عندما تكون المنايا أماني
يقول المتنبي :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا = وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وأقول :
لا يا أبا الطيب
إن المنايا كانت أماني لمن رفعوا رؤوسهم بدين الله عز وجل
بل كانوا يستعذبون طعم الموت ، كما قيل عنهم :
عباد ليل إذا جن الظلام بهم = كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم = هبُّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
لا يا أبا الطيب
لقد كانت المنايا عِذابا في ذات الله
حتى إن أحدهم ليُطعن فيفور الدم من كبده فوراناً فيرى أنه فاز بتلك الطعنة .
روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين ، فلما قدموا قال لهم خالي : أتقدمكم ، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا كنتم مني قريبا ، فتقدم ، فأمنوه ، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه ، فأنفذه ، فقال : الله أكبر ! فزت ورب الكعبة !
وخال أنس هو حرام بن ملحان رضي الله عنه .
وفي رواية للبخاري : لما طُـعـن حرام بن ملحان يوم بئر معونة قال بالدم هكذا ، فنضحه على وجهه ورأسه ، ثم قال : فزت ورب الكعبة !
وجاء في بعض الروايات فقال المشرك الذي قتله : فقلت في نفسي ما قوله فـزت ؟!
لا يا أبا الطيب
إن أحد أولئك يستبطئ نفسه أن يأكل تمرات تؤخّره عن الموت
فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض ؟! قال : نعم . قال : بخ بخ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها . قال : فإنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قُتل . رواه مسلم .
لقد مضى إلى أرض المعركة وهو يقول :
ركضا إلى الله بغير زاد = إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد = وكل زاد عرضة للنفاد
غير التقى والبر والرشاد
وقال آخر : إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ، فرمى ما في يده ، فحمل بسيفه ، فقاتل حتى قتل .
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : أرأيت إن قُتلت فأين أنا ؟ قال : في الجنة . فألقى تمرات في يده ، ثم قاتل حتى قُتل .
وفي يوم أُحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين . فقام عمرو بن الجموح ، وهو أعرج ! فقال : والله لأقحزن عليها في الجنة ، فقاتل حتى قُتل .
وهذا رجل آخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجود بنفسه فلا يرضى لها ثمناً دون الجنة
عن أنس رضي الله عنه قال : غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غِبتُ عن أول قتال قاتلتَ المشركين ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع . فلما كان يوم أحد ، وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضّر ، إني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .
قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنه برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قُتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفة أحد إلا أخته ببنانه .
قال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ( الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية . رواه البخاري ومسلم .
بل تعال لترى من يتمنّى أن يُقتل ويُمثّل به بعد موته
حدّث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال يوم أحد : ألا تأتي ندعو الله تعالى ، فَخَلَوا في ناحية فَدَعَـا سعد ، فقال : يا رب إذا لقينا العدو غداً فلقّني رجلا شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله ويُقاتلني ، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله ، وآخذ سلبه ، فأمّن عبد الله ، ثم قال عبد الله رضي الله عنه : اللهم ارزقني غداً رجلا شديداً بأسه شديداً حرده ، فأقاتله ويقاتلني ، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ، فإذا لقيتك غداً . قلت لي : يا عبد الله فيمَ جُدع أنفك وأذناك ؟ فأقول : فيك وفي رسولك . فتقول : صدقت .
قال سعد : كانت دعوته خيراً من دعوتي ، فلقد رأيته آخر النهار ، وإن أنفه وأذنه لمعلق في خيط .
أرأيت يا أبا الطيب كيف كان الموت أمنية عند أولئك الأبطال العِظام ؟؟؟
لقد كانوا يَهبُّون إلى الموت يستجدون رؤياه .
أما أهل الدنيا وأرباب الأموال الذين أُشربت قلوبهم حب الدنيا كما أُشربت قلوب بني إسرائيل حب العجل فأنى لهم ذلك ، بل إنهم ليرون الموت مُصيبة ، وفراق الدنيا خسارة ليس بعدها خسارة !
وما ذلك إلا لأنهم فارقوا الدينار والدرهم !
وما ذلك إلا لأنهم عمروا دنياهم بخراب أخراهم .قيل لأبي حازم : ما لنا نكره الموت ؟ قال : لأنكم أخربتم آخرتكم ، وعمرتم دنياكم ، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب .
ولما احتضر ” بِشرٌ ” فَرِح ، فقيل له : أتفرح بالموت ؟! قال : تجعلون قدومي على خالق أرجوه ، كمقامي مع مخلوق أخافه ؟!
أرأيت يا أبا الطيب ؟
كيف كانت أماني القوم ؟
إن أمانيهم هي المنايا
وإلى لقاء مع أمنية إمام القوم صلى الله عليه وسلم .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم