أصـابتني جـنابــة … !
أنـحـى عليّ صاحبي باللائمـة معاتبـاً … فقال : وأنت … وأنت … وأنت … فقلت : على رسلك اُخـيّ . قال : ولِـمَ ؟ وأنت من أنت !
فقلت : أذكـر ( أصـــابتني جـنابـــــــــة ، ولا مــاء )
قال : هل تعني أنك كنت جنـباً ؟ قلت : لا . لا لهذا أشـرتُ ، ولا إليه أومـأتُ . فردّ عليّ : ما فهمت إذاً . قلت : إن من خـُـلـُـق نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنه كان يُبادر بالسؤال قبل التعنيف . قال : البيّـنة على ما تقول . قلت : البينات أشهر من أن تذكر . وخذ على سبيل المثال .
ما ذكرته آنفا ( أصـــابتني جـنابـــــــــة ولا ماء ) .
قال : هل من توضيح ؟ قلت : على الرحب والسـّـعة . ولكن القصة طويلة ، وأقتصر فيها على الشاهد . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فلما صلى رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَـلِّ في القوم ، فقال : يا فلان ! ما منعك أن تصلي في القوم ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك . رواه البخاري ومسلم .
فلم يُبادر ذلك الرجل بالإنكار قبل الاستفسار .
وهاك مثالاً آخر :
صلى النبي صلى الله عليه وسلم في حجته صلاة الصبح في مسجد الخيف في منى ، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه ، فقال : عليّ بهما . فجئ بهما ترعد فرائصهما ، فقال : ما منعكما أن تصليا ؟ فقالا : يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا . قال : فلا تفعلا . إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
وتريد مثالاً ثالثاً ؟
قال : نستفيد .
لما بعث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه رسالة إلى أهل مكة يُخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم . أردت أن يكون لي عند القوم يَـدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، ولا تقولوا له إلا خيرا . متفق عليه .
وخذ مثالاً رابعا :
لم يقتصر السؤال والاستفسار على أصحابه ، بل تعداهم إلى الأعداء الأباعد . ومن ذلك : أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة ، فأرسل إليها ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قالت : أحببت أو أردت إن كنت نبيا ، فإن الله سيطلعك عليه ، وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك . رواه البخاري ومسلم .
ثم كان هذا هدي أصحابه من بعده ، أي أنهم يستفسرون قبل أن يُعاتبوا أحداً .
حـدّث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال : مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد فسلّـمت عليه ، فملأ عينيه منى ثم لم يرد على السلام ، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ! هل حدث في الإسلام شيء ؟ مرتين . قال : لا . وما ذاك ؟ قال : قلت : لا . إلا أنى مررت بعثمان رضي الله عنه آنفا في المسجد فسلمت عليه ، فملأ عيينة منى ، ثم لم يرد علي السلام . فأرسل عمر رضي الله عنه إلى عثمان رضي الله عنه ، فدعاه ، فقال : ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟
قال عثمان رضي الله عنه : ما فعلت . قال سعد : بلى . قال : حتى حلف ، وحلفت . قال : ثم إن عثمان رضي الله عنه ذكر ، فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه . إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشّى بصري وقلبي غشاوة . قال سعد : فأنا أنبئك بها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من هذا ؟ أبو أسحق ؟
قلت : نعم يا رسول الله . قال : فـَـمَـهْ ؟ قال قلت : لا والله ، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك . قال : نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له . رواه بطوله الإمام أحمد – رحمه الله – وهو حديث حسن .
وهذا مثال آخر من حياة أصحابه عليهم الرضوان ، من أنهم كانوا يستفسرون قبل المعاتبة .
استأذن أبو موسى رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه ثلاثا ، فكأنه وجده مشغولا ، فرجع ، فقال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ ائذنوا له . فدُعي له ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : إنا كنا نؤمر بهذا . قال : لتقيمن على هذا بينة أو لأفعلن . فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار . فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا . فقام أبو سعيد فقال : كنا نؤمر بهذا . فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ألهاني عنه الصفق بالأسواق . متفق عليه .
ومثال ثالث رواه رواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انصرف من صلاة العصر ، فلقي رجلا لم يشهد العصر ، فقال عمر : ما حبسك عن صلاة العصر ؟ فذكر له عذراً ، فقال عمر : طـَـفـفـتَ .
ولست أريد استقصاء الأدلـة والأمثلـة ، ولكن في الإشارة عبارة
وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .
وفي هذا كفاية وعظة وعبرة. قبل أن تلقي باللائمـة على أخيك أو تعنـِّـفه استفسر واسأل ، فربما كان له عذر وأنت لا تدري .
قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه : ولا تظنن بكلمة خرجت من امـرئ مسلم شرّاً ، وأنت تجد لـه في الخير محملا .
قال جعفر بن محمد : إذا بلغك عـن أخيك الشيء تنكره ، فالتمس لـه عذراً واحداً إلى سبعين عذراً ، فإن أصبته وإلاّ قـُـل : لعل له عذراً لا أعرفه
وقال محمـد بن سيرين : إذا بلغـك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فقل له عذر .
كتبه : فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم