عَرَفْتَ فَالْزَم
” كان صلى الله عليه وسلم أشرحَ الْخَلْق صَدْرا ، وأطيبَهم نَفْسا ، وأنعَمَهم قَلبًا ” (ابن القيم)
ولا عَجَب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ فقد كان يوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لله .
كان يُصلّي في اليوم والليلة 44 ركعة ، وقد يزيد على ذلك .
الفرائض (17) ركعة .
السنن الرواتب (16) ركعة .
ففي حديث عليّ رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي مِن النهار ستّ عشرة ركعة سِوى المكتوبة .
وفي رواية أنه عدّ السُّنن الرواتب ، وذَكَر منها : وأربعا قبل العصر . رواه الإمام أحمد والنسائي في ” الكبرى ” وابن ماجه ، وحسّنه الألباني ، وقال الأرنؤوط : إسناده قوي .
وصلاة الليل (11) ركعة .
كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم الصِّلَة بالله ، فيَذكُر الله في كل حين .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يَذْكُر اللَّهَ على كُلِّ أَحْيَانِه . رواه مسلم .
وفي حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة . رواه مسلم .
وفي رواية : إنْ كُنّا لَنَعُدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة : رب اغفر لي وتُبْ عليّ إنك أنت التواب الرحيم . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
وكذلك : كلّ مَن كان بالله أعرَف كان بالذِّكْر له ألْهَج
وفي وصْف الملائكة عليهم السلام : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) .
وفي وَصْفِهم أيضا : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر مِن قراءة القرآن
قرأ في ركعة واحدة مِن قيام الليل : سور : البقرة وآل عمران والنساء . كما في صحيح مسلم .
وقرأ في صلاة المغرب بِسورة الأعراف
ويُكثِر مِن الذِّكْر والاستغفار .
ويحثّ على كثرة ذِكْر الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبق المفَرِّدُون ، قالوا : يا رسول الله ، ومَن الْمُفَرِّدُون ؟ قال : الذين يُهْتَرُونَ في ذكر الله . رواه الإمام أحمد ، وقال الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم . ورواه الترمذي .
وهو عند مسلم بِلفظ : سبق المفَرِّدون . قالوا : وما المفَرّدون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات .
قال ابن الأثير : الَّذِينَ أُهْتِرُوا فِي ذِكر اللَّه عَزَّ وجَلّ ، وَفِي رِوَايَةٍ : الْمُسْتَهْتِرُونَ بِذكْر اللَّه : يَعْني الَّذِينَ أُولِعُوا بِهِ . يُقال : أُهْتِرَ فُلان بكذا ، واسْتُهْتِرَ ، فَهُوَ مُهْتَرٌ بِهِ ، ومُسْتَهْتَرٌ : أَيْ مُولَع بِهِ لَا يَتَحَدّث بغَيره ، وَلَا يَفْعَلُ غَيرَه .
وَقِيلَ : أَرَادَ بقَوله : ” أُهْتِرُوا فِي ذِكْرِ اللَّه ” كَبِرُوا فِي طاعَتِه وهَلَكَت أقْرانُهم ، مِنْ قَوْلِهِمْ : أُهْتِرَ الرجُل فَهُوَ مُهْتَر ، إِذَا سَقَط فِي كلامِه مِنَ الكِبَرِ . اهـ .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الجود ، عظيم البِرّ ، دائم الإحسان حتى قَبْل مبعثِه ؛ فإنه لَمّا جاء خائفا وَجِلاً إلى خديجة قالت له : كلاّ . أبْشِر ، فو الله لا يُخزيك الله أبدا ، والله إنك لَتَصِل الرَّحم ، وتَصْدق الحديث ، وتَحمِل الكّلّ ، وتَكْسِب المعدوم ، وتُقْري الضيف ، وتُعين على نوائب الحق . رواه البخاري ومسلم .
قال النووي : قال العلماء رضي الله عنهم : معنى كلام خديجة رضي الله عنها إنك لا يُصيبك مَكروه لِمَا جَعل الله فيك مِن مكارِم الأخلاق ، وكَرم الشمائل ، وذَكَرَت ضُرُوبا من ذلك ، وفي هذا دلالة على أن مَكارِم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة مِن مَصارِع السوء . اهـ .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ .
فَبِاجْتِماع الطاعات تنشط النَّفْس لِفِعل الخيرات : فَرَسُول الله عليه الصلاة والسلام : صائم في نهار رمضان ، قائم في لَيلِه ، ويَلقاه جبريل عليه السلام ، ويُدارِسه القرآن ؛ فيكُون أجود ما يَكون .
قال ابن القيم : وكان هَدْيه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الْخَلْق صَدرا ، وأطيبهم نَفْسًا ، وأنْعَمهم قَلبا ، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شَرح الصَّدر . اهـ .
حينما تُقبِل النفوس على الطاعة في رمضان ، فتأخذ نصيبا يسيرا مما كان عليه سادات الصالحين والعُبّاد : تَجِد راحة وطمأنينة وأُنْسًا .
وهذا وَعْد الله ، وتلك هي الحياة الطيبة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) هذا في الدنيا ، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وهذا في الآخِرة .
قال الحسن في قوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) : لَنَرْزُقَنّه طاعة يَجِد لَذّتها في قلبه .
ومَن عَمِل صالحا أسعد نفسه (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ)
في رمضان : زِدنا طاعات ، فارتاحت النفوس ، وانشرَحَت الصدور ، وسَمَت القلوب
زِدْنا صلوات (التراويح) ، وصُمْنا ، وقرأنا كتاب ربّنا ، وشُرِعت لنا الصدقَة .. فرأينا أثَر ذلك ..
فالسعادة في الطاعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : مَن أراد السعادة الأبدية، فليَلزَم عَتبة العبودية . اهـ .
قال ابن القيم رحمه الله – وهو يَذكر أسباب انشراح الصدر – :
ومِن أسباب شرح الصَّدر : دوام ذِكْره على كل حال ، وفي كل موطن ، فللذِّكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضِيقِه وحَبْسه وعذابه .
ومنها : الإحسان إلى الْخَلق ونفعهم بما يُمكنه مِن المال والجاه ، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان ، فإن الكريم الْمُحسِن : أشرح الناس صدرا ، وأطيبهم نفسا ، وأنعمهم قلبا ، والبخيل الذي ليس فيه إحسان : أضيق الناس صدرا ، وأنكدهم عيشا ، وأعظمهم هَمًّا وَغَمًّا .
ومنها – بل من أعظمها – : إخراج دَغَل القلب مِن الصفات المذمومة التي تُوجِب ضيقه وعذابه وتَحُول بينه وبين حصول البُرء ، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره ، ولم يُخرِج تلك الأوصاف المذمومة مِن قَلبه لم يَحْظَ مِن انشراح صدره بطائل ، وغايته أن يكون له مادّتان تَعْتَوِران على قَلبه ، وهو للمَادّة الغالبة عليه منهما .
ومنها : تَرك فُضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم ؛ فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغُموما وهُموما في القلب ، تَحصُره وتَحبِسه وتُضيّقه ويَتعذّب بها ، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها ، فلا إله إلا الله ما أضيق صَدر مَن ضَرَب في كل آفة مِن هذه الآفات بِسَهم ، وما أنكد عيشه ، وما أسوأ حاله ، وما أشد حَصْر قلبه ، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش مَن ضَرَب في كل خَصلة مِن تلك الخصال المحمودة بِسَهم ، وكانت هِمّته دائرة عليها ، حائمة حَولها . اهـ .
والإنسان إنما خُلِق للعبادة ، فإذا استعمل هذه النَّفْس بِخلاف مُراد الله أصابته التعاسة ، وإن ضَحّك قليلا !
وقال ابن القيم :
ففي القَلب شَعَث لا يَلمّه إلاّ الإقبال على الله .
وفيه وَحْشة لا يُزيلها إلاّ الأُنس به في خَلوته .
وفيه حُزن لا يُذهبه إلاّ السرور بمعرفَتِه وصِدق معاملته .
وفيه قَلق لا يُسكّنه إلاّ الاجتماع عليه ، والفِرار منه إليه .
وفيه نيران حَسرات لا يُطفئها إلاّ الرّضا بأمْره ونَهيه وقضائه ، ومُعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لِقائه .
وفيه طلب شديد لا يَقف دون أن يكون هو وَحده مَطلوبه .
وفيه فاقة لا يَسدّها إلاّ محبته ، والإنابة إليه ، ودوام ذِكْره ، وصِدق الإخلاص له . ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدّ تلك الفاقة منه أبَدا . اهـ .
فذَهَبَتْ الطاعات بِانشِراح الصَّدْر ، وبِانْفِسَاح القلب ؛ فهي الباب الأعظَم للانشراح
وقد أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بالعبادة إذا شَعَر بِضِيق الصَّدْر
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)
وكان مِن هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا حَزَبه أمْر صَلّى . كما في مسند أحمد وسنن أبي داود مِن حديث حذيفة رضي الله عنه . وقال الشيخ الألباني : حسن .
وجاء هذا عن السلف .
فقد نُعِي إلى ابن عباس أخوه قُثَم وهو في سَفر ، فاسترجع وتنحَى عن الطريق وصَلَّى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) . رواه ابن جرير في تفسيره .
قال ابن حجر : وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْر فَزِعَ إِلَى الصَّلاة ، وَأَمَرَ مَنْ رَأَى فِي مَنَامه مَا يَكْرَه أَنْ يُصَلِّيَ . اهـ .
وهَا قَد عَرَفْتَ فَالْزَم
فاجْعَل لِقَلبِك وقْتا ، كما تجعل لِنفسِك وبَدَنِك
أعطِ نفسك نصف ساعة بعد صلاة العصر لتقرأ القرآن ؛ فتختم كل شهر مرتين .
أعط رُوحك راحة نصف ساعة بعد العشاء ؛ لتُصلّي مِن قيام الليل ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فَصَلّوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر . رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وإياك والْمَلَل وتَرْك العَمَل .
قال شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله : ومما يجب التنبيه عليه : أن بعض المسلمين قد يجتهد في رمضان ويتوب إلى الله سبحانه مما سَلف مِن ذنوبه ، ثم بعد خروج رمضان يعود إلى أعماله السيئة ، وفي ذلك خطر عظيم .
فالواجب على المسلم : أن يَحذَر ذلك ، وأن يَعزم عَزمًا صادقا على الاستمرار في طاعة الله وترك المعاصي . اهـ .
أنت تذهب إلى عَمَلِك أو إلى دراستك كل يوم بلا كَلَل .
يقول أحد مشايخنا : أنت تذهَب إلى عملك كل يوم الساعة السابعة ؛ ألاَ تَستحي مِن ربّك أنك لم تذهب مرة واحدة إلى صلاة الجمعة الساعة السابعة ؟! . اهـ .
ونحن نقف مع بعضنا أو نجلس في مجالسنا الساعات الطوال ، ألاَ نجلس في بيت ربّنا نذكره ونقرأ كلامه نصف ساعة يوميا ؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ مِن أن أعتق أربعة مِن ولد إسماعيل ، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ مِن أن أعتق أربعة . رواه أبو داود ، وحسّنه الألباني والأرنؤوط .
هذا هو دَرْب السعادة ، وطريق الفَلاح ؛ فالْزَمْه .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
الرياض – رمضان 1438 هـ