ بِقَدَرٍ إلاَّ المعاصي . (المعرفة والتاريخ ، للفَسَوي)
ولا يُفهمُ مِن هذه النّقُولاتِ الإزراءُ بأئمةِ الإسلامِ، بل هُم أئمةٌ لهم حسناتُهم وعظيمُ أثَرَهِم في الأمةِ، ولولا أن أئمةَ الإسلامِ رَضُوا هذا وأوْرَدُوه في كُتبِهم لَمَا أوردتُهُ ولا أشرْتُ إليه .
ولكني أردتُ بيانَ حالِ السلفِ مع أهلِ البِدع التي لم تُخرِجْهم مِنَ الإسلامِ .
ولا يُفهَمُ مِن ذلك : أنني أُهوّنُ مِن شأن البِدَع .
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ : طريقُ السُّنة عِلْمٌ وعَدَل وهُدى ؛ وفي البِدعةِ جَهْلٌ وظُلْم ، وفيها اتباعُ الظنِّ وما تَهْوى الأنفُسُ . اهـ .
فيا إخواني : دَعُوا التفرّقَ والاختلافَ
ولنتعلمْ : كيف نختَلِفُ ونأتَلِفُ ؟
ولْنتنازَلْ في مُقابِلِ جَمْعِ الكلمةِ وَوِحدَةِ الصفِّ
ومِن هذا الباب : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ بِتَرْك بعض أعمال الخير إذا كانت تُفرّق الصف
فقال عليه الصلاة والسلام : اقْرَءُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ . رواه البخاري ومسلم .
قال الإمام النووي : وَالأَمْرُ بِالْقِيَامِ عِنْدَ الاخْتِلافِ فِي الْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى اخْتِلافٍ لا يَجُوزُ أو اختلاف يُوقِعُ فِيمَا لا يَجُوزُ ؛ كَاخْتِلافٍ فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ ، أَوْ فِي مَعْنًى مِنْهُ لا يُسَوَّغُ فِيهِ الاجْتِهَادُ ، أَوِ اخْتِلافٍ يُوقِعُ فِي شَكٍّ أو شُبهةٍ أو فِتنةٍ وخُصُومةٍ أو شِجَارٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . اهـ .
وقال ابن حَجَرٍ : قَوْلُهُ : ” فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ ” أَيْ فِي فَهْمِ مَعَانِيهِ ، ” فَقُومُوا عَنْهُ ” ، أَيْ : تَفَرَّقُوا لِئَلاّ يَتَمَادَى بِكُمْ الاخْتِلافُ إِلَى الشَّرِّ . اهـ .
ومِن هذا الباب : تَرْكُ بعض السُّنَن لئلا تتنافَرَ القلوبُ .
قال شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله : وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمُسْتَحَبَّاتِ ؛ لأَنَّ مَصْلَحَةَ التَّأْلِيفِ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْلِ هَذَا ، كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْبَيْتِ لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ ، وَكَمَا أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى خَلْفَهُ مُتِمًّا ، وَقَالَ : الْخِلافُ شَرٌّ . اهـ .
وكان الصحابةُ يَختَلِفون ، ولكنهم مع ذلك يأتَلِفون ، حتى لو وَقَعَ بينهم الاقتتالُ ، ولذلك قال عليٌّ رضي الله عنه : أني لأرجُو أنْ أكونَ أنا وطلحةُ والزبيرُ ممن قالَ اللهُ عز وجل فيهم : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) رواه ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي .
وأنْكَر ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه على عثمانَ رضي الله عنه إتمامَ الصلاةِ في مكةَ ، ولكنه صلّى خَلْفَه مُتمّا ، فَقِيلَ لَهُ : عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتَ أَرْبَعًا ؟ قال : الْخِلافُ شَرٌّ . رواه أبو داود .
اخْتَلف ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه مع عثمانَ رضي الله عنه ، لكنه لم يُنابِذْه ، ولم يشقَّ الصفَّ ، ولم يُفرّقْ كلمةَ المسلمين .
وأوصيكم بِوصيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمعاذٍ وأبي موسى رضي الله عنهما حيث قال : يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا . رواه البخاري ومسلم .
ولنتناصَحْ ولا نتفاضحْ ، ولنتَخَلَّ عن حُظوظِ أنفسِنَا
فالدِّينُ النصيحة ” فلا نَفْهَمْها : العيبُ والفضيحةُ !
قال يحيى بنُ معينٍ : أخطأ عَفَّانُ في نَيِّفٍ وعشرين حَديثا ما أعلمتُ بها أحدًا ، وأعلَمتُه فيما بيني وبينه ، ولقد طَلَبَ إليّ خَلفُ بنُ سالمٍ فقال : قل لي أيُّ شيءٍ هَيَ ؟ فما قلتُ له . وما رأيتُ على رَجُل قطُّ خطأً إلاّ سَتَرتُه ، وأحببتُ أن أزيِّنَ أمْرَه ، وما اسْتَقْبَلْتُ رَجُلاً فِي وَجْهه بأمْرٍ يَكرهُه ، ولكنْ أُبَيِّنُ له خَطأه فيمَا بيني وبَينه .
(تاريخُ بغداد ، طبقاتُ الحنابلة ، تاريخُ دمشقَ ، تهذيبُ الكمال ، سِيَرُ أعلام النبلاء)
قال ابنُ رَجبٍ رحمه الله :
الناصِحُ ليس له غَرَضٌ في إشاعةِ عُيوبِ مَن يَنصَحُ له ، وإنما غَرَضُهُ إزالةُ الْمَفْسَدةِ التي وقَعَ فيها .
وأما إشاعةُ وإظهارُ العيوبِ فهو مِمَّا حَرَّمَهُ الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم .
(الفرقُ بين النصيحَةِ والتعييرِ)
وبعضُ مَن يَقَعُون في أهلِ العِلْمِ يَظنّونَ أنهم على الجادّةِ وعلى خير ، ويحسبون أنهم مُهتدُون ، وأنهم يَتقرّبون بذلك إلى الله ، وكثيرٌ مِمّا هُم فيه مما يُباعِدُهم عنِ اللهِ .
سئلَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ : يُغتابُ صاحِبُ هوىً ؟ قال : يَذْكرُ مِنه هَوَاه ولا يَغتابُه فيما سوى ذلك .
واحذروا إخواني مِن أخلاقِ الفُجّارِ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أحبَّكم إليَّ أحسَنُكم أخلاقا ، الْمُوَطّئون أكْنَافًا ، الذين يَألَفُون ويُؤلَفُون ، وأبغضَكُم إلى الله الْمَشّاؤون بِالنّمِيمة ، الْمُفَرِّقُون بين الأحبّة ، الْمُلْتَمِسُون للبُرآءِ العَنَتِ . رواه الطبرانيُّ في الصغيرِ والأوسطِ ، وحسَّنَهُ الألبانيُّ .
أي : يبحثون عن عيوبٍ ليست موجودةً إلاّ في أذهَانِهم ! ليَعِيبُوا بِذلك غيرَهَم !
ومِن هذا : تضخيمُ الأخطاء ، وتهويلُ الأمر !!
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله :
إشاعةُ الفاحِشةِ مُقْتَرِنةٌ بِالتعيير ، وهُمَا مِن خِصال الفُجّار ؛ لأنَّ الفاجِرَ لا غَرَضَ له في زَوالِ المفَاسِدِ، ولا في اجتنابِ المؤمِنِ للنقائصِ والمعايبِ ، وإنما غَرَضُهُ في مُجرّدِ إشاعة العيبِ في أخيه المؤمنِ ، وهَتْكِ عِرْضِه ؛ فهو يُعيد ذلك ويُبدِيه ، ومَقصُودُه تَنقّصَ أخيه المؤمنِ في إظهارِ عيوبِهِ ومَسَاوِيه للناسِ ؛ ليُدخِلَ عليه الضررَ في الدنيا .
وأما الناصحُ فَغَرَضُه بِذلك : إزالةُ عَيبِ أخيه المؤمِنِ واجتنابُه له .
(الفرقُ بينَ النصيحةِ والتعييرِ)
قال سليمانُ بنُ سالمٍ : قال لي أبو سِنانَ زيدُ بنُ سِنان : إذا كان طالِبُ العِلْمِ لا يَتعلّمُ ، أو قبلَ أنْ يتعلمَ مسألةً في الدِّين ، يَتعلّمُ الوَقِيعةَ في الناسِ ، متى يُفْلِحُ ؟
وكان لا يتكلَّمُ أحدٌ في مجلسه بِعينِه في أحدٍ ، فإذا تكلّمَ بِذلك نَهَاه وأسكَتَه .
(ترتيبُ المدارِكِ ، للقاضي عياضٍ)
ولْنَلتمِسْ الأعذارَ لِبعضِنا كما نُحِبُّ أن نُعذَرَ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ . رواه مسلم .
وأن نكون رُحماء ، لا جُفاة ولا غِلاظ .
قال الله تعالى لِرسوله صلى الله عليه وسلم : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ لاَ يَرْحَم لاَ يُرْحَم . رواه البخاري ومسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّمَاءِ . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وقال صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَضَعُ اللهُ رَحْمَتَهُ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ ” قالوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَكُلُّنَا رَحِيم . قَال : لَيْسَ الَّذِي يَرْحَمُ نَفْسَهُ خَاصَّةً ، وَلَكِنِ الَّذِي يَرْحَمُ النَّاسَ عَامَّةً . رواه أبو يَعلَى في مُسنَده والبيهقي في ” شُعب الإيمان ” ، وأورده الألباني في ” سلسلة الأحاديث الصحيحة ” .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : أهل السنة والجماعة يَتّبِعُون الكتاب والسنة ويُطِيعون الله ورسوله ؛ فَيَتّبِعُون الْحَقّ ويَرْحَمُون الْخَلْق .
وقال رحمه الله : أهل السنة والعِلم والإيمان يَعرِفون الْحَقّ ويَتّبِعُون سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويَرْحَمُون الْخَلْق ويَعْدِلُون فيهم . اهـ .
وعلينا أن لا نُسارِعَ في التكفير والتبديع والتفسِيق ؛ فإنها أحكامُ شرعيةٌ لا يجوز أن يتصدّرَ لها إلاّ العلماءُ الكبار .
قال الغزالي :
التكفيرُ حُكمٌ شَرعيّ ، يَرجِعُ إلى إباحَةِ المال وسَفكِ الدم ، والْحُكمِ بِالخلودِ في النار . فمأخَذُه كمأخَذِ سائرِ الأحكامِ الشرعية ؛ فتارةً يُدرَكُ بِيقينٍ ، وتارةً بِظنٍّ غالِب ، وتارةً يُترَدّد فيه .
ومَهْمَا حَصَل تَرَدّدٌ فالوَقْفُ فيه عن التكفيرِ أوْلَى ، والمُبادَرَةُ إلى التكفير إنما تَغلِبُ على طِباعِ مَن يَغلِبُ عليهم الْجَهلُ !
وقال :
أمّا الوصيةُ : فأن تَكُفَّ لِسانَكَ عن أهلِ القِبلَةِ ما أمكَنَكَ ، ما دامُوا قائلينَ لا إله إلاّ الله محمدٌ رسولُ الله ، غير مُناقِضِين لها . (التفرقة بين الإيمان والزّنْدَقة)
وقال : والذي يَنبغي : الاحترازُ مِن التكفير ما وجد إليه سبيلاً . فإن استبَاحة الدماء والأموال مِن الْمُصَلّين إلى القِبْلة الْمُصَرِّحِين بِقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله خطأ ، والخطأ في تَرْك ألْف كافِر في الحياة أهْونُ مِن الخطأ في سَفْك مِحْجَمَة مِن دِم مُسلِم . (الاقتصاد في الاعتقاد)
وقال القرطبي في ” الْمُفْهِم ” : بابُ التكفير بابٌ خطير ، أقدَم عليه كثيرٌ مِن الناس فَسَقَطُوا ، وتَوَقّف فيه الفُحُول فَسَلِمُوا . ولا نَعدِل بِالسّلامة شيئًا . اهـ .
وذَكَرَ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية أنه ” مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلاّ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرّسَالِية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى .
قال : وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ خَطَأَهَا ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ .
وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لا بِكُفْرٍ وَلا بِفِسْقٍ وَلا مَعْصِيَةٍ ” .
وقال رحمه الله : وَأَمَّا التَّكْفِيرُ فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَصَدَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ : لَمْ يُكَفَّرْ ؛ بَلْ يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ …
فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلا مُبْتَدَعٍ وَلا جَاهِلٍ وَلا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلا فَاسِقًا بَلْ وَلا عَاصِيًا . اهـ.
وقال الإيجي مِن الحنفيّة : لا يجوز الإقدامُ على التكفير إذْ فيه خَطَرٌ عظيم . (المواقف)
وقال الحصكفي مِن الحنفيّة : اعلَم أنه لا يُفْتَى بِكُفْر مُسلِم أمْكن حَمْلُ كَلامِه على مَحْمَلٍ حَسَنٍ ، أو كان في كُفْرِه خَلاف . (الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار)
ولْنَقبَلِ الحقَّ مِمَنْ جَاءَ به
قال رَجُلٌ لِعبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه : عَلّمْنِي كلماتٍ جَوامِعَ نَوافِعَ ، فقال : لا تُشْرِكْ به شيئا ، وزِلْ مع القرآنِ حيث زَالَ ، ومَنْ جاءكَ بِالْحَقّ فاقْبَلْ منه ، وإن كانَ بَعيدا بَغِيضا ، ومَن جاءك بالباطِلِ فارْدُدْه عليه ، وإن كان قَريبا حَبيبا . رواه أبو نُعيمٍ في ” حِلْيَةِ الأولياء ” .
وقَالَ رَجُلٌ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه : عِظْنِي ، وَلا تُكْثِرْ عَلِيَّ فَأَنْسَى . فَقَالَ لَهُ : اِقْبَلِ الْحَقَّ مِمَّنْ جَاءَكَ بِهِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَغِيضًا ، وَارْدُدِ الْبَاطِلَ عَلَى مِنْ جَاءَكَ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَبِيبًا قَرِيبًا . ذَكَرَه أبو نُعيمٍ في “حِلْيَةِ الأولياء” .
طيبة الطيبة 11 شعبان 1440 هـ .