عندما تكون ذكياً فتحوّل العداوة إلى مودة !
هل توافقوني الرأي في أن الشاعر أخطأ عندما قال :
كل العداوات قد ترجى مودّتها *** إلا عداوة من عاداك في الدِّينِ
لماذا قلتُ : أخطـأ ؟
لأن عداوة الدِّين يُمكن أن تنقلب إلى مودّة .
بل الذّكّي يقلبها رأسا على عقب فيُحوّل البغضاء إلى محبة
تأمل في هذه المواقف
كيف أن أُناساً يُضمرون العداوة والبغضاء لسيّد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم – ثم تحوّلت تلك العداوة إلى مودّة ومحبّـة
الموقف الأول :
قالت عائشة رضي الله عنها : جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يُذلّهم الله من أهل خبائك ، وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يُعزهم الله من أهل خبائك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأيضا والذي نفسي بيده . متفق عليه .
قال النووي – رحمه الله – : ” والذي نفسي بيده ” فمعناه : وستزيدين من ذلك ، ويتمكن الإيمان من قلبك ، ويزيد حبك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ويقوى رجوعك عن بغضه . انتهى .
ما سبب ذلك :
لعل سبب ذلك ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب ، فقال له العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر ، فلو جعلت له شيئا . قال : نعم . من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .
هل تميّـز أبو سفيان بشيء عن الناس ؟؟
طالما أن من أغلق عليه بابه فهو آمن ؟؟
إلا أنه فن تأليف القلوب
وفن كسبها
الموقف الثاني :
عن أبي هريرة رضيَ اللّه عنه قال: بَعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبلَ نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفةَ يقال له : ثُمامة بن أُثال , فرَبطوهُ بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندَك يا ثمامة ؟
فقال : عندي خيرٌ . يا محمدُ إن تَقتلني تَقتلْ ذا دم ! وإن تُنعِم تنعم على شاكر , وإن كانت تريدُ المالَ فسلْ منه ما شئتَ .
فتُرِكَ حتى كان الغَد ثم قال لهُ : ما عندَك يا ثمامة ؟
فقال : ما قلتُ لك : إن تُنعِم تنعم على شاكر.
فتركه حتى كان بعدَ الغدِ فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك .
فقال : أطلقوا ثمامة .
فانطلَقَ إلى نخل قريب من المسجدِ فاغتسلَ , ثم دخل المسجدَ ، فقال : أشهد أن لا إلهَ إلاّ الله , وأشهد أنّ محمداً رسول الله .
يا محمد ! واللّهِ ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليّ من وَجهِك , فقد أصبحَ وَجهُكَ أحبّ الوجوهِ إليّ .
واللّهِ ما كان من دِين أبغضَ إليّ من دِينك , فأصبح دينك أحبّ الدّين إليّ .
واللّهِ ما كان من بلد أبغضَ إليّ من بلدك , فأصبحَ بلدُكَ أحبّ البلاد إليّ .
وإن خَيلَكَ أخذتني , وأنا أُريد العمرةَ , فماذا ترى ؟ فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأمَرَه أن يَعتمر.
فلما قدِمَ مكة قال له قائل : صَبوت ؟
قال : لا والله , ولكن أسلمتُ مع محمد رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم , ولا واللّهِ لا يأتيكم من اليمامَةِ حَبةُ حِنطة حتى يأذَن فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .
أي شيء كلّف هذا الموقف ، وهذا التحوّل من البغض إلى الحُبّ ؟؟
الموقف الثالث :
عن ابن شماسة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا ، وحوّل وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول :
يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟
قال : فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . إني قد كنت على أطباق ثلاث :
لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منّي ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار .
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي .
قال : مَالَـكَ يا عمرو ؟
قال قلت : أردت أن أشترط .
قال : تشترط بماذا ؟
قلت : أن يغفر لي .
قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجلّ في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة .
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنّـاً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي . رواه مسلم .
سبب إسلامه رضي الله عنه :
وبعد إسلامه :
كان – رضي الله عنه – يظنّ أنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان رسول الله يُحسن معاملته ، كما يُحسن معاملة غيره ، ولكنه – رضي الله عنه – ظنّ أن له مزيّـة على غيره عندما أمّره النبي صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل ، وهو حديث عهد بإسلام .
فسأل : أيّ الناسِ أحبّ إليك ؟ قال : عائشة . قلت : منَ الرجال؟ قال : أبوها . قلتُ ثمّ مَن ؟ قال : عُمر . فعدّ رجالا ً. فسكتّ مَخافَةَ أن يَجعلَني في آخِرهم . متفق عليه .
وهذا صفوان بن أمية يُعطيه النبي صلى الله عليه وسلم مائة من النَّعَـم ، ثم مائة ، ثم مائة
قال ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال : والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ . رواه مسلم .
عجيب حال نبي الله صلى الله عليه وسلم وكسبه للقلوب ، بل تحويلها من أقصى العداوة والبغضاء ، إلى أقوى المحبة وأشدّها .
إذًا تستطيع أن تكسب القلوب بـ
ابتسامة
إجابة دعوة
تبسّـط وتواضع
هدية تسلل السَّخيمة
احترام وتقدير ، وإنزال الناس منازلهم
مُقابلة الخطأ والسيئة بالعفو والصفح والتجاوز
عندها تستطيع أن تقلب العداوات إلى صداقات وإلى مودة ومحبة
ولكن هذه تحتاج إلى نفوس كبار عِظام تُقابل السوء بالحُسنى ، وتتخلّى عن حظوظها .
وصدق الله العلي الأعلى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيم )
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم