عـندهـا قـالت : مـا هـذه الفـوضـى ؟؟
في شهر الله المحرم عزمتُ على زيارة طيبة الطيبة ، فشددتُ رحلي ، وجمعت متاعي وغادرت إليها ، وقضيت فيها يومين من أجمل أيام عمري بصحبة شاب صالح زاد تلك الرحلة جمالاً إلى جمالها .
كم هو جميل أن تأخذ دورة إيمانية في رحاب طيبة الطيبة .
وكم هو ممتع أن تبتعد عن مشاغل دنياك وضوضاء مدينتك إلى حيث الراحة النفسية .
ثم عُدتُ من رحلتي وأنا أرثي لِحالي على فراق طيبة الطيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .
عُدتُ وبقلبي شوق الرجوع ، وولـه العودة إليها مرة ثانية بل مرّات ومرّات .
رجعت أدراجي والنفس تتوق لزيارة قادمة بمشيئة الله .
ركبتُ الطائرة لأعود إلى بلدي وحيث أسكن .
ولَفَتَ نظري ذلك الموقف في الطائرة .
فتاة في مقتبل العمر تمطّت الطائرة وحيدة فريدة .
جاء بها المُضيف حتى أجلسها إزائي في الجهة المقابلة على مقعد مستقل ليس بجواره مقاعد أخرى .
قال لها : هـذا مخـرج طوارئ ! هل تجلسين هنا ؟
قالت : الشكوى لله ! وش أسوي !
جلست … وبعد قليل جاء صاحب المقعد يحمل بطاقةً بها رقم ذلك المقعد .
رجع إليها المضيف … قال لها : لو سمحت هذا مقعد هذا الرجل .
( ولم يكن لدى الرجل تقدير لذلك الموقف )
وقد فهمت من لكنة المضيفة – اللـكنة الأعجمية – أن تلك الفتاة لا تُريد أن تجلس بجوار رجل غريب .
فأكبرتُ ذلك الموقف منها بقدر ما أصغرت فيها وفي وليّها التفريط في سفرها دون محرم
قامت وهي متضجّرة … تتأفّـف … إيش ها الفوضى ؟؟؟!
[ تخيّلت نفسي وقد وقفتُ أحاورهـا حول ذلك الموقف ]
أي فوضى يا أُخيّه ؟؟
فتخيّلت أنها صرخت في وجهي : وأنت إيش دخلك ؟؟!! ما لك دعوى !!
وكأني أجبتها : يا أختي الفاضلة نحن من أُمّـة قال نبيّها صلى الله عليه وسلم : المؤمنون تكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .
وما احترقتُ عليك إلا غيرة على نساء المسلمين .
فكأنها قالت : ما رأيت الفوضى ؟؟؟ وإلا أعجبك الذي صار ؟
فتصوّرت أني كررت السؤال : من هو الأحق بالوصف بالفوضى ؟؟
ومن هو منشأ الفوضى ؟؟
قالت : ما فهمت ؟؟
قلت : ليست الفوضى في أنهم لم يوفروا لك مقعدا مستقلا
بل الفوضى أصلا عندك
قالت : كيف ؟
قلت : الفوضى في اصل سفرك لوحدك دون وجود محرم
قالت : ليس المهم وجود المحرم ، فالسفر قصير ، وأنا واثقة بنفسي .
قلت : هذا منشأ الفوضى
قالت : وضّـح ما تقول ؟
قلت : وجود المحرم ضروري
قالت : وهل من دليل على ما تقول ؟
قلت : قال عليه الصلاة والسلام : لا يخلوَنّ رجلٌ بامرأة إلاّ مع ذي مَحْرَم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم .
فلما قال عليه الصلاة والسلام ذلك قام رجلٌ فقال : يا رسولَ الله امرأتي خَرجَت حاجّـةً ، واكتَتَبتُ في غزوةِ كذا وكذا ، قال : انطلق فحُـجّ مع امرأتِك . متفق عليه .
ولم يسأله عليه الصلاة والسلام هل هي مع رفقة مأمونة أو لا ؟
وهل معها نساء أو لا ؟
بل أمره أن يترك الخروج للجهاد ويلحق بامرأته درءاً للمفسدة .
هل تريدين أن تعرفي أهمية وجود المحرم ؟
قالت : نـعـم
قلت : إذا اسمعي هذه القصة التي حدّث بها الحسن بن عمارة
بينما امرأة تطوف بالبيت وكانت من أجمل النساء ، فَسَمَت إليها عيون الناس ، فلحق بها الشاعر عمر بن أبي ربيعة وأخبرها أنه عمر وأنه قد خامر قلبه منها شيء فزجرته فلم ينزجر .
فقالت لِوَليّ لها : اخرج معي إذا خرجتُ من المسجد ، فلما رآها عمر بن أبي ربيعة حاد عنها وابتعد
فأنشدت تُسمعه :
تعدو الكلاب على من لا كلاب له === وتتقي صـولة المستأسد الحـامـي
لما قيلت هذه القصة في مجلس الخليفة المنصور قال :
قد سمعت هذا من أبي ، وَودِدّتُّ أن ذوات الخدور جميعا تسمعنه .
قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب : ما حملك على الزنا ؟ قالت : قربُ الوساد ، وملول السِّواد .
تعني قرب وساد الرجل من وسادتي ، وطول السواد بيننا .
أي كثرة الاختلاط والمخالطة .
قال اللحياني : السِّوادُ هنا المُسارَّةُ . ذَكره ابن منظور في ” اللسان ” ، وذكره ابن القيم في ” الجواب الكافي” .
وأما قولك إنه سفر قصير
فأقول : هـو سفـر طالما أنه سُمّي سفـر
والنص واضح ” ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم “
وكم من امرأة سافرت سفرا قصيرا كان فيه هلاكها
قالت : كيف ؟
قلت : ركب إلى جوارها كلبٌ بشري ، فأغواها وأغراها
وقد سمعتِ قول تلك المرأة : تعدو الكلاب ….!
وكم رأينا جُرأة السفهاء على النساء خاصة إذا كُـنّ من غير محارم
بينما لا يجروء أحدهم أن يلتفت مجرّد التفات عند وجود المحرم
ومن هنا تتبيّن حكمة الحكيم العليم سبحانه وتعالى حينما حرّم سفر المرأة من غير محرم .
وأما قولك إني واثقة بنفسي
فأقول : إذا كانت أمهات المؤمنين اللواتي هن أطهر نساء العالمين ، وهن بمنـزلة الأمهات قال الله لهن : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ) .
وأدّب الله المؤمنين إذا سألوهن أن يكون ذلك السؤال من وراء حجاب ، فقال الله جل جلاله : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَاب )
أما لماذا ؟
فاستمعي إلى الجواب من العزيز الوهاب : ( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )
فتحركت بِذرة الخير في نفسها ، وعادت إلى رشدهـا ، وقالت :
أعذرني فقد كنت جاهلة بذلك
واستغفر الله وأتوب إليه .
ملحوظة :
ما جرى هذا الحوار على أرض الواقع بل تخيّـلته كما أسلفت .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم