جوانب مشرقة وصفحات مضيئة من حياة الجاهلية الأولى !!
لست مُمجّـداً للجاهلية الأولى ، ولا مُثنيـاً على أهلها !
وإنما أردت أن أُبرز بعض الجوانب التي افتقدتها جاهلية الألفية الثالثة !
وحتى لا يعترض عليّ معترض أود التذكير بأن النبي صلى الله عليه على آله وسلم قال : إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وفي رواية : لأتمم صالح الأخلاق (1) .
فالتتميم لا يكون إلا على شيء موجود ، ويحتاج إلى تكميل ، فكُن – رعاك الله – على ذِكر من ذلك .
لقد كانت هناك جوانب مشرقة ، وصفحات مضيئة
فلقد كان للجوار حقّـه عند أهل الجاهلية
وكان للوفاء بالعهد والذِّمة قدره
وكانت الرُّسل لا تُقتل ، وهذه أعراف دولية !
وكان للحرم حُرمته وتعظيمه
وكان للحياء نصيب بقية
وإلى تفصيل ذلك
فقد ذكر أهل السيَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال : أنا حليف ! والحليف لا يجير . فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال : إن بني عامر لا تجير على بني كعب ! فبعث إلى المُطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك ، ثم تسلح المُطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطاف بالبيت وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله .
وكان الإنسان إذا أجار شخصا اُحتُرِم ذلك الجوار وما يجرؤ عليه أحد
لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر – رضي الله عنه – مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدّغِنة وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . قال ابن الدغنة : إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج ، فإنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكَلّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار . فارجع فاعبد ربك ببلادك ، فارتحل ابن الدغنة ، فرجع مع أبي بكر ، فطاف في أشراف كفار قريش ، فقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج . أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويَقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة ، وآمنوا أبا بكر ، وقالوا لابن الدغنة : مُـر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل ، وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ، ولا يستعلن به . فإنا قد خشينا أن يَفْتِنَ أبناءنا ونساءنا . قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يُعجبون وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم فقالوا له : إناكنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره ، وإنه جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن الصلاة والقراءة ، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأتِه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يردَّ إليك ذمتك فإنّـا كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه ، فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترد إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفِرت في رجل عقدت له . قال أبو بكر : إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله . رواه البخاري .
والشاهد هنا :
فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة ، وآمنوا أبا بكر .
فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفِرت في رجل عقدت له .
ولما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة قال : والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يَلقون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي ! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس وَفَـتْ ذمّـتك ، وقد رددت إليك جوارك . قال : لِـمَ يا ابن أخي ! لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال : لا ولكني أرضى بجوار الله عز وجل ، ولا أريد أن أستجير بغيره . قال : فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية ، كما أجرتك علانية . قال : فانطلقا ثم خرجا حتى أتيا المسجد ، فقال لهم الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد على جواري . قال لهم : قد صدق . قد وجدته وفـيّـاً كريم الجوار ، ولكني قد أحببت أن لا أستجبر بغير الله ، فقد رددت عليه جواره ، ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة في المجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد وهو ينشدهم :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
فقال عثمان : صدقت . فقال : وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان : كذبت ! نعيم أهل الجنة لا يزول . قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش والله ما كان يُؤذى جليسكم . فمتى كان هذا ؟ فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا ! فلا تجِدنّ في نفسك من قوله . فَـرَدّ عليه عثمان حتى سرى – أي عظم – أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها ! والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال : أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنيّة ، فقد كنت في ذمة منيعة ! فقال عثمان : بلى والله ! إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ، وإني لفي جوار من هو أعـزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس . فقال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه
فإن تكُ عيني في رضا الرب نالها ***يدا ملحد في الدين ليس بمهتد
فقد عوّض الرحمن منها ثوابه *** ومن يُرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غـوي مُـضلل *** سفيه على دين الرسول محمد
أريد بذاك الله والحـق ديننا *** على رغم من يبغي علينا ويعتدي
وهذا من احترام العهد والجوار .
وكانت الرسل لا تُقتـل ، وهذا يكاد يكون من الأعراف الدولية من قبل الإسلام !
جاء بن النّوّاحة وابن آثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما : أتشهدان أني رسول الله ؟ قالا : نشهد أن مسيلمة رسول الله ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمنت بالله ورسله . لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما . قال عبد الله بن مسعود : فمضت السنة أن الرسل لا تُـقتل . رواه الإمام أحمد .
وجاء في رواية عند الدارمي أن ابن مسعود – رضي الله عنه – لقي النّوّاحة فضرب عنقه . فقالوا له : تركت القوم وقتلت هذا ؟ فذكر القصة .
فابن النّوّاحة كان في المرة الأولى رسولاً فعصم ذلك العُرف دمـه ، وفي المرة الثانية شهد أن مسيلِمة رسول ! فما نفعه مسيلمة !!
وهذا النعمان بن مقرِّن يُغلظ القول ليزدرجرد ملك الفُرس في حوار طويل فيقول له يزدجرد :
لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم .
وأما بقية الحياء عندهم فمنه ما جاء في قصة إسلام أبي ذر – وهي قصة طويلة – قال فيها : فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم فما يطوف بالبيت أحد ، وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة قال : فأتتا عليّ في طوافهما فقلت : أنكحا أحدهما الأخرى . قال : فما تناهتا عن قولهما . قال : فَأَتَتَا عَلَيَّ . فَقُلْتُ : هَـنٌ مِثْلُ الْخَشَبَة ِ. غَيْرَ أَنِّي لاَ أَكْنِي . فانطلقتا تولولان وتقولان : لو كان ههنا أحد من أنفارنا . قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان قال : ما لكما ؟ قالتا الصابئ بين الكعبة وأستارها قال : ما قال لكما ؟ قالتا : إنه قال لنا كلمة تملأ الفـم ! رواه مسلم .
وروى البخاري ومسلم علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام وكلنا فارس . قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتاب . فقالت : كتاب ! فأنخناها فالتمسنا فلم نرَ كتابا فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنَّكِ ، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته .
فهذه المرأة لم ترضَ أن تُجرّد من الثياب وهي امرأة مُشركة .
وتلك النسوة لم يرضين بسماع كلمة شاذّة .
وهذا يدل على أن أهل الجاهلية كان عندهم بقية من حياء .
وأما مراعاة الحرم فقد كان أهل الجاهلية يُراعون حُرمة البيت الحرام ، بل ويُعظّمون الدعاء عنده .
ولذا لما صلّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب لـه جلوس إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يـجـيء بِسَـلَى جزور بني فلان ، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ؟ فانبعث أشقى القوم ، فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه . قال ابن مسعود : وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي مَنَعَـة . قال : فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره فرفع رأسه ثم قال : اللهم عليك بقريش – ثلاث مرات – فشقّ عليهم إذ دعـا عليهم . قال : وكانوا يَـرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة . ثم سمّى : اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط – وعد السابع فلم نحفظه – قال ابن مسعود : فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عـدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر . رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : وفي الحديث تعظيم الدعـاء بمكـة عند الكفار ، وما ازدادت عند المسلمين إلاّ تعظيماً ، وفيه معرفة الكفار بِصِدْقِـه صلى الله عليه وسلم لخوفهم من دعائه ، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له .
ومن تعظيم للحرم أنهم لما أعادوا بناء الكعبة اشترطوا أن لا يدخل في بنائها مهر بغيّ ! ولا ربـا !
( هذه الأشياء مستقبحة حتى عند أهل الجاهلية الأولى ) !!
ولذا قال – عليه الصلاة والسلام – لعائشة : إن قومك قصُرت بهم النفقة – يعني في بناء الكعبة – أي لأجل ذلك الشرط الذي اشترطوه في البناء .
ومن ذلك أنهم لما أرادوا قتل خبيب – رضي الله عنه – خرجوا به خارج حدود الحـرم !
أخلص من هذا أن الجاهلية الأولى كان لديهم بقية من أخلاق فاضلة توارثوها .
ولذا قال – عليه الصلاة والسلام – : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت . رواه البخاري .
قال ابن رجب – رحمه الله – :
مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : يُشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين ، وأن الناس تداولوه بينهم ، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن .
أخيراً :
قارن هذه المعاني والأخلاق بأخلاق أرباب الحضارة المادية !
وقارن جاهلية أبي جهل بجاهلية الألفية الثالثة !
لترى أن البون شاسعاً ، والفرق كبيراً ، فيا بُـعـد ما بينهما !
إن أبا جهل قتل امرأة واحدة – هي سُميّة – وعُـيِّـر بتلك الفِعلة !
فأين هذا ممن يقتل الأطفال في العراق ؟؟
وأين هذا ممن قتل الأطفال والشيوخ في أفغانستان ؟؟
وأين هذا ممن قتل ولا يزال يقتل الأطفال والشيوخ في فلسطين ؟؟
لِتعلم أن وجه جاهلية أبي جهل خير من وجه جاهلية الأبواش الأوباش !!
—————
(1) حديث : إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخـلاق ، وفي رواية ، لأتمم مكارم الأخلاق .
رواه أحمد ( 2/ 381 ) وابن أبي شيبة ( 6/324 )والحاكم (2/670 ) وقال : صحيح على شرط مسلم ، وتعقّبه الألباني ( الصحيحة 1/112 ) بقوله : وابن عجلان إنما أخرج له مسلم مقروناً .
قال الهيثمي في المجمع (9/15 ) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، ورواه البزار إلا أنه قال : لأتمم مكارم الأخلاق . ورجاله كذلك ، غير محمد بن رزق الله الكلوداني ، وهو ثقة .
والرواية الثانية : رواها البيهقي في الكبرى ( 10/191 ) والقضاعي في مسند الشهاب (2/192 ) ويُنظر كلام حافظ المغرب ابن عبد البر في فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر للمغراوي (10/256، 257) .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم