ظاهرة الفحش والتفحش
المقصود بالفُحـش : ما قـبُح من قول أو فعل . قال الراغب : الفحش والفحشاء ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال .ويرِد ذِكر الفاحشة في القرآن ويُراد بها الزنا ، ويُراد بها أيضا إتيان الذَّكر لِذَكَر مثله .
قال الفيروز آبادي : الفاحشة : الزنا ، وما يشتد قبحه من الذنوب ، وكل ما نهى الله عز وجل عنه ، والفحشاء البخل في أداء الزكاة ، والفاحش البخيل جدا والكثير الغالب ، وقد فحش فحشا ، والفحش : عدوان الجواب . اهـ .
وفي المصباح : كل شيء جاوز الحد فهو فاحش ومنه غبن فاحش إذا جاوز الزيادة بما لا يعتاد مثله .
الفاحِش : هو ذُو الفُحْش في كلامه وفِعَاله . والمتَفَحّش: الذي يتَكلّفُ ذلك ويَتَعمّدُه.
وكلُّ خَصْلة قبيحة فهي فاحِشة ، من الأقوال والأفعال .
ومنه الحديث : فإن الله لا يُحِبّ الفُحْش ولا التفَاحُش .
أراد بالفُحْش التّعَدّي في القَول والجواب . لا الفحشَ الذي هو من قَذَع الكلام ورَدِيئه . والتّفَاحُش: تَفَاعُل منه .
وقد أمر الله بقول الكلام الحَسن :
قال الله تبارك وتعالى : (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) وقال سبحانه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ووصف الله ورثة الفردوس بقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
ونَعَتَ عباد الرحمن الذين هم عباده بقوله : (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) وهم الذين (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) وقال : (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) وكان جوابُهم (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) .
فهذا أمرٌ بقول الحسن من الكلام ، وحثٌ على ترك قبيحه ، ومدحٌ لمن أعرض عن جهل الجاهلين ، وسبِّ المقذعين .
والأمر هنا بقول الكلام الحسن نهي عن ضدِّه وهو القول الفاحش ، والفُحش من الكلام
ووُصِـفَ المؤمنون في السنة بأحسن الأوصاف ، فنُعتوا بأنهم ليسوا طعّانين ولا لعّانين . وبأنهم عن الفحشِ من القول بعيدين .
فعن عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطّعّانِ ولاَ اللّعّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيّ . حديث صحيح . رواه أحمد والترمذي .
قال ابنُ الأثير : لا يكونُ المُوْمِن طَعّاناً . أي وقّاعاً في أعْرَاضِ الناس بالذّم والغِيبَة ونحوهما وهو فعّال ، مِن طَعَن فيه وعَليه بالقَول يَطْعَنُ ـ بالفتح والضم ـ إذا عَابه . ومنه الطّعن في النّسَب . اهـ .
قال عبدالله بن مسعود : ألأَمُ أخلاقَ المؤمنِ الفحش . أي أكثرها لؤمـاً .
وفي صحيح مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَعَثَ إِلَىَ أُمّ الدّرْدَاءِ بِأَنْجَاد مِنْ عِنْدِهِ . فَلَمّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَة ، قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ اللّيْلِ ، فَدَعَا خَادِمَهُ فَكَأَنّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ . فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمّ الدّرْدَاءِ : سَمِعْتُكَ اللّيْلَةَ لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ . فَقَالَتْ : سَمِعْتُ أَبَا الدّرْدَاءِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَكُونُ اللّعّانُونَ شُفَعَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
والأنجاد : هو متاعُ البيت الذي يزيّنُه .
فانظر إلى أمِّ الدرداء كيف لم تمنعها هديةُ عبدالملك من نصحِه وقولِ كلمةِ الحق له .
وحُسْنَ الخُلقِ ليس بالأمر الهيّن ، وهو من أصعب الأشياء على النفوس ، ولذا كان هو أثقلُ شئ في ميزان المؤمن يوم القيامة .
وليس حُسن الخلق : احتمال الأذى من الناس فحسب . بل يُضاف إليه : كف الأذى عن الناس .
فقد يستطيع بعضُ الناسِ أن يَكُفَّ أذاه عن الآخرين ، لكنه لا يقدُر على تحمّل أذاهم . والعكس .
فمن جمع هاتين الخصلتين فهو الموفّق .
وعند أبي داود والترمذي ـ بسند صحيح ـ عن أَبي الدّرْدَاء رضي الله عنه ِ: أَنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: مَا من شيْءٌ أَثْقَلُ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامةِ مِنْ خُلُق حَسَن ، فَإِنّ الله تعالى ليُبْغِضُ الفاحِشَ البَذِيءَ .
وبِحُسنِ الخُلق يبلغ العبد منازلَ لا يدركُها بعمله ، بل إنه يدركُ درجة الصائم النهار القائم الليل إذا حسُن خُلُقه .
فعن عَائِشةَ رضي الله عنها قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: إِنّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقَائِمِ . رواه أحمد و أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي . وهو صحيح .
فهذه رُتبةٌ عالية ، ومنـزلةٌ سامية ، وشرفٌ عظيم ، ينالُه المسلم بحُسن خُلُقِه .
قال ابنُ حجر : حسنُ الخُلُق : اختيار الفضائل وترك الرذائل .
والصورةُ المقابلة هي صورةُ ذلك الفاحش الذي إن تركه الناسُ فإنما يتركونه اتّقاءَ فُحشه وهم يهُشّون ويبُشّون له تجنباً لسوء خُلُقِه . فهذا من شرارِ الناس كما قال الصادقُ المصدوق .
عن عائشة رضي الله عنها أنه استأذَنَ على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : ائذَنوا له فبئسَ ابن العَشِيرة ـ أو بئسَ أخو العشيرة ـ فلما دخلَ ألانَ له الكلام . فقلتُ له : يا رسولَ الله قلتَ ما قلتَ ثم ألنتَ له في القول . فقال: أي عائشة إن شر الناسِ مَنـزِلةً عندَ الله مَنْ ترَكهُ ـ أو وَدَعه ـ الناسُ اتّقاءَ فُحشِه . رواه البخاري ومسلم .
وعند البخاري : فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة متى عهِدْتِني فاحشاً ؟ إنّ شرّ الناسِ عندَ الله منـزلةً يومَ القيامة مَن تَركهُ الناسُ اتقاءَ شرّه .
لا والله يا رسول الله ما عهدناك فاحشاً ، وما عهدتك العرب في جاهلية ولا في إسلام ، وأنّى يكون الفحش من أخلاقك وأنت الذي قال ربك في وَصْفك بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
شهمٌ تُشيد به الدنيا برمتها على المنائر من عُرب ومن عجم
وكما أن العبد يبلغ درجة الصائم القائم بحُسْنِ خُلُقِه ، فإنّه قد يَحْبَطُ عملُه ويصبحُ من أهل النار بسوء خُلُقِه .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها فقال : ” لا خير فيها هي في النار ” . قيل : فإن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بأثوار من أقِطْ ولا تؤذي أحداً بلسانها . قال : ” هي في الجنة ” . رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم وصححه وابن حبان . وهو حديث صحيح .
وفي صحيح مسلم عَنْ عِيَاض الْمُجَاشِعِيّ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْم فِي خُطْبَتِهِ : أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي يَوْمِي هَـَذَا. ـ ثم ذكر أهل الجنة وأهل النار ـ قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ : ذُو سُلْطَان مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ وَمُسْلِم. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَال .
قَال : وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ : الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً . وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ . وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِـحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ . وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ ، وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ .
قال ابن الأثير : ” وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ ” هو السيئ الخُلق .
و ” الذي لا زبْر له ” أي لا عقْل له يزبُرُه وينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي .
والفحش لا يُحِبّه الله جل وعلا ، ولا خير في خلق لا يُحبّه ربُ العالمين . ولا من أحب ذلك الخُلق .
وقد قَرَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التحذير من الفحش بالتحذير من الظلم . فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آ« اتّقُوا الظّلْمَ فَإِنّهُ ظّلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتّقُوا الْفُحْشَ فَإِنّ الله لا يُحِبّ الْفُحْشَ وَالتّفَحّشَ ، وَإِيّاكُمْ وَالشّحّ فَإِنّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ، وَأَمَرَهُم بِالْقَطِيعَةِ فَقَطعُوا آ».
رواه أحمد والحاكم وابن حبان وهو حديث صحيح .
والفحش ينافي الحياء.
وأنت تلاحظ أن الإنسان الفاحش ـ في الغالب ـ يكونُ صفيق الوجه ، قليل الحياء ، يشتمُ لأتفه الأسباب ، ويسُبُّ لأدنى سبب ، بخلاف الحيي فإنه يستحي إذا سابّه أحدٌ أن يردّ عليه فلا يُتوقّع منه أن يبتدئ هو بالسب والشتم .
وهذه المعاني يوضّحها حديثُ أنس رضي الله عنه حيث يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما كان الفحش في شيء قط إلا شأنه ، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه . حديث صحيح . أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي .
كما أن الفحش ينافي الرفق . فإنك لا تجد الفاحش رفيقاً بعباد الله ، ولا رحيماً بضعفائهم ، يسُبُّ كلَّ أحد ، ويشتم كلَّ إنسان
وعند ابن حبّان : ” ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه ” .
وفي الصحيحين من حديث عائشةَ رضيَ اللّه عنها : أنّ اليهودَ أتوُا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : السامُ عليك . قال : وعليكم . فقالت عائشة : السامُ عليكم ولعنَكمُ اللّهُ وغَضِبَ عليكم . فقال رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم : مَهلاً يا عائشة عليكِ بالرفق وإياكِ والعُنف ـ أَوِ الفُحش ـ قالت : أوَ لم تَسمعْ ما قالوا ؟ قال : أَوَ لم تَسمعي ما قلتُ ؟ ردَدْتُ عليهم ، فيُستجابُ لي فيهم ، ولا يُستَجاب لهم فيّ .
فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أرشد زوجه إلى ما فيه الرفق حتى مع ألدّ أعداء الدين مع اليهود .
تأمل حال بعض السائقين عندما يمتطي صهوة سيارته لا يرى في الطريق غيره ، ولا يبصر في الدرب سواه ، فهو وحده الذي يعرف أصول القيادة وغيره همجٌ رعاع ! لا يفهمون ولا يعرفون !!
وما إن تنحرف إليه سيارةٌ -ولو شيئاً يسيراً – أو كانت حركة غير مقصودة من الآخرين إلا أخذ في السبِّ والشتم بل ربما وصل الشتم – أحياناً – الآباء والأجداد ، ومن أعطاه السيارة ومن منحه رخصة القيادة و … و…
أين هم من هذا الرفق النبوي حتى مع أعداء الله : اليهود ؟
أعْجَبُ ولا ينقضي عجبي من تلك النوعيات من الناس !
ألم يَعُدْ للحُلم موضعا ؟
هل انتهت كلمات العتاب من قواميس اللغة ؟
أليس الدعاء بالصلاح للغير أولى من السب واللعن ؟
ألـَم يمتدحُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشج عَبْد الْقَيْسِ بقوله : إِنّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللّهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ . كما عند مسلم
إن السب واللعن أمرٌ مرفوضٌ في دين الله ، ولو كان المسبوب بهيمة عجماء لا تعي ما يُقال ، ولا تدرك حقيقة السِّباب ولا تفهم الخطاب . لما في ذلك من تعوُّدِ اللسان على قول الفُحش .
روى مسلمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَىَ نَاقَة فَضَجِرَتْ فَلَعَـنَتْهَا . فَسَمِـعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا . فَإِنّهَا مَلْعُونَةٌ .
قَالَ عِمْرَانُ : فَكَأَنّي أَرَاهَا الآنَ تَمْشِي فِي النّاسِ ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ .
وعند مسلم أيضا من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاط ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيّ بْنَ عَمْرو الْجُهَنِيّ ، وَكَانَ النّاضِحُ يَعْقُبُهُ مِنّا الْخَمْسَةُ وَالسّتّةُ وَالسّبْعَةُ ، فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُل مِنَ الأَنْصَارِ عَلَىَ نَاضِـح لَهُ ، فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ، ثُمّ بَعَثَهُ فَتَلَدّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التّلَدُّنِ . فَقَالَ لَهُ : شَاءَ لَعَنَكَ اللّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ هَذَا اللاّعِنُ بَعِيرَهُ ؟ قَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ قَال : انْزِلْ عَنْهُ ، فَلاَ تَصْحَبْنَا بِمَلْعُون . لاَ تَدْعُوا عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَىَ أَوْلاَدِكُمْ ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَىَ أَمْوَالِكُمْ ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ.
هذا إذا كان في حق دابة عجماء ، فكيف بمن يسُبّ عباد اللهِ المؤمنين ؟ وكيف بمن لا يسلم منه قريب ولا بعيد ؟
وفي الصحيحين عن ثابتَ بن الضحّاك – وكان من أصحاب الشجرةِ – أنّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال : من حَلفَ على ملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال ، وليس على ابن آدمَ نَذرٌ فيما لا يَملك ، ومن قَتلَ نفسهُ بشيء في الدنيا عُذّبَ به يومَ القيامة ، ومَن لَعنَ مُؤمناً فهو كقتْلِه ، ومن قَذَف مؤمناً بكفر فهو كقتْلِه .
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للنساء : يا مَعشرَ النساءِ تَصَدّقْنَ, فإني أُرِيتكُنّ أكثرَ أهلِ النارِ. فقُلنَ: وبمَ يا رسولَ اللّهِ ؟ قال : تُكثرْنَ اللّعْنَ ، وَتَكفُرْنَ العَشيرَ . متفق عليه .
ظاهرة الفحش سِمة من سمات آخر الزمان ، ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش .
عن أبي سَبْرة قال : كان عبيد الله بن زياد يسألُ عن الحوض حوضِ محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان يُكذِّبُ به بعدما سأل أبا برزة والبراء بن عازب وعائذ بن عمرو ورجلاً آخر وكان يُكذِّب به ، فقال أبو سَبْرَة : أنا أحدّثك بحديث فيه شفاءُ هذا . إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية فلقيت عبدَ الله بنَ عمرو فحدّثني مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملى عليّ فكتبت بيدي فلم أزد حرفاً ولم أنقُص حرفاً . حدّثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يحب الفحش أو يبغض الفاحش والمتفحش . قال : ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحشُ والتفاحش ، وقطيعةُ الرحم ، وسوءُ المجاورة ، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين . وقال : ألا وإن موعدكم حوضي عرضه وطوله واحد ، وهو كما بين أيلة ومكة , وهو مسيرة شهر، فيه مثل النجوم أباريق ؛ شرابه أشد بياضاً من الفضة ، مَنْ شَرِب منه مشرباً لم يظمأ بعده أبداً.
فقال عبيد الله : ما سمعت في الحوض حديثاً أثبتُ من هذا فصدّق به وأخذ الصحيفة فحبسها عنده . رواه أحمد والحاكم وصححه ، وهو حديث حسن .
فهذا الحديث فيه علامة من علامات النبوة حيث ظهر الفحش والتفاحش في أوساط الناس .
إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لـخّص مهمة البعثة في كلمتين فقال : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق . وفي رواية ” لأتمم مكارم الأخلاق “
ألا إن الفحش ليس من الأخلاق في شئ ، فليس هو من مكارم الأخلاق ولا هو يدانيها وليس من أخلاق الإسلام .
فعن جابر بن سمرة قال: كنت جالساً في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي سمرة جالس أمامي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء ، وأن خير الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً . رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى في مسنده .
وهذه الظاهرة – أي الفحش – هي التي يفرح بها الشيطان ، بل هي مهمّته بين المصلين لقوله عليه الصلاة والسلام : إِنّ الشّيطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المُصَلّونَ وَلَكِنْ في التَحْرِيشِ بَيْنَهُمْ. رواه أحمد و مسلم والترمذي واللفظ له .
فبالتحريش بين المصلين يوقع الشيطان العداوة والبغضاء ، وهو يتّخذُ من ظاهرة الفحش سبيلاً إلى ذلك التحريش
فيبدأ الكلام والتهاتر والتطاول بين اثنين . يبدأ صغيراً فلا يزال يكبر ، ولا يزال الشيطانُ ينفخُ أوداجَ كلّ منهما ويستـبّان حتى لا يدريان ما يقولان ، وحتى لا يَعُدْ للصلح موضعاً .
ومن ذلك :
فرحُ الشيطان وتدخُّله إذا وقع السباب
ولا شك أن السباب والشتائم من الأخلاق الرديئة التي يرتضيها الشيطان لأتباعه ويحثُّهم عليها .
وقد وقع رجلٌ في أبي بكر الصديق ذات يوم يسبُّه ويؤذيه فلما ردَّ أبو بكر عليه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فعند أحمد وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رجُلٌ بِأَبي بَكْر فآذَاهُ ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْر ، ثُمّ آذَاهُ الثّانِيَةَ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْر ، ثُمّ آذَاهُ الثّالِثَةَ فانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْر . فقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْر فقَال أَبُو بَكْر : أَوَجَدْتَ عَلَيّ يَا رَسُولَ الله ؟ فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السّماءِ يُكَذّبُهُ بِمَا قَالَ لَكَ ، فَلمّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشّيْطَانُ ، فَلمْ أَكُنْ لأجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشّيْطَانُ .
قال الشيخُ الألباني عن هذا الحديث : حسنٌ لغيره .
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان بأسانيد صحيحة عن عياض المجاشعي قال : قلت : يا رسول الله الرجل يشتِمُنى من قومي وهو دوني أعليّ من بأس أن أنتصر منه ؟ قال : ” المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان ” .
قال أبو حاتم – أي ابن حبان – أطلق صلى الله عليه وسلم على المستب – شيطان – على سبيل المجاورة ، إذ الشيطان دَلَّهُ على ذلك الفعل حتى تهاتر وتكاذب .
قال ابن الأثير : أي يتقاولانِ ويتقابحانِ في القول. من الهِتر بالكسر ، وهو الباطل والسّقَط من الكلام .
وعلاج ذلك ـ وفّقك الله ـ الاستعاذةُ بالله من الشيطان وشَرْكِه
روى البخاري ومسلم عن سليمانَ بن صُرَد رضي الله عنه قال: اسْتبّ رجُلانِ عندَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فغضبَ أحدُهما فاشتدّ غضبه حتى انتفخَ وجههُ وتغير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إني لأعلمُ كلمةً لو قالها لَذهَبَ عنه الذي يجد ” فانطلقَ إليه الرجلُ فأخبرَه بقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : تَعوّذ باللّه من الشيطان . فقال : أترَى بي بأس ، أمجنونٌ أنا ؟ اذهَبْ .
فخَسِرَ التوجيه النبوي الكريم ، وظنّ أنه لا يستعيذ من الشيطان سوى المجانين .
أخي رعاك الله :
أما سمعتَ وصفَ مَعْتبَةِ النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال أنسُ بن مالك رضيَ الله عنه : لم يكنِ النبي صلى الله عليه وسلم سَبّاباَ ولا فحاشاً ولا لعّاناً ، كان يقول لأحدِنا عندَ المعتبة : ما لهُ ترِبَ جبينهُ ؟ أخرجه البخاري .
ما أجمله من عتاب ، وما أرقّـه من أسلوب ، وما أروعه من خُلق كريم ، يصدر من معلم كريم .
قال ابن القيم : جمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحُسن الخُلق ؛ لأن تقوى الله تُصلِحُ ما بين العبد وبين ربِّه ، وحُسن الخُلق يُصلح ما بينه وبين خلقِه ، فتقوى الله تُوجِبُ له محبّةَ الله ، وحُسن الخُلق يدعو الناس إلى محبته . اهـ .
أخي الكريم :
قبل أن تُطلق لنفسك العنان لشتم الآخرين أو سبّهم ، تذكّر جيداً قول الإمام الشافعي رحمه الله :
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وذنبُك مغفورٌ وعرضُك صيّنُ
لسانُك لا تذكر به عورة امـرء فكلّك عورات وللناس ألسـنُ
فإذا شتمتَ الناس أو تنقّصتَهم أو أظهرت عيوبَهم انتقصك الناس وأظهروا عيوبَك .
أخي عفا الله عني وعنك :
إذا كانت نفسُك تعُزّ عليك فصُنها من سِباب الناس ، فإن من صان لسانه عن السباب فقد صان نفسه وحمى عِرضه .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
أُحبُّ مكارمَ الأخلاقِ جَهدي
وأكره أن أعيبَ وأن أُعابـا
وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حلماً
وشرُّ الناسِ من يهوى السبابا
ومن هاب الرِّجالَ تهيّبوه
ومن حقرَ الرِّجالَ فلن يُهابـا
إن بذاءةَ اللسانِ من صفات المنافقين
ففي الصحيحين عنّ أنَس رضيَ اللهُ عنه قال: آ« قيلَ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : لو أتَيتَ عبدَ اللهِ بنَ أبيّ . فانطلقَ إليهِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وركبَ حماراً ، فانطَلَقَ المسلمونَ يمشونَ معَهُ ـ وهي أرضٌ سَبِخةٌ ـ فلمّا أتاهُ النبيّ قال: إِليك عنّي ، واللهِ لقد آذاني نَتَنُ حمارِكَ . الحديث .
والسَّبِخَة : هي الأرض التي تعلوها ملوحة ، ولا تنبت إلا بعض الشجر ، فإذا سارت عليها الدّواب أثارت الغبار .
وليس المقصود نتنَ الحمار أو رائحتَه الكريهة ـ كما زعَم ـ لكن لِمَا كان يكره من ظهور الإسلام وعُلُوِّ أهلِه .
وهم ـ أي المنافقين ـ الذين كانوا يغمزون الصحابةَ ويطعنون فيهم حتى قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغبُ بطوناً ولا أكذبُ ألسناً ولا أجبنُ عند اللقاء .
أعاذك الله من النفاق وخِصالِه .
وعند أبي داود – بسند صحيح – عن أبي جُرَىَ جَابِرِ بنِ سُلَيْم قالَ: آ« رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النّاسُ عن رَأْيِهِ لا يَقُولُ شَيْئاً إلاّ صَدَرُوا عَنْهُ ، قُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قالُوا: هَذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قُلْتُ : عَلَيْكَ السّلاَمُ يَا رَسُولَ الله مَرّتَيْنِ ، قال: لا تَقُلْ عَلَيْكَ السّلاَمُ فإنّ عَلَيْكَ السّلاَمُ تَحيّةُ المَيّتِ قُلِ السّلاَمُ عَلَيْكَ . قالَ قُلْتُ : أنْتَ رَسُولُ الله ؟ قالَ : أنَا رَسُولُ اللهِ الّذِي إذَا أصَابَكَ ضُرّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ ، وَإنْ أصَابَكَ عَامُ سَنَة فَدَعَوْتَهُ أنْبَتَهَا لَكَ وَإذَا كُنْتَ بِأَرْض قَفْر أوْ فَلاَة فَضَلّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدّهَا عَلَيْكَ قالَ قُلْتُ : اعْهَدْ إلَيّ . قال : ” لا تَسُبّنّ أحَداً “. قال : فمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرّا وَلا عَبْداً وَلا بَعِيراً وَلا شَاة . قال : وَلا تَحْقرَنّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ ، وَأَنْ تُكَلّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنّ ذَلِكَ مِنَ المَعْرُوفِ ، وَارْفَعْ إزَارَكَ إلَى نِصْفِ السّاقِ ، فإنْ أبَيْتَ فإلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإيّاكَ وَإسْبَالَ الإزَارِ فإنّهَا مِنَ المَخِيلَةِ وَإنّ الله لا يُحِبّ المَخِيلَةَ ، وَإنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تُعَيّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فإنّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ آ».
ورواه أحمد مختصراً ، وزاد : ” ولا تشتمنّ أحـدا ” .
فانظر إلى هذا التوجيه النبوي الكريم ، كم شمِلَ من الآداب الشرعية ، والأخلاق الإسلامية !
وانظر إلى قولِه عليه الصلاة والسلام : ” وَإنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تُعَيّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فإنّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْه .
ولعلّك – رعاك الله – على ذِكر من قِصةِ أبي بكر – رضي الله عنه – عندما سابّه شخصٌ فنَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السّماءِ يُكَذّبُ السابّ بِمَا قَال .
فهل رأيتَ أفضل من أن يُدافعَ عنك مَلَكٌ من ملائكة السماء .
أما إذا انتصرت لنفسِك وُكِلتَ إليها وتخلّى عنك المَلَك وتدخّل الشيطان .
وهذا يظهرُ جلياً في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر : فَلمّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشّيْطَانُ .
وهذا ابن عمر رضي الله عنهما أراد أن يلعنَ خادماً ، فقال : اللهم الع ، فلم يُتِمّها ، وقال : إنها كلمةٌ ما أُحُّب أن أقولها .
وأخرج عبدالرزاق عن سالم قال : ما لعنَ ابنُ عمر خادماً قط ، إلا واحداً فأعتقه .
وأخرج الخرائطي عن زيد بن أسلم قال : جعلَ رجلٌ يسُبُّ ابنَ عمر ، وابنُ عمرَ ساكت فلما بلغ باب داره التفت إليه فقال : إني وأخي عاصماً لا نسُبُّ الناس .
إنها التربيةُ النبوية ، والسيرةُ العُمَريّة .
والسِّباب يخدِشُ الصيام ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : وإِذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصخَب ، فإِن سابّهُ أحدٌ أو قاتَلهُ فلْيَقُلْ إِني امرؤٌ صائم ” . متفق عليه من حديث أبي هريرة .
ففيه إشعارٌ للآخرين بأنه صائم ، وليس لديه استعدادٌ للسبِّ أو الشتم .
وفيه تربية للنفس بكبح جماحجها وتعويدها على كظم الغيظ .
وهذا في حقيقته من دروس الصيام التي ينبغي أن يتربّى عليها المسلم ليس في رمضان فحسب ، بل في جميع العام .
وفي حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ” من لم يَدَع قولَ الزّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يَدَع طعامَهُ وشرابه ” . رواه البخاري .
وبوّب عليه البخاري في صحيحه : باب قولِ الله تعالى: ( وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ ) .
قال العلماء : الجهل : أي السفاهة ، وعدم الحلم ، مثل الصخب في الأسواق ، والسب مع الناس .
ولو أننا – أيها الأخوة – تربينا بهذه التربية العظيمة لخرج رمضان والإنسان على خلُق كريم .
ومما يجدرُ إيرادُه هنا وصيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الذي قال للرسولِ صلى الله عليه وسلم أوصِني قال : ” لا تَغضب ” . فردّدَ مراراً ، قال : ” لا تَغضب “. رواه البخاري
إذ ليس المقصود ألاّ يجد في نفسه الغضب أو ألاّ يشعُر بالغضب ، أو لا يغضب أبداً ، بل المقصود – والله أعلم – ألا يتصرّف حال الغضب تصرفاً لا يُحمد عليه . أما الخواطر والعواطف وخلجات النفس فإن الإنسان لا يتحّكم فيها .
ومن هنا جاء التوجيه النبوي الكريم : إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فأنت – رعاك الله – تتحكم في تصرُّفاتك وليس الناس هم الذين يتحكّمون في تصرفاتك
وهذا يتّضح جلياً في قوله عليه الصلاة والسلام : لَيْسَ الشّدِيدُ بِالصّرْعَةِ . قَالُوا : فَالشّدِيدُ أَيّمَ هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : الّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . متفق عليه .
أي : يملك نفسه وتصرُّفاتِه ، فلا يتسخّط ، ولا ينبني على غضبِه سبابٌ أو شتمٌ لعباد الله ، أو تعد عليهم باليد أو باللسان .
وهذا هو الشديد القوي الذي يكبحُ جِماحَ نفسِه ، ولا يُطلقُ لنفسه العنان .
عن ابنَ عبّاس رضي اللّه عنهما قال : قَدِمَ عُيينةُ بن حِصن فنزلَ على ابن أخيهِ الحرّ بن قيس ، وكان – أي الحر – من النفر الذين يُدنيهم عمرُ ، وكان القُرّاء أصحابَ مجالسِ عمرَ ومشاورتِهِ كهولاً كانوا أو شُبّاناً. فقالَ عُيينةُ لابن أخيه : يا ابنَ أخي لكَ وجه عندَ هذا الأمير ، فاستأْذِنْ لي عليه ، قال: سأستأذنُ لك عليه . قال ابنُ عباس : فاستأذَنَ الحرّ لعُيينة ، فأذِنَ له عمر فلما دخل عليه قال : هِيْ يا ابن الخطّاب ، فو اللهِ ما تُعطينا الجَزْل, ولا تَحكُم بيننا بالعدل . فغضبَ عمرُ حتى همّ به فقال له الحرّ : يا أمير المؤمنين ، إن اللهَ تعالى قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وإنّ هذا من الجاهلين . واللهِ ما جاوزَها عمرُ حينَ تلاها عليه وكان وقّافاً عند كتاب اللّه . رواه البخاري ، وقال : العرف : المعروف .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما العِلمَ بالتعلُّم والحِلْم بالتّحلُّم
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخُدريّ رضيَ اللّهُ أنّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ” ومَن يَتصبّرْ يُصبّرْهُ اللّه ، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ منَ الصبر ” .
فمن أراد أن يُصبحَ حليماً فليُعوِّد نفسه على الصفح والعفو ، كما أن العلم لا يُنالُ براحة الجسد ، بل لابد من الصبرِ عليه وتحمُّلِ الأذى في سبيله ، وكان العلماء يقولون : من لم يتحمل ذُلّ التعلم ، عاش في ذُلّ الجهل .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهَ صلى الله عليه وسلم قَال : أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ . فَقَالَ : إِنّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَة وَصِيَام وَزَكَاة وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَـَذَا ، وَقَذَفَ هَـَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَـَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَـَذَا ، وَضَرَبَ هَـَذَا فَيُعْطَىَ هَـَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَـَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَىَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ .
والشاهد قوله عليه الصلاة والسلام : ” وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَـَذَا ” فالشتم من أسباب فناءِ الحسنات والإفلاسِ يوم القيامة ، وبالتالي سببٌ لدخول النار . عافانا الله وإياك .
أرأيت – أخي – خطورة الفُحش من القول ، وأن عاقبةَ السبِّ والشتم وخيمة . فكلُّ من سببتَه أو شتمتَه ولم يَعفُ عنك فإنه سيأتي يوم القيامة ـ في يوم أحوج ما يكون فيه الخلق إلى الحسنات ـ ليأخذ من حسناتك فإن قل الرصيد من الحسنات خفِّفَ عنه من سيئاته وطرحتْ عليك ـ أجارك الله من ذلك ـ .
أخي – رعاك الله –
ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذَا اسْتَفْتَحَ الصّلاَةَ كَبّرَ ثُمّ قَال : إنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللّهُمّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلاّ أَنْتَ وَقِنِي سَيّـىءَ الأَعْمَالِ وَسَيّـىءَ الأَخْلاَقِ لاَ يَقِي سَيّئَهَا إلاّ أَنْتَ . رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب .
ولما سأل أبو ذرّ رضي الله عنه رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَال : الإِيمَانُ بِالله وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ . قَالَ : قُلْتُ : أَيّ الرّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعْلاَهَا ثَمَنا . قَالَ : قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ ؟ قَال : تُعِينُ صَانِعا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ . قَال : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ ؟ قَال : تَكُفّ شَرّكَ عَنِ النّاسِ ، فَإِنّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ . متفق عليه .
فالمسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده .
يعني إذا عجَز المسلم عن العمل وعن إعانة الآخرين فلا أقلَّ من أن يكُفَّ شرَّه عن الناس ، وهو المستفيد إذ أن فِعلَه هذا صدقةٌ منه على نفسه .
وقد أوصى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا ذرّ بتقوى الله ومخالقة الناس بخُلُق حسن . فعن أَبِي ذَر قالَ: قالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : اتّقِ الله حَيْثُ مَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السّيّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النّاسَ بِخُلُق حَسَن . رواه أحمد والترمذي وقال : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . ورواه الدارمي ، وهو حديث حسن .
فهل من يكيل للناس السِّبابَ والشتائم اتّقى الله وخالقَ الناسَ بخُلُق حسن ؟ أو أنه لم يتّقِ الله في عبادِ الله ، ولم يُخالقِ الناسَ بِخُلُق حسن ، بل خَالَقَهُم بخُلُق سيئ ؟
وهنا :
هل صاحِب سوء الخلق يُحرَم ثواب العمل ؟
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=4768
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم