المحبّـة – أنواعها وضوابطها
الحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أُخرِجت للناس ، وألبسنا لباسَ التقوى خيرَ لباس ، فله الحمد والمنة
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
أشهد أن ربي واحدٌ ماجد ، حييّ كريم ، عظيم حليم .
أشهد أنه واحد في ذاته ، واحد في ربوبيته وألوهيته ، واحدٌ في أسمائه وصفاته
لا شبيه له ولا نِـدّ ولا مثيل ولا نظير ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله
أشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك
فصلاة ربي وسلامه عليه أزكى صلاة واتم تسليم
وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين
أما بعد :
فإن للقلوب أعمالاً كما للجوارح
وربما بلغ المسلم أو المسلمة بأعمال قلبه ما لا يبلغه بأعمال جوارحه
فيقوم في قلبه من حُبّ الله وتعظيمه وإجلاله ومهابته وخشيته وخوفه ورجائه والإنابة إليه ما يكون أفضل من صلاته وصيامه وحجِّـه .
ومن تأمل الكتاب والسنة وجد ذلك واضحاً جلياً .
قال سبحانه وتعالى عن نبيِّـه داود : ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب )
وذاك القوي الأمين يقول مُناجياً ربّـه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
وقد أخبر النبي صلى الله عليه على آله وسلم أن رجلا وجد غصن شوك على الطريق فأخّـره ، فشكر الله له فغفر له . رواه البخاري ومسلم
وقال – عليه الصلاة والسلام – : غُفِرَ لامرأة مومسة مرّت بكلب على رأس ركيّ يلهث كاد يقتله العطش ، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء ، فغُفِـر لها بذلك . رواه البخاري ومسلم .
وغفر لذلك الرجل ولتلك المرأة لأجل ما قام في قلوبهم من رحمة بالخلق ، وإيصال الإحسان إلى ألاخرين .
والمحبـــّــة عمل من أعمال القلوب
وقد يدخل العبد الجنة بسبب هذه المحبة ، وقد يدخل النار بسبب المحبة !
وقد يستغرب من يسمع هذا الكلام لأول مرة ، وسوف يتبيّن المقصود من ذلك .
أنــواع المحبـــة :
قال ابن القيم – رحمه الله – :
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع :
محبة الله ، ومحبة في الله ، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته .
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع : المحبة مع الله ، ومحبة ما يبغضه الله تعالى ، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها .
فهذه ستة أنواع عليها مدار محابِّ الخلق ، فمحبة الله عز وجل أصل المحابِّ المحمودة وأصل الإيمان والتوحيد ، والنوعان الآخران تبع لها .
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تبع لها .
ومحبة الصور المحرمة وعشقُها من موجبات الشرك .
وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد .
وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيداً كان أبعد من عشق الصور ، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ، ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه قال تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين ) فالسوء العشق ، والفحشاء الزنا ، فالمخلَص قد خلص حبه لله فخلّصه الله من فتنة عشق الصور ، والمشرك قلبه متعلق بغير الله لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل .
وقال – رحمه الله – في قوله صلى الله عليه على آله وسلم : لا يؤمن احدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين . رواه البخاري ومسلم .
قال : فذكر في هذا الحديث أنواع المحبة الثلاثة ، فإذاً المحبة إما :
محبة إجلال وتعظيم ، كمحبة الوالد .
وإما محبة تحنن وود ولطف ، كمحبة الولد .
وإما محبة لأجل الاحسان وصفات الكمال ، كمحبة الناس بعضهم بعضا ، ولا يؤمن العبد حتى يكون حبّ الرسول عنده اشد من هذه المحاب كلها .
وقال : فلا عَيْبَ على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع لـه من محبة الله ورسوله ، وزاحم حبه وحب رسوله ، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة ، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة . انتهى
ولذا لما سُئل – عليه الصلاة والسلام – عن أحب الناس إليه قال : عائشة . كما عند الترمذي .
وكان النبي صلى الله عليه على آله وسلم يقول : حُبب إليّ من الدنيا النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة . رواه الإمام أحمد وغيره .
ومحبةُ الله عز وجل ومحبّةُ رسوله صلى الله عليه على آله وسلم أعلى مراتب المحبة .
وكل إنسان يستطيع أن يقول : إنه يُحب الله ورسوله ، ولكن ما مدى صحة هذا القول ؟ ورصيده في القلب
ولذا كان بعض السلف يقول : ليس الشأن أن تُحب الله ، ولكن الشأن أن يُحبّـك الله .
لأن الله عز وجل يُحب من كل وجـه لعميم إحسانه وجوده ، ومزيد كرمه وإنعامه على العباد .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
ليس العجب من مملوك يتذلل لله ويتعبد له ولا يمل من خدمته ، مع حاجته وفقره اليه ، إنما العجب من مالك يتحبب الى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد اليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه .
كفى بك عزاً أنك له عبد *** وكفى بك فخراً أنه لك رب … انتهى .
ولله در القائل :
ومما زادني شرفـاً وفخـراً *** وكِدت بأخمصي أطـاُ الثريـا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّـرت أحمد لي نبيّـا
والله عز وجل يُحِب ويُحَب ، وقد أثبت ذلك سبحانه فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
والله عز وجل يُحَب من كل وجه لعميم جوده وإحسانه ، وسابق فضله وامتنانه .
والنبي صلى الله عليه على آله وسلم يُحَب لما هدانا الله عز وجل به ، ولِحرصه صلى الله عليه على آله وسلم على أمته ، حتى يقف في أشد المواقف يوم يفر المرء من أخيه وصاحبته وبنيه وأمه وأخيه وهو – عليه الصلاة والسلام – يقول : أمتي أمتي .
ومحبة الله عز وجل ومحبةُ رسوله صلى الله عليه على آله وسلم من أفضل القربات وأجل الطاعات
ولذا لما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : وما أعددتَّ للساعة ؟ قال : حب الله ورسوله . قال : فإنك مع من أحببت .
قال أنس بن مالك – رضي الله عنه – : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : فإنك مع من أحببت .
قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم ، وإن لم أعمل بأعمالهم . متفق عليه .
ومحبة الله ورسولِه صلى الله عليه على آله وسلم شافعة للعبد
روى البخاري عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حمارا ، وكان يُضحك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشَّراب ، فأُتِيَ به يوما فأمر به فجُلد فقال رجل من القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحبُّ الله ورسوله .
ومحبةُ الله ورسوله أعلى وأشرف أنواع المحبة ، ولذا تطلّع لها الصحابة – رضي الله عنهم –
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله علي يديه يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال :فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها . قال : فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا : هو يا رسول الله يشتكى عينيه . قال : فأرسلوا إليه . فأُتيَ به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا لـه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية .
ولذا قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ . كما عند مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – .
لا لأجل الإمارة ولكن لأجل هذه المنزلـة العالية الرفيعة ( يحبّ الله ورسوله ويُحبُّـه الله ورسوله )
وبالمحبة يتبوأ المتحابُّون أعلى المراتب
قال – عليه الصلاة والسلام – : إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي . رواه مسلم .
وقال – عليه الصلاة والسلام – : قال الله عز وجل : المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء . رواه الترمذي وصححه .
وحدّث أبو مسلم الخولاني فقال : دخلت مسجد حمص فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا فيهم شاب أكحل العينين براق الثنايا ساكت فإذا امترى القوم في شيء أقبلوا عليه فسألوه ، فقلت لجليس لي : من هذا ؟ قال : هذا معاذ بن جبل . فوقع له في نفسي حبّ ، فكنت معهم حتى تفرقوا ، ثم هجّـرت إلى المسجد ، فإذا معاذ بن جبل قائم يصلي إلى سارية فسكتُّ لا يكلمنى ، فصليت ثم جلست فاحتبيت برداء لي ، ثم جلس فسكت لا يكلمنى وسكت لا أكلمه ، ثم قلت : والله انى لأحبك . قال : فيم تحبني ؟ قال : قلت : في الله تبارك وتعالى . فأخذ بحبوتي فجرّني إليه هنية ، ثم قال : أبشر ان كنت صادقا . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء . قال أبو مسلم : فخرجت فلقيت عبادة بن الصامت فقلت : يا أبا الوليد ألا أحدثك بما حدثني معاذ بن جبل في المتحابين ؟ قال : فأنا أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه إلى الرب عز وجل قال : حقّـتْ محبتي للمتحابين فيّ ، وحقّـتْ محبتي للمتزاورين فيّ ، وحقّـتْ محبتي للمتباذلين فيّ ، وحقّـتْ محبتي للمتواصلين فيّ . رواه الإمام أحمد .
وضمن السبعة الذين يُظلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :
رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه .
يعني جمعتهم المحبة في الله فاجتمعوا عليها ولم يُفرّقهم ولم يقطع هذه المحبة إلا الموت ، أو انقطاع سببها .
ومن المحبة النافعة الحب في الله ، فتكون العلاقات بين الناس والحب لا لأجل القرابة فحسب ، ولا لأجل توافق الطباع وارتياح كل شخص للآخر .
فالمؤمن يُحب لأجل إيمانه ، لا لجنس ولا لِلون ولا لبلد مُعيّن ، وإنما يُحب في الله ولله .
حتى نسمع عن الرجل الصالح أو المرأة الصالحة فتحبّهم قلوبنا وإن لم نعرف أشخاصهم .
ويجب أن تكون المحبة بين المتحابين خالصة لله ، ولذا قال – عليه الصلاة والسلام – : لا تُصاحب إلا مؤمناً . رواه أبو داود والترمذي
فإن المحبة إذا كانت خالصة لله عز وجل نفعت صاحبها وحُشِر مع من أحبّ .
وأما المؤمن العاصي فإنه يُحب بقدر ما عنده من إيمان ويُبغض بقدر ما عنده من مُنكرات وعصيان
فيجتمع فيه حبٌّ وبغض في آن واحد .
وأما الكافر فيُبغض ويجب أن يُبغض ، ولو أحسن إلينا فإن التعامل شيء ، وكون المحبة في القلب شيء آخر .
وعلامتها :
علامة المحبة التي تكون لله أنها لا تزيد بالإحسان ، ولا تنقص بالإساءة .
مقياس المحبة :
وإذا أردتِ أن تعرفي صدق محبتك لله ولرسوله صلى الله عليه على آله وسلم فانظري في نفسك في تعظيم أمر الله عز وجل وأمرِ رسوله صلى الله عليه على آله وسلم .
ما مدى تعظيمك لله ولرسوله صلى الله عليه على آله وسلم ؟؟
وما مدى استجابتك لله ولرسوله صلى الله عليه على آله وسلم ؟؟
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – :
تعصي الإله وأنت تزعم حُبَّـه *** هذا محال في القياس شنيع
لو كان حبُّـك صادقـا لأطعته *** إن المحب لمن يُحبُّ مطيع
وأبلغ منه وأصدق قوله سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
فاتِّـباع النبي صلى الله عليه على آله وسلم دليل على محبة الله ورسوله صلى الله عليه على آله وسلم .
ولذا تفانى الصحابة – رضي الله عنهم – في محبة النبي صلى الله عليه على آله وسلم حتى قدّموا أرواحهم رخيصة دون روحه فيقول قائلهم : نحري دون نحرك يا رسول الله ، ويقول آخر : نفسي لنفسك الفداء .
وقد وقف عروة بن مسعود مذهولا وهو يرى تفاني الصحابة – رضي الله عنهم – في محبة النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، وكان عروة بن مسعود آنذاك مُشركا جاء يُفاوض النبي صلى الله عليه على آله وسلم يوم الحديبية ، فلما رجع إلى قومه قال : أي قوم . والله لقد وفَدْتُّ على الملوك ووفَدتُّ على قيصر وكسرى والنجاشي والله إنْ رأيتُ ملِكاً قط يعظمْه أصحابُه ما يعظمُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا . رواه البخاري .
ونحن اليوم نُدعى للتمسّك بِسُـنّـته صلى الله عليه على آله وسلم لا لتقديم أرواحنا ، فنتأخّر ونتوانى ونُتبِع أنفسنا هواها .
===============
وكما أن العبد يدخل الجنة بسبب المحبة فقد يدخل النار بسبب المحبة
كالذي يُحب غير الله كحُبِّ الله .
قال سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ )
وعلامة هذه المحبة
أن يُقدّم رضا المحبوب على رضا الله
وتُقدّم طاعته على طاعة الله ، ورغبته ومُراده على مُرادِ الله
وتقدم قول ابن القيم : والمحبة الضارة ثلاثة أنواع : المحبة مع الله ، ومحبة ما يبغضه الله تعالى ، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها . انتهى .
ولذا حرّم الله عز وجل محبة الكفار بل نفى الإيمان عمن وادّ الكفار وأحبّهم ، فقال : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
فالكافر يجب أن يُبغض – كما تقدّم – ولا يجتمع حبّ الله وحب رسوله مع حب الكفار في قلب عبد أبدا .
فمن أحب الكفار فقد ضاد الله عز وجل ؛ لأن الله يُبغض الكفار ولذا مَقَتهم وأبغضهم .
فكيف يطيب لمسلم أن يُحب ما أبغضه الله ومن أبغضه الله ؟؟
وكيف يطيب لمسلم أن يوادّ الذين قالوا على الله قولاً عظيما ؟؟ فزعموا له الصاحبة والولد ؟
( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا )
وقد يُشكل على البعض قوله سبحانه : ( إنك لا تهدي من أحببت )
وهذه الآية نزلت في أبي طالب فكيف تُثبت محبة النبي صلى الله عليه على آله وسلم لأبي طالب ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن هذه محبة فطرية ، تكون بين القريب وقريبه ، كما تكون بين الرجل وزوجته لو كانت نصرانية أو يهودية ، وهي لا تضاد الإيمان .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه على آله وسلم كان يُحب الهداية لأبي طالب ، ولذا كان النبي صلى الله عليه على آله وسلم يُعيد على أبي طالب ويقول له : يا عم قل ” لا إله إلا الله ” حتى مات أبو طالب على الكفر – نسأل الله السلامة والعافية – .
وقد قال الله عز وجل في إبراهيم الخليل – عليه الصلاة والسلام – : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ )
ومن المحبة الضارة الإعجاب ، وهو يدخل تحت قولِ ابن القيم – رحمه الله – في أنواع المحبة الضارة :
ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها .
فيدخل في هذا الباب وتحته : الإعجاب .
فالإعجاب الذي يكون بين الطالبات ما هو إلا صورة من صور العشق المحرّم .
وهو إما يُضعف محبة الله في قلب الفتاة وإما يُنقصها وإما يقطعها تماماً .
وقد تكون المحبة في أعلى درجاتها موصلة إلى العداوة
قال سبحانه : ( الأَخِلاّء يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ )
فالخُـلّـة هي أعلى درجات المحبة ، ومع ذلك تنقلب يوم القيامة إلى عداوة ؛ لأنها لم تكن لله عز وجل .
ومَنْ كان كذلك فإنه يأتي يوم القيامة نادماً مستحسراً على تلك الصداقة والعلاقة والمحبة ، ويتمنّى أنه ما اتخذ ذلك الشخص خليلا وصديقا .
قال سبحانه : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا )
فهو قد أدرك ضرر تلك العلاقة والمحبة والخُلّـة ، وندم ولكن حين لا ينفع الندم ، وتحسّر في وقت لا تُجدي فيه الحسرات .
فاجعلي أعمالك كلها لله – عز وجل – فإنما يُستكمل الإيمان بذلك .
قال – عليه الصلاة والسلام – : من أعطى لله ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، وأنكح لله ، فقد استكمل إيمانه رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال : هذا حديث حسن .
وبهذا العمل تجدين حلاوة الإيمان .
قال صلى الله عليه على آله وسلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ؛ من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار . متفق عليه .
وفي رواية : ثلاث من كن فيه وَجَدَ طَعْمَ الإيمان ؛ من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما ، ومن كان أن يلقى في النار أحبَّ إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه .
وقال – عليه الصلاة والسلام – : من سرّه أن يجد حلاوة الإيمان ، فليُحبّ المرء لا يُحبّه إلا لله . رواه أحمد وغيره ، وقال الألباني : حسن .
أُلْقِيَت في عام 1423 هـ
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم