جاوزت حَـدّ الأربعين
وقفت طويلا أتأمّل قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .
ولماذا كانت الأربعين هي الحـدّ الفاصل ؟
لماذا لم تكن الثلاثين ؟ باعتبار أنها منتصف العمر تقريباً
إذا كانت السِّـتِّين هي مُعتَرك المنايا ، وكانت أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك . كما في الحديث .
فإن المنتصف تقريبا هو سِـنّ الثلاثين .. فلماذا جاء في الآية (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ؟
يظهر – والله أعلم – لأن الأربعين هي سنّ الأشدّ ، ولذا قال في أول الآية : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) .
ولأن سِنّ الأربعين غالبا يَذْهَبُ معها السَّفَه ، فقال عن ذي الأربعين : (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) .
ولذا من شاب على السَّفَـه لا يُرجئ برؤه غالباً !
ولذا قيل :
وإن سفاه الشيخ لا حُلْمَ بعده =وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
ولأن الإنسان في هذا العمر يكون غالباً قد رُزِق الذرية ، ويهمّه صلاح ذريته ، ولذا قال : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) .
كما أن الإنسان في صعود في سِـنِـيّ عُمره حتى يبلغ الأربعين ، فإذا بلغها كان كالذي يصعد جبلا ، فبَلَغ قمّـتَـه ، فما بعد الصُّعود إلا الهبوط ، وما بعد الوصول إلى القمة إلى الانحدار !
وعادة يكون الصعود أصعب من الهبوط
ويستغرق الصعود وقتا أطول من النُّـزول
فالإنسان في صعود في سنوات عمره طيلة أربعين عاماً ..
فإذا بلغها بدأ بالهبوط والانحدار ، والهبوط أسرع ، فصاحب الأربعين بدأ بالهبوط سريعاً نحو مُعتَرك
المنايا .. نحو السِّـتِّين ، أو السبعين ..
قال الإمام القرطبي : ففي الأربعين تناهى العقل ، وما قبل ذلك وما بعده مُنتقص عنه .
ولذلك يقول الذي بَلَغ الأربعين (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
وهذا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام حينما تحققت رؤياه ، ونال مُناه من هذه الدنيا بِجمْع الشَّمل ، والتِئام الأهل : (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ثم قال : (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ..
فلما بَلَغ التَّمام سأل ربَّـه الوفاة على الإسلام ، واللحاق بالصالحين ..
لأنه ليس بعد التمام إلا النقص ..
قال أبو البقاء :
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان = فلا يُغَـرّ بِطِيبِ العَيش إنسان
وقيل :
إذا تم أمر دَنا نقصه = توقع زوالاً إذا قيل تمّ
إذا فالأربعين نهاية الشباب ، وبداية المشِيب ..
قال سُحيم بن وثيل الرياحي :
وماذا يبتغي الشعراء مِنِّي = وقد جاوزت حد الأربعين ؟!
تذكّرت هذه المعاني ، وتَدَاعتْ في الذِّهن حينما نظرت في المرآة ، فقلت الدعاء المأثور :
” اللهم كما حسنت خلقي فأحسن خلقي “
ورأيت الشيب غـزا جَنَبات رأسي !
فعلمت أن هذا نذير !
وأني بدأت بالهبوط الاضطراري نحو مُعتَرك المنايا !
وأن النذير ينعب بمفارق رأسي !
قال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال الإمام البخاري : يعني الشيب .
قال ابن جُزي في تفسير الآية : وقيل : يعني الشيب ، لأنه نذير بالموت .
وقال ابن كثير : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وعكرمة ، وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه ، وقتادة ، وسفيان بن عيينة أنهم قالوا : يعني الشَّيْب !
قال القرطبي : والشيب نذير أيضا ، لأنه يأتي في سن الاكتهال ، وهو علامة لِمُفارَقة سِنّ الصِّـبَا الذي هو سِنّ اللهو واللعب . قال :
رأيت الشيب من نذر المنايا = لصاحبه وحسبك من نذيـر
وقال آخر :
فقلت لها : المشيب نذير عمري = ولست مُسَوِّداً وجه النذير
انتهى كلام القرطبي ..
يُروى – في أخبار بني إسرائيل – أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان مؤاخياً ملك الموت ، وكان من عادة المَلَك زيارته بين الحين والحين .. وذات يوم قال نبي الله يعقوب عليه السلام : يا ملك الموت أزائراً جئت ، أم قابضاً روحي ؟
فقال المَلَك : جئت زائراً .
قال يعقوب عليه السلام : لي عندك رجاء .
فقال المَلَك : وما هو ؟
قال يعقوب عليه السلام : أن تُخبرني إذا دنا أجلي ، وأردت أن تقبض روحي .
فقال المَلَك : نعم .. سوف أُرسل لك نُذُراً من رسولين أو ثلاثة .
ومرت الأيام والأعوام وانقطعت الزيارة بينهما .
فلما انقضى أجل يعقوب عليه السلام أتى إليه ملَك الموت .. فقال له نبي الله : أزائراً جئت أم قابضاً ؟
فأجابه المَلَك : جئت قابضاً ..
قال يعقوب عليه السلام : أوَ لستَ كنت أخبرتني أنك سترسل لي رسولين أو ثلاثة قبل زيارتك هذه ..
قال ملَك الموت : قد فعلت .. أرسلت لك ثلاثة رسل :
بياض شعرك بعد سواده .
وضعف بدنك بعد قوّته .
وانحناء ظهرك بعد استقامته .
هذه رسلي يا نبي الله لأولاد آدم قبل زيارتي لهم – أي قبل الموت .
قال ابن عبد البر :
كان هشيم يخضب بالسواد ، فأتاه رجل فسأله عن قول الله عز وجل : (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) فقال له : قد قيل له إنه الشيب . فقال له السائل : فما تقول في من جاءه نذير من ربه فَسَوَّدَ وجهه ؟! فَتَرَكَ هُشَيم الخضاب بالسواد .
والله المستعان ..
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
الرياض
الجمعة 16/6/1426 هـ