ثبت العرش ثم انقش
وهذا مثل سائر يُقال عند كثرة الدعاوى التي لا تستند إلى دليل واضح ولا إلى حجة بينة
فيُقال للخصم : أثبت العرش ثم انقش
وكان الشيخ الألباني رحمه الله كثيراً ما يتمثل بهذا المثل في إثبات المسائل والأدلة .
ويقصد بذلك أحيانا إثبات صحة الحديث قبل الاستدلال به .
وما أقصده هنا هو ما يُزعم من وقوع بعض العلماء والدعاة في بعض البدع
فأقول : أثبتوا أولاً أنها بِدع ، ثم ناقشوا
فقد تكون المسألة مما يسوغ فيها الخلاف ، ولكن لهوى في النفس – أحياناً – تُشن الغارات على فلان أو علاّن ، وفي حقيقة الأمر يكون ذلك الكلام مما يقول عنه السلف : يُطوى ولا يُروى . وهو كلام الأقران بعضهم ببعض .
وقد يكون الخطأ في المنهج ، ويكون مما وقع فيه الخلاف ، ولجهل القادح – أحياناً – لا يعلم أن هذه المسألة وقع فيها الخلاف بين السلف .
وقد يكون الخطأ المنهجي ليس خطأ بقدر ما هو اختلاف تنوّع
كيف ؟
أن يتصوّر القادح أن المسألة التي يتكلّم فيها منهجية ( ذات علاقة بالمنهج ) وليست كذلك .
فليس منهج السلف عمل شخص ولا ثلاثة بل هو المنهج المتّبع عند سلف الأمة
ولعلي أضرب على ذلك مثالاً واحداً :
مسألة الإنكار العلني على الوالي
يتنازع المسألة طرفان :
طرف يرى أن الإنكار العلني خطأ ، وأنه خلاف منهج السلف
وطرف يرى أن في الأمر سعة ، وأنه عمل به بعض السلف
والمسألة هنا مما يسوغ فيها الخلاف
فمن رأى الرأي الأول استدلّ بأحاديث وآثار
ومن رأى الرأي الثاني كذلك استدل بأحاديث وآثار
ومما يستدل به الطرف الأول :
قوله عليه الصلاة والسلام : من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبدِه علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به ، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدّى الذي عليه . رواه ابن أبي عاصم في السنة .
ومما يستدلّون به :
قول أسامة رضي الله عنه وقد قيل له : ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم ترون أن لا أكلمه إلا أسمعكم ؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن افتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه . رواه الإمام أحمد .
وعموم الأدلة الدالة على الإسرار بالنصيحة .
ومما يستدل به الطرف الثاني :
قوله عليه الصلاة والسلام : إن من أعظم الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر . رواه الإمام أحمد وغيره .
فقوله ( عند سلطان ) أي في مجلسه وليس بينه وبينه سراً .
ومما استدلوا به :
قول عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه وقد رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قبح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة . رواه مسلم .
وهذا إنكار علني بل أمام الملأ ، وعلى أمير من الأمراء .
وهكذا في كل مسألة يُتصوّر أنها خلاف المنهج أو خلاف عمل السلف .
فالخلاف قد وقع في مثل هذه المسألة بين خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فكيف بمن بعدهم ؟
وهذا على سبيل المثال .
وإلا فإن الأمثلة كثيرة .
ليُعلم أن من الخلاف ما يسوغ ومنه ما لا يسوغ
وأين أولئك القادحين المُجرّحين من فعل السلف ؟
لقد روى أئمة أهل السنة في أمهات كتب السنة عن أهل البدع !
فالبخاري روى عن عمران بن حطان الخارجي ، بل هو رأس القعدية من الصّفرية وخطيبهم وشاعرهم !
وروى عمر بن ذر الهمداني الكوفي ، وكان ثقة يرى الإرجاء ، بل قال أبو حاتم فيه : كان صدوقاً مُرجئاً ، وقال فيه أبو داود : كان رأساً في الإرجاء .
والإمام مسلم روى عن إمام من أئمة الشيعة ! هو عدي بن ثابت
وروى عنه حديثاً في فضائل علي رضي الله عنه !
فقد روى الإمام مسلم عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر قال : قال عليّ : والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .
وعديّ هذا قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله : ثقة ، لكنه قاصّ الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة .
وفرق بين الشيعي وبين الرافضي ، فالرافضي لا يُروى عنه ولا كرامة ، كما قال الإمام الذهبي .
أقول :
وهؤلاء ثبت فيهم هذا الكلام أو بعضه ، ومع ذلك حمل عنهم أهل السنة ورووا عنهم .
ولا يعني هذا التهوين من شأن البدعة بل البدعة بدعة ، وهي أحب إلى الشيطان من الكبيرة
ولكني أقصد الإشارة إلى مُعاملة أهل البدع
وكل بحسب بدعته
فلا يُعامل المرجئ كما يُعامل الرافضي
بل لا يُعامل مُرجئة الفقهاء كما تُعامل الغُلاة منهم
و ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْرًا )
وقبل فترة تكلّم أحد الدعاة بكلمة حُملت على أبشع مَحمَل وعلى أسوأ مقصد
وذلك أنه قال في دعائه : أنت . يعني بذلك الله .
فشُنّع عليه وطُيّرت في الآفاق ، وبلغت المشارق والمغارب
ولو تأمل المنكر لما سارع في إنكاره
ألم يقل نبي من أنبياء الله : ( لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ؟
والقاعدة عند أهل العلم :
أن العالم لا يُتابع على زلّته
ولا يُتّبع في زلّته
وأفضل من رأيته فصّل في ذلك معالي الشيخ صالح آل الشيخ – وفقه الله – في محاضرة له بعنوان :
الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء .
فأنصح بسماعها وإسماعها
وأنا سأفترض أن ذلك الداعية أخطأ بنسبة 100 % في هذه المسألة .
فما هو الحق والصواب في هذه المسألة ؟
هل يُشنّع عليه ؟
هل يُشهّر به ؟
هل نكون عوناً للشيطان عليه أو عوناً له على الشيطان ؟
ولذا قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة محمد بن نصر المروزي – : ولو أنا كلما أخطـأ إمـام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفـوراً لـه ، قُمنا عليه وبدَّعْنَاه وهجرناه ، لما سَلِمَ معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحق ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة .
وقد وضع ابن القيم رحمه الله قاعدة في التعامل فقال رحمه الله :
معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم ، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسـول ، فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها ، لا يوجب اطّراح أقوالهم جملة ، وتنقصهم والوقيعة فيهم فهذان طرفـان جائران عن القصد ، وقصد السبيل بينهما ، فلا نُـؤثِّم ولا نُعصِّـم ولا نسلك بـهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ، ولا مسلكهم في الشيخين بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحـابة ، فإنـهم لا يُؤثِّمـونـهم ولا يُعصِّمونـهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونـها ، فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة ، ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسـلام ، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين : جاهل بمقدار الأئمـة وفضلهم ، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بـها رسوله ، ومَنْ له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الـذي لـه في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة ، وهو مِنْ الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفـوة والزلّة ، هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده ، فلا يجـوز أن يُتبع فيهـا ، ولا يـجوز أن تُـهدر مكانتـه وإمـامته ومنـزلته من قلوب المسلمين .
هكذا فليكن قدر أهل العلم .
ولكن لما استساغت نفوس بعض الناس الوقيعة في بعض الناس واستمرؤوه صبغوا تلك الوقيعة والغيبة بل والبهتان بصبغة شرعية تحت شعار ” الجرح والتجريح ” ليجدوا لهم مُسوّغاً للوقيعة وانتهاك أعراض عباد الله بغير حق !
فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم