ألا تُـغطـُّون عنـّا أست قـارئكم !
كم هي عزيزة تلك الأمة التي أعزها الله فسادت الأرض في سنوات قليلة، أمَـا إنها ما عـزّت ولا سادت بالمال ، بل كانت أقل الأمم أموالاً، حتى كان إمامهم – أحياناً – إذا سجد بَـدَتْ عورته !
قال عمرو بن سلمة رضي الله عنه :كنا بماء ممـرّ الناس ، وكان يمـر بنا الركبان فنسألهم : ما للناس ما للناس ؟! ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله أرسله ! أُوحي إليه أو أوحى الله بكذا !
فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري ، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه ، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق ، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم ، فلما قدم قال : جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا ، فقال : صلُّوا صلاة كذا في حين كذا ، وصلوا صلاة كذا في حين كذا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا ، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مِـنِّـي لما كنت أتلقى من الركبان ، فقدموني بين أيديهم وأنا بن ست أو سبع سنين ! وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عـنِّـي ، فقالت امرأة من الحي : ألا تغطُّـون عـنّـا أست قارئكم ؟! فاشتروا فقطعوا لي قميصا ، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص . رواه البخاري .
أي حافظة تلك حافظة ذلك الصبي الذي حفظ مما يُذكر أنه نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟وأي غلام نبيه ذلك الذي كان يحفظ ويعقل قبل سن السابعة ؟وأي أمـة تلك التي سادت الدنيا ويتقدّمها ابن السابعة ؟بل أي أُمـة تلك التي يتقدّمها صبي تبدو عورته إذا سجد ؟
وهذا مثال آخر من حال تلك الأمة التي لم تلتفت للدنيا ولم تتكالب عليها
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله جئت أهب لك نفسي ، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست ، فقام رجل من أصحابه فقال : يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها ، فقال : فهل عندك من شيء ؟
فقال : لا والله يا رسول الله ! فقال : اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا ، فذهب ثم رجع فقال : لا والله ما وجدت شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر ولو خاتم من حديد ، فذهب ثم رجع فقال : لا والله يا رسول الله ، ولا خاتم من حديد ، ولكن هذا إزاري – قال سهل : ماله رداء – فلها نصفه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تصنع بإزارك ! إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء ، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدُعي ، فلما جاء قال : ماذا معك من القرآن ؟ قال : معي سورة كذا وسورة كذا عدّدها ، فقال : تقرؤهن عن ظهر قلبك ؟ قال : نعم . قال : اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن .
رجل لا يجد سوى إزار ليس معه رداء !
رجل لا يجد سوى ما يستر به عورته !
وهذا مثال ثالث :
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه ، فنقبت أقدامنا ، ونقبت قدماي ، وسقطت أظفاري ، وكنا نلفّ على أرجلنا الخرق ، فسميت غزوة ذات الرقاع ، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا . رواه البخاري ومسلم .
أولئك أي رجال كانوا ؟
لم يضرّهم أن حفيت أقدامهم
ولم يغضّ من قدرهم أن عريت أجسادهم
أو إن افتقروا فلم يجدوا ما يُنفقون
أو إن جاعوا فلم يجدوا ما يأكلون
ولكنهم طوّعوا الأحمر والأبيض والأسود لِدين حملوه
فهم حَـمَـلَـة مبادئ ، لا أصحاب مظاهر فحسب !
ذلكم هو الجيل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه
وذلكم الجيل هو الجيل الذي أصاخ له سمع الدنيا
وذلكم الجيل الذي تربّى على سمع وبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم
وذلكم الجيل الذي عاش القرآن وتمثـّـله
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا أُخيّ المجامع !
أما إني لو أردت أن أسوق شيئا من أخبارهم في فقرهم وجوعهم ومسغبتهم لطال بنا المقام
ولكن حسبك أن إمام القوم وسيدهم وقدوتهم – صلى الله عليه وسلم – يمر عليه الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبياته نار . كما في الصحيحين .
ويكفيك أن تعلم أن سرية مكونة من ثلاثمائة فارس ليس لهم طعام سوى تمرة واحدة لكل فارس في كل يوم !
( وسبق خبر السرية في موضوع : من عجائب المخلوقات )
أين الذين يُنادون بتحجيم المقاطعة !
وأن ضررها علينا أكبر !
أين هو من هذه النماذج الشامخة الباسقة الضاربة جذورها في تخوم التاريخ ؟!!
الأمة اليوم لا ينقصها مال ولا تنقصها ثروات
وإنما تنقصهـا قـُــــــــدوات .
قـُـدوات صالحـــة
في زمن الغثائية والافتقار إلى القـُـدوات
في زمن تعيش فيه الأمة انفصاماً بين أولها وآخرها
بين عزّها ومجدها وبين أجيالها الحاضرة
إننا نحتاج فعلاً إلى قـُــــــــدوات
فـ
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً *** يُشيّدون لنا مجـداً أضعناه
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم