تُرِيدِين لُقْيَان الْمَعَالِي رَخِيصَةً ؟
إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل .
وإن ورثة الأنبياء لهم نصيبهم من ذلك البلاء بِقَدْرِ ما تَحَمَّلُوا من ذلك الميراث ، وعلى قَدْرِ ما كُتِبَ لهم من منازل ودرجات في العُقْبَى
وحاملةُ لواء الدعوة اليوم أشدّ بلاء لِقِلَّةِ الْمُعِين وكَثْرَة المفْسِدِين ..
وهذا ما شَكَاه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مِنْ شَكْوى : جَلَد الفاجِر وعَجْز الثقة .
وقد يكون البلاء بعدم استجابة المدعوّين ، فعلى الداعية حينئذ أن يَتَعَزَّى – بعد تَفَقُّدِ النفس – بـ ” يأتي النبي وليس معه أحد ” . كما في الصحيحين .
وقد يكون البلاء مِن تَخَاذُلِ قريب أو خُذلان حَبيب
وهذا أشدّ على النفس من وَقْعِ الحسام المهند !
يخادعني العدو فما أُبالي = وأبكي حين يَخْدَعُني الصَّدِيقُ
وقد يكون ِبنَقْد لاذِع .. أو بِغَمْز جارح
أو بكلمة حادّة تصل إلى سويداء القلب ، فتغرِز فيه خنجَراً ، وتَتْرُك فيه أثراً !
إلى غير ذلك من أنواع البلاء
وعلى كُلّ فإن طريق الدعوة ليس محفوفا بالورود
بل هو محفوف بالمخاطر .. مَفْرُوش بالبلاء .. يَحُفّـه الأذى .. وقد يكتنفه الرَّدَى
على قدر فضل المرء تأتي خُطُوبُه = وتُعرَف عند الصبر فيما يُصِيبُه
ومَنْ قَلَّ فيما يَتَّقِيه اصْطِبَـاره = فقد قَـلَّ مما يَرْتَجِيـه نَصِيبُـه
قال ابن القيم :
يا مخنّث العزم ! أين أنت والطريق طريقٌ تَعِبَ فيه آدم ، وناح لأجله نُوح ، ورُمِي في النار الخليل ، وأضْجِعَ للذَّبْحِ إسماعيل ، وبيع يوسف بِثَمَن بَخْس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشِرَ بالمنشار زكريا ، وذُبِحَ السيد الحصور يحيى ، وقَاسَى الضُّرّ أيوب ، وزاد على المقدار بكاء داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعَالَجَ الفقر وأنواع الأذى محمد – تَـزها أنت باللهو واللعب ؟! . اهـ .
وكما أن دون الشهد إبر النحل فإن دون العلياء أصناف البلاء
ودون تَسَنُّم الذُّرَى أنواع الابتلاء
ذريني أنَلْ ما لا يُنال مِن العُلا = فَصَعْبُ العُلا في الصَّعْبِ والسَّهْلُ في السَّهْلِ
تُريدِين لُقْيان المعالي رخيصـةً = ولا بُـدّ دون الشَّهْـد مِـن إبـرِ النَّحْلِ
ودون الصعود إلى القمة تحمّل المشقّة ، واحتمال السقوط
ومن يتهيّب صعود الجبال = يَعِش أبد الدهر بين الْحُفَر
ودون التَّمْكِين للشيطان كَمِين !
سئل الإمام الشافعي رحمه الله : أيما أفضل للرجل أن يُمَكَّن أو يُبْتَلَى ؟ فقال : لا يُمَكَّن حتى يُبْتَلَى .
قال ابن القيم : والله تعالى ابْتَلَى أولي العزم من الرُّسُل فلما صبروا مَكَّنَهَم ، فلا يَظُنّ أحد أنه يَخْلُص من الألم البتة ، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول ، فأعقلهم مَنْ بَاعَ أَلَماً مُسْتَمِراً عظيماً بِأَلَم مُنْقَطِع يسير ، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر . اهـ .
فالابتلاء سُـنَّـةٌ ماضية
وطَـرِيقٌ سـِالكـة
وكم أجرى الله من أنواع النعماء بعد الصبر على البلاء
ولذا عُدّ البلاء من النعماء التي يجب أن تُذكَر فَـتُشْكَر
قال عليه الصلاة والسلام : من أُبْلِي بلاء فَذَكَرَه فقد شَكَرَه ، وإن كَتَمَه فقد كَفَرَه . رواه أبو داود .
وكم من كريم يُبْتَلَى ثم يَصْبرُ ؟
وقول الله أصدق وأبلَغ : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)
فلا تُنال الإمامة في الدِّين إلا بالصبر واليقين ..
فلرُبّما كان الدُّخول إلى العُلا = والْمَجْدِ من بَوَّابَةِ الأحزانِ
ودون دعوى المحبّة إثبات صِدْق قَدَم الصِّدق
فإن الله إذا أحبّ قوما ابتلاهم
والله يبتلي عِباده ، بل يبتلي الصفوة منهم لتظهر معادنهم
فالإنسان يُبتلى ليُهيأ للجنة
و ” ليس المراد أن يُعذَّب ولكن يُبْتَلَى لِـيُهَذَّب ” كما يقول ابن القيم .
فالمؤمن يُهيأ لِوطنه الأصلي .. فيُطهّر من دَرَنِ الدار ، ومن شَعَثِ الأسفَار !
ودون الانتقال إلى دار الكرامة تَطهير وطَهارة
وفيما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : ” لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يَلْقَى الله وما عليه من خطيئة ” رواه الإمام أحمد والترمذي .
قال ابن القيم : الدنيا مجاز والآخرة وَطَن ، والأوطار إنما تُطْلَبُ في الأوطان .
وقال :
فَحَيَّ عَلى جنات عدن فإنها = منازلك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبي العدو فهل تُرى = نعود إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ ؟
ومن خَطَب الحسناء بَذَل مُهجَةَ الـنَّفْسِ !
ولن تَعْرِف النفس النعيم وعِزّه = إذا جَهِلَتْ حال المذلّـة والضرّ
تَهُـون علينا في المعالي نفوسنا = ومن يخطب الحسناء لم يُغْلِها مهر
الداعية .. سَمَتْ نفسه ، وعَلَتْ هِمّـتُه .. حتى عانَقَتِ السَّحَاب
فهو يسعى بِنفس واحدة لِهموم شَـتّى
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها = فالنفس واحدة والهمّ منتشر
والمرء ما عاش مَمْدود له أمَـل = لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
وإن تَعجَب فاعجَب لِصبْرِ أهل الباطل مع ما يُقاسُون من شدّة وانتقاد ، رغم أنهم لا يَرجون من الله جزاء ، ولا مِن خَلْقِه شُكورا .
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : كنت كثيرا أسمع والدي يقول : رحم الله أبا الهيثم . غفر الله لأبي الهيثم . عَفَا الله عن أبي الهيثم . فقلت : يا أبتِ من أبو الهيثم ؟ فقال : لما أُخْرِجْتُ للسياط ومُدَّتْ يداي ، إذا أنا بشاب يَجْذِبُ ثوبي من ورائي ويقول لي : تعرفني ؟ قلت : لا . قال : أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرّار ! مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُرِبْتُ ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق ، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا ! فاصْبِرْ أنت في طاعة الرحمن لأجل الدِّين . قال : فضُربت ثمانية عشر سوطا بدل ما ضُرِبَ ثمانية عشر ألفا ، وخَرَجَ الخادم فقال : عَفَا عنه أمير المؤمنين .
فائدة : في لسان العرب :
الطرار : هو الذي يَشُقّ كُمَّ الرَّجُل ويَسِلّ ما فيه ، من الطرّ وهو القطع والشق .
أهل الباطل يَصبِرون وهم لا يَرْجُون
بل إنهم يتألّمون ويَصبِرون !
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)
أفلا يكون أوْلَى بالصبر من يَرجو لقاء الله ؟!
بلى والله .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
الرياض
السبت 6/8/1426 هـ