التحذير مِن القول على الله بغير عِلْم
يجب على المسلم أن يَحذر مِن القول على الله بغير عِلْم ، أو أن يُفتي بغير دليل ، فإن الله تعالى قَرَن القول عليه بِغير عِلْم بالشرك به تبارك وتعالى ، فقال : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) .
فقد قَرَن الله القول عليه بِغير عِلْم بالشرك به سبحانه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لِمعاذ رضي الله عنه : وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم . رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي . وصححه الألباني والأرنؤوط .
قال ابن عبد البر : والمراد بحصائد الألسنة : جزاء الكلام المحرم وعقوباته ؛ فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ؛ فمن زرع خيرا مِن قول أو عمل ، حصد الكرامة ، ومن زرع شرًّا مِن قول أو عمل ، حصد غدا الندامة .
وظاهر حديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل به الناس النار النطق بألسنتهم ؛ فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهي أعظم الذنوب عند الله عز وجل ، ويدخل فيها القول على الله بغير علم ، وهو قَرين الشرك ، ويدخل فيها شهادة الزور التي عَدَلت الإشراك بالله عز وجل ، ويدخل فيها السحر والقذف وغير ذلك مِن الكبائر والصغائر ، كالكذب والغيبة والنميمة ، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالبا مِن قول يقترن بها يكون معينا عليها . اهـ .
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : مَن عدّ كلامه مِن عَمله ، قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه .
قال ابن رجب : وهو كما قال ؛ فإن كثيرا من الناس لا يَعدّ كلامه مِن عمله ، فيُجازف فيه ولا يتحرى . اهـ .
والْكَذِبُ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسَ كَالْكَذِبِ على غيرِهِ ؛ لأنَّ الكَذِبَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينٌ وتشريعٌ .
قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ . رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ .
روى الإمام مسلم في مقدِّمة صحيحه من طريق أبي عقيل ، صاحب بهية ، قال : كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ، ويحيى بن سعيد ، فقال يحيى للقاسم : يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك ، عظيم أن تُسأل عن شيء مِن أمْر هذا الدِّين ، فلا يوجد عندك منه علم ، ولا فَرج ، أو علم ، ولا مَخرج ، فقال له القاسم : وعَمّ ذاك ؟ قال : لأنك ابن إمامي هدى . ابن أبي بكر ، وعمر ، قال : يقول له القاسم : أقبح مِن ذاك عند مَن عَقل عن الله أن أقول بغير علم ، أو آخذ عن غير ثقة ، قال : فسكت فما أجابه .
وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يُورث جلساءه مِن بعده ( لا أدري ) حتى يكون أصلا في أيديهم ، فإذا سُئل أحدهم عمّا لا يدري قال : لا أدري.
وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . قلت : ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم . (تفسير القرطبي )
قَالَ الأَعْمَشُ: مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ قَطُّ: حَلالٌ وَلا حَرَامٌ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ : كَانُوا يتكرهونَ، وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ . رواه الدارمي .
قَالَ الإمامُ مَالِكُ : لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حرامٌ، ولَكِنْ يقولونَ إِيَّاكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لأَصْنَعَ هَذَا.
قَالَ القرطبيُّ : وَمَعنى هذا : أنَّ التحليلَ والتحريمَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَوْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ مِنَ الأعيانِ، إلاّ أنْ يَكُونَ الباري تَعَالَى يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ. وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ: إِنِّي أَكْرَهُ كَذَا . وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ اقْتِدَاءً بِمَنْ تقدمَ مِن أهلِ التقوى . اهـ .
قال الإمام مالك رحمه الله : ما شيء أشدّ عليّ مِن أن أُسْأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله . ولقد أدركت أهل العِلم والفقه بِبَلَدِنا وإن أحدهم إذا سُئل عن مسألة كأن الموت أشْرَف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يَشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وَقَفوا على ما يَصيرون إليه غدا لَقَلَّلُوا مِن هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعَلِيًّا وعامة خيار الصحابة كانت تَرِد عليهم المسائل – وهم خير القرن الذى بُعِث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم – وكانوا يَجْمَعُون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويَسألون ، ثم حينئذ يُفْتُون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فَخْرهم الفُتيا ؛ فَبِقَدْر ذلك يُفْتَح لهم مِن العِلم .
قال الإمام النووي في ” مقدّمة المجموع ” :
وروينا عن السلف وفضلاء الْخَلف مِن التوقُّف عن الفُتيا أشياء كثيرة معروفة نَذْكُر مِنها أحْرُفا.
وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال : أدركت عشرين ومائة مِن الأنصار مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأل أحدهم عن المسألة فَيَرُدّها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى تَرْجِع إلى الأول .
وفي رواية : ما مِنهم مَن يُحَدِّث بِحَدِيث إلاَّ وَدّ أن أخاه كَفَاه إياه ، ولا يُسْتَفْتَى عن شئ إلاَّ وَدّ أن أخاه كَفَاه الفُتْيا . اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في كلام له نفيس : لا ينبغي أن يُقال : هذا حُكم الله ، وقد نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمِيرَه بُرَيدة أن يُنزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله ، وقال : فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك .
فتأمل كيف فَرَّق بَيْن حُكم الله وحُكم الأمير الْمُجْتَهد ، ونَهى أن يُسَمَّى حُكم الْمُجْتَهِدين حُكم الله ، ومِن هذا لَمَّا كَتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُكْما حَكَم به ، فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر ، فقال : لا تَقُل هكذا ، ولكن قُل : هذا ما رَأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .
وقال ابن وهب : سَمِعْتُ مَالِكًا يقول : لم يكن مِن أمر الناس ولا مَن مضى مِن سَلَفنا ولا أدركت أحدا اقْتَدِى به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام ، وما كانوا يجترئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نَكْرَه كذا ، ونَرى هذا حسنا فينبغي هذا ، ولا نرى هذا ، ورواه عنه عتيق بن يعقوب وزاد : ولا يقولون : حلال ولا حرام ، أما سَمِعْتَ قول الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْق فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) الحلال ما أحَلّه الله ورسوله ، والحرام ما حَرَّمه الله ورسوله .
وقد يُطلق لفظ الكراهة على الْمُحَرَّم .
قلت : وقد غلط كثير من المتأخرين مِن أتْباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك حيث تورّع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم ، وأطلقوا لفظ الكراهة ، فنفى المتأخِّرون التحريم عما أطْلَق عليه الأئمة الكراهة ، ثم سَهل عليهم لفظ الكراهة وخفّت مُؤنته عليهم ، فَحَمَله بعضهم على التنْزِيه ، وتجاوَز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى ، وهذا كثير جدا في تصرفاتهم ، فحصل بسببه غَلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة . اهـ .
ومَن أفتى غيره بغير عِلْم تحمّل الإثم ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : من أُفْتِي بِغير عِلم كان إثمه على مَن أفتاه . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه . وحسّنه الألباني .
وسبق :
هل نقول “الشيخ حَرّم الأمر” ، أم نقول “أفتى بتحريم ذلك الأمر” ؟
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=4863
ما حكم قول : ما حكم الشرع .. أو : ما حكم الدِّين .. ؟
http://al-ershaad.net/vb4/showthread.php?t=5131
خطورة القول على الله بِغير عِلم
وبالله تعالى التوفيق .